

في ذكرى رحيل الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح
أمل الجبوري/ لندن
من أعقدِ وأشدِ اللحظاتِ مرارةً تلك التي تُفْقدُ الإنسانَ المقدرةَ على رثاءِ مَن يحب، هي لحظاتُ فقدانِه أحبةً تصوَّر أنهم أزليون، لا يمكن أن يكونوا في دارٍ لا يصلها الحي إلا بعد الموت، لذلك مرت ثلاثون عامًا دون أن أتمكن من كتابةِ كلمةً واحدةً أرثي بها والدي رحمه الله، والحالُ نفسُه مع الكتابة عن الصديق شاعر اليمن الكبير عبد العزيز المقالح، الذي لولا قول ربنا لنبيه «إنك ميت وإنهم ميتون» لما أيقنّا وتقبَّلنا هذا الحق الذي أغلب الناس له كارهون.
سأتناول مراحل أظنها مهمةً في تقديمِ صورةِ الأنسانِ الكبيرِ في شخصية الشاعر، لأنّ المقالح قد جمع، وبجدارة، شرفَ النفسِ وشرفَ الكتابةِ المبدعةِ، وهذه ميزةٌ نادرةٌ في أن يجمعها شاعرٌ في عصرنا الظلامي هذا .
تمتد معرفتي بالمقالح أكثر من ثلاثين عامًا، فحينما ذهبت في أولِ زيارةٍ لي لباريس عام ٠٩٩١ قبل شهرين من زلزالِ احتلالِ العراق للكويت، كنت أحملُ قصائدَ شعراءِ الجيلِ الثمانيني الذي أنتمي إليه لأقدِمُها هديةً إلى الشاعر ادونيس، فكان أولَ مَعْلمٍ حضاريٍ أتعرف إليه في تلك المدينةِ هو ادونيس، الذي شَعَرَ بشعفي للتعريف بالشعراءِ العراقيين الشباب، لذا اقترح عليّ أن أخبر من أعرفهم لكي يحضروا فعاليات مؤتمر الشعر العربي والاسباني الأول في العاصمة اليمنية صنعاء في شهر تموز ٠٩٩١، وقد وجدتها فرصة ذهبية للتعرفِ عن قربٍ على خارطةٍ أوسعِ للشعراء العرب والاسبان، الذين كنا نعرفُ العديدَ منهم من خلال كتاباتِهم.
من مطار بغداد الى صنعاء
مرت الأيام، حتى وجدنا أنفسَنا في مطار بغداد، أنا وزميلتي الشاعرة دنيا ميخائل، التي شاركتني هذه المغامرة التي لم نكن نحسب عواقَبها ولم نخطط لها أبدًا؛ لأن تفكيرنَا كان منصبًّا في بوصلةٍ واحدةٍ هي الشعر. شاهدت بالمصادفة الشاعر عبد الوهاب البياتي في مطارِ بغداد أيضًا، وهو صديق لي ولأسرتي منذ الثمانينيات، فتعجب من وجودنا وراح يسألني أين وجهتك؟ أجبته: إلى اليمن لحضور مهرجان الشعر العربي الاسباني، فابتسم قائلًا لنا بصوتٍ منخفضٍ: ”جميلٌ، إذًا سنراكما هناك”، ولكن ما أن انتهى من جملته هذه، حتى جاء شعراءٌ آخرون، كان بعضُهم يترأسُ الصحيفةَ الرسميةَ، والبعض الآخر شغلوا مناصبَ إداريةٍ في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. نظروا إلينا باستغرابٍ، من توقيت وجودنا معهم، متسائلين أيضا عن وجهة سفرنا، لكنَّ إجابتَنا جعلتْ نظرَتَهم تكشف عن شيء غير مريح، والظنُ كلُّه، هو النظرة الفوقية التي كان يتعاملُ بها بعضُ شعراءِ الأجيالِ السابقةِ مع الشعراء، من أمثالنِا تحديدًا، من شعراء قصيدة النثر.
لذلك أصبحت الساعاتُ التي أقلتنا في الطائرةِ، طويلةً وثقيلةً، بثقل الهمِ، حينما يجثم في القلوب؛ ولا نعرفُ ما الذي سنفعله أنا وصديقتي، إذ لم يكن في حُسْبَانِنا أبدًا أن يكون المؤتمر الشعري قد وجَّه دعواتٍ رسميةٍ لنخبةِ الشعراءِ العراقيين آنذاك، ولكنْ ما أن اقتربْنَا من الوصول والنزول من الطائرة، حتى تبدد شيءٌ من قلقي لأن مجموعةَ اليمنيين الذي كانوا في استقبالِ الوفدِ، والتي وقفت قربَ سلمَ الطائرةِ، ظنّت أننا أيضًا مع الشعراءِ المدعوين. وهكذا قادت المصادفةُ لأن يتعامل معنا المضيفُ اليمنيُ، وعلى رأسهم الشاعر المقالح، كجزءٍ من الوفدِ العراقي.
ولكن للأسف، فرحتي لم تستمر لأنه، على ما يبدو، قد قام أحدُ الشعراءِ الرسميين العراقيين بإخبار المنظمين اليمنيين، بأننا لا نمثل الوفدَ العراقي ( بالمناسبة الأمر لا يتعلق بموقفٍ سياسيٍ حتى لا يتصور القارئُ دورَ بطولةٍ وهميٍ لنا، فلم يكن هناك أحدٌ يجرؤ على ذلك؛ ولكن كما أشرت، لموقفهم السلبي من شعراءِ قصيدة النثر).
دور أخلاقي سام للمقالح
بالطبع، الموقف هذا، الذي لا نحسد عليه، أنا وصديقتي، جعلنا نقرر العودةَ الى بغداد على أولِ طائرةٍ، لكن المشكلةَ أن الطيران كان أسبوعيًا بين اليمن والعراق، لذلك صار وجودنا إجباريًا في المؤتمر الشعري… وهنا، لن أدخل في تفاصيلِ ما حدث، ولكن أبين للقارئ فقط دورَ المقالح الإنساني الأبوي، لأنه أشرف بنفسه، التي أبت إلا أن نُعاملَ بكلِ احترامٍ، وكأننا فعلًا من ضمن المدعوين الرسميين. ومن العراقيين الذين لعبوا دورًا أخلاقيًا في التخفيف عنا، كان الشاعرُ الكبيرُ علي جعفر العلاق والشاعر المغربي محمد بنيس، والشاعر البحريني قاسم حداد والشاعر اللبناني عباس بيضون وآخرون، ، فبعد ما أخبر المقالحَ برغبتي في توثيقِ وأَرْشَفَةِ فعاليات المؤتمر، رَحَّبَ المقالحُ بالفكرةِ، إذ وفر لي بالتعاون مع وزير الثقافة آنذاك، الشاعر حسن اللوزي، طاقمَ تصويرٍ كي أتمكن من العمل، على الأقل أكون مفيدةً في وجودي، وأوثق أحداثَ هذا اللقاء الشعري المهم. وبالفعل تم بث حلقةً خاصةً عنه في برنامج الغد الثقافي الذي يُعْنى بالأدباء الشباب، وقدمت نسخةً هديةً إلى التلفزيون اليمني.
ثم عدتُ إلى بغداد، لتتحول تلك الزيارةُ، بكل تناقضاتِها، وحلوِها ومرِها، إلى حبل السرة الذي يربط الأنسانَ بنبضِ الحياةِ. هكذا صنعتُ الأقدارُ بتلك المصادفة وبعنوانها الشعري علاقةَ محبةٍ راسخةٍ بيني وبين اليمن. والدورُ الأهمُ كان للمقالح، الذي كان شديدَ الحرصِ على أن يطلعَ ضيوفُ المهرجان ليس فقط على ما موجود من نتاجٍ ثقافيٍ مهم، لكنه مهملٌ من قِبَلِ إعلامِنا العربي، فكان يَود أن يخلق علاقةً رُوحيةً أزليةً بين أيّ زائرٍ غريبٍ وبين صنعاء، مدينته التي أحبها حتى كرِه الابتعادَ عنها، وقاطع السفر.
تلك العلاقةُ بين الغرباء عن صنعاء، سواء من العرب أم من الثقافات الأخرى، كانت منجزًا يضاف إلى منجزاتِ الشاعرِ الكبيرِ المقالح، تعبيرًا عن الوفاءِ ليمنِه وصنعائِه. فهداياه وعطاياه يتقدمها البُنُ اليمنيُ، العلامةُ الفارقةُ في هبات الخالقِ لهذا البلدِ الكريمِ؛ الذي كان أولَ ما يقدمه لهؤلاء الضيوف، وهو يتحدث بفخرٍ عن ريادةِ اليمن، وكرمِه، في منح العالم رائحةَ القهوة ومذاقَها الأصيل العابر للقارات.
مرت السنواتُ حُبلى بأحداث ما مر بالعراق بعد عام 1991، فوجدتُني أزورُ صنعاءَ ثانيةً بدعوةٍ من وزارة الثقافة اليمنية. ولكن كان الطريقُ إليها عام 1999 من منفاي الألماني في ميونخ، وليس من بغداد، فلابد من لقاءِ المقالحِ، وأن طالَ السفرُ إلى صنعاء، التي كانت زيارتي لها هذه المرة تحت ظرفٍ وسياقٍ تاريخيٍ مختلفٍ، إذ كان العراق والعراقيون يعانون قسوة الحرب والحصار، وإذا بصنعاءِ واليمن عمومًا يتحولان إلى المنقذ للعديد من أستاذة الجامعات العراقية والمدرسين وأسرِهم.
اليمن يحتضن الكفاءات العربية
اليمنُ الذي فتح حدودَه لهذه الكفاءات المهمةِ، التي حاصرها الجوعُ والرعبُ، فكانت تلك البلد العربية هي أولَ بلدٍ يرحبُ بالعراقيين دون شروطٍ مذلةٍ. ووفروا لهم فرصةَ العيشِ الكريمِ، وحفظوا كرامةَ العراقيين، حتى المعارضين منهم للنظام العراقي السابق، طالما لم يقترب العراقي المقيم من الشأن الداخلي اليمني فانه مرحب به. وفي هذا الإطار، الذي كان الشاعرُ الكبيرُ المقالحُ يشغل منصبَ رئيسِ جامعة صنعاء، لذلك كانت له اليدُ والفضلُ الكبيرُ، بعد الله، على صيانةِ وإدامةِ حياةِ الالاف من العراقيين، بتسهيل التعاقدِ معهم كأساتذةٍ في جامعة صنعاء، وأيضًا تسهيل فوج آخر في قبوله للعمل في جامعات أخرى. وفتح اليمنُ أبوابَه وقبلها قلبَه للعراقيين، وعلى وجه الخصوص المثقفين منهم وأساتذة الجامعة. وكان المقالح قليل الكلام، ولكنه أكثرهم فعلاً، الذي لعب دورًا كبيرًا في هذا الإطار، لما له من سطوةِ أخلاقيةٍ، وثقلٍ إبداعيٍ في اليمن، تهابُه السلطةُ السابقةُ، وأظن تهابه كذلك كلُ سلطةٍ، كونُه مثَّل، ومازال، الوجه الناصع للحكمة اليمانية ولكرمِ وصبرِ وخلقِ أهلِ اليمنِ وأصالتِهم.
لقد كانت زيارتي الثانية لصنعاء بدايةَ مخاضٍ لولادةِ حراكٍ ثقافيٍ عالميٍ احتضنته اليمنُ؛ إذ كان للمقالح دورٌ مهمٌ في السعي بكل ثِقَلِهِ المعرفيِّ، وحضورِه الإبداعِيِّ، لكي تتحقق هذه اللقاءاتُ والحواراتُ بين الشرق والغرب. وعمل ليلَ نهارٍ على نجاحها، كونَه آمن مثل هيردر، فيلسوف ألمانيا، الذي راهن على دورِ الشعرِ الحيوي في التعريفِ بثقافات الشعوبِ والتقريبِ بينها، لأن الشعر يبقى أكثرَ فاعليةً من السياسة. لذلك دعَّمَ فكرةَ الاستمرارِ في اللقاءات الشعرية العالمية، التي تُقَدِّمُ الشعرَ والثقافةَ العربيةَ أمام ثقافةٍ أخرى. ولتفعيل دورَ اليمنِ الرياديِّ الذي ابتدأه في عام 1990 في لقاء الشعر العربي الأسباني.
حكاية أول لقاء
فولد عام 2000 أولُ لقاءٍ شعريٍ ضمَّ الشعراءَ العربَ والألمان. وكان لليمن مرة أخرى، بصوت شاعرها المقالح، الذي بقي يُسْقِي هذه الفكرةَ، بكل ما يملك من دعم المسؤولين عنها، حتى دُهِشَ شاعرٌ كبيرٌ، مثل انتنسبيرغر، وهو يعتبر شاعرُ ألمانيا الأكبرُ، بما شاهده من جمالٍ وكرمٍ وإبداعٍ ثقافيٍ في اليمن، وأيضًا بتَعَرُّفِه والآخرون من الألمان على ثقافاتٍ متعددةٍ من الشعرِ العربيِ من خلال الشعراءِ العربِ الذين شاركوا. أتذكر في كلِ حادثةٍ كادت أن يُلْغَى المؤتمرُ بسببِها، كان المقالحُ بصوتٍ ثابتٍ واثقٍ يقول لي: ”لا تقلقي، سوف يكون كلُ شيء على ما يرام، حتى لو بقيت إلى آخر دقيقة، فاليمن حتى وإن كانت الاجراءات فيه بطيئةً، في بعض الأحيان، لكن يتحقق كلُ شيءٍ في آخر لحظة”. وفعلًا، كنا بدعمِه المعنويِّ، مع الشخصيات المؤثرة في القرار، نتمكنُ في آخر اللحظات من انجاز عرسٍ ثقافيٍ، بقي الألمان يستشهدون به كلَّما جاء الحديثُ عن الحوار العربي الألماني. فالدكتور عبد العزيز المقالح لم يكن فقط هو الابُ الروحيُ للأفكار، ولكن للإصرار على تحويل الحلمِ إلى حقيقة.
زيارة صاحب نوبل للأداب
ثم جاءت بعد ذلك زيارة غونتر غراس، الروائي الألماني الحائز على جائزة نوبل، لليمن عام 2002 قبل أشهر من بدء الحرب على العراق، ذلك الحدث الأبرز في عمر الثقافة العربية واليمنية على وجه الخصوص، وأيضًا في الثقافة الالمانية فيما يتعلق بالحوارِ الثقافيِّ الجادِ والمتفردِ، ليس فقط بحضورِ أسماءٍ كبيرةٍ من الكتاب العرب والألمان، أمثالِ محمود درويش، وادونيس، وآخرين، بل للحرية التي كانت سقفًا مفتوحًا في مناقشةِ أكثرِ القضايا حساسيةً وتعقيدًا في الواقع السياسي والعقائدي. وكان المقالح يحاول بسطوتِه الثقافية وأُبُوَتِه للمشهد الثقافي في اليمن تذليلَ العقبات العديدة، التي كانت أشبه بالمخاض، الذي شابه في فصوله اللقاءَ العربي الالماني الاول في اليمن ٠٠٠٢. فقد اشعلت تلك المهرجانات حروب بعض الكتاب الذين لم تتم دعوتهم وإشراكهم في الأحداث الثقافي آنذاك، خاصة من المقيمين في ألمانيا.
حيث كان يمتلئ بريدُ المقالح وغراس، ومن قبلهما شاعر ألمانيا الأكبر، انتنسنسبيرغر، برسائل مليئة بالشتائم والتهم، وهي تُشبه إلى حدٍ كبيرٍ التقاريرَ التي يكتُبُها المخبرون في الدولِ البوليسيةِ، من أجل إقناع غراس، وقبله انتنسبيرغر، بعدم زيارة اليمن، ورَفْضِ المشاركةِ في تلك اللقاءاتِ الثقافيةِ. فلم يختلف أبدًا الشاعر الكبير، المقالح، في سلوكِهِ، وموقِفِهِ الحضاري، عن زميليه الألمانيين، غراس وانتنسبيرغر، في رمي تلك التقارير في حاويات النفايات؛ و بعض النسخ التي احتفظت بها للكتابة عن تلك المرحلة التاريخية، التي انتصرت إرادة اليمن والثقافة على ظلامية ثقافة التضليل والتقسيط.
فقد أصر الشاعر المقالح على عدمِ الالتفاتِ إلى هؤلاء، والتركيز على تحقيقِ الهدفِ، وهو نجاحُ وتحقيقُ حوارٍ حقيقيٍ تحضر الثقافةُ العربيةُ، من خلال اليمن، كلُّها بأصالتها، وعراقتها، وجمالِ تنوعِّها. ولتأكيد حضورِ التنوعِ اليمنيٍ أيضًا، أصر غونتر غراس على تحقيقِ لقاءٍ بالمعارضة اليمنية في الداخل، وكان له ما أراد. وكانت شخصية جار الله عمر رحمه الله الذي اغتيل بعدها بشهورٍ، هي الشخصيةُ الأبرزُ في ذلك اللقاءِ. وقد طلب غراس أيضًا أن يتعرف على برنامجَ التأهيلِ والاندماجِ، الذي كانت قد شرعت فيه الحكومة اليمنية آنذاك بالنسبة لليمنيين الذي كانوا قد انضموا لتنظيم القاعدة، الذين كانوا في السجون اليمنية. وهذه القضيةُ أيضًا كانت حاضرةً في الزيارة الأولى، وكان للدكتور عبد الكريم الارياني رحمه الله دورًا في تسهيل اللقاء بأحد القضاةِ، الذين كانوا من الفاعلين على برنامج الاندماج واعادة التأهيل لهذه العناصر المتطرفة.
الحوار العربي الألماني من عدن
وحينما عرضنا على المقالح فكرةَ افتتاحِ الحوارِ العربِّي الألماني عام 2002، في الجنوب في العاصمة الاقتصادية للبلاد في عدن، كان متحمسًا وداعمًا، فوافق على الفور رغم أنه لم يحضر؛ بسبب عدم حبه مغادرةَ صنعاء. وقد بقيت هذه العادةُ ملازمةً له حتى رحيِلِهِ. بقي أن أقول: إنَّ لقاءات غونتر غراس والشاعر الدكتور المقالح، رغم وقوف اللغة عائقًا بين الاثنين، لكن ابتسامةَ المقالح، وَتَرْحِيبَهُ بغراس على طريقتِهِ، كانت العاملَ الأهم الذي ميز تلك اللقاءات بعفوية بصدق كبيرين.
وكانت الحوارات بينهما تدور كلُّها حولَ دعمِ الحوارِ الحضاري من خلال الإبداع والترجمة. وكانت أغلبُ المقترحات التي اقترحها غراس من أجل المشاركة في الحوار قد تم العمل عليها، من أجل أن يكون الحوارُ حوارًا حقيقيًا، يبتعد عن المهرجانات التي يعلو فيها صخبُ الكلماتِ والمدائحِ للحكوماتِ والسلطةِ.
وهناك أحداثٌ مهمةٌ حصلت أَوَدُّ الإشارة إلى بعضها لأهمية الدور الذي لعبه الشاعر المقالح فيها، فعلى سبيل لمثال لا الحصر، اللقاءُ مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح عام 2002، الذي لم يكن مخططًا له في برنامج افتتاح الحوار في صنعاء؛ فقد فوجئنا بعد انتهاءِ مراسيم الجلسةِ الصباحيةِ بتوجه سيارات المشاركين من الضيوف العرب والألمان إلى مبنى دارِ رئاسةِ الجمهوريةِ. كل ما قد كنت أُخبِرْتُ به قبل يومٍ من وصولٍ غراس لليمن أنَّ الرئيسَ سيقومُ بمنحِ غراس وسامًا مهمًا تقديرًا لمكانتِه الأدبيةِ ولدعمه للقضايا العربية؛ فطلبتُ من المقالح والدكتور عبد الكريم الارياني أن نستحصل على موافقة غراس أولًا قبل أن نقع في إحراجٍ إذا ما رفض غراس الوسام؛ لأنني كنت أعرف شخصيةَ الكاتبِ الألمانيِّ الحادةِ، وغير المجاملة لمثل هكذا تكريمٍ. وبالفعل وافق غراس، لكنَّه سألني سؤالًا عن ما إذا كان هناك سجناءُ رأيٍ في اليمن، أجبته، على حد علمي لا يوجد من الكتاب سوى روائيٌ شابٌ، هرب من اليمن خوفًا من الملاحقةِ القضائيةِ بسبب موضوعِ روايةٍ جديدةٍ له. ويبدو أن غراس كانت لديه بعضُ المعلومات عن تلك القضية؛ لذلك كانت هذه القضية من القضايا التي طلب طرحها على الرئيس. وكان المقالح داعمًا ومرحبًا بهكذا خطوةٍ، يمكن من خلالها أن تعيد كاتب يمني شاب وموهوب إلى وطنه، فتنتصر بذلك قوةُ الكلمةِ على قوى التطرفِ. وهذا ما حصل أثناء لقاءِ الوفودِ المشاركةِ العربيةِ والألمانيةِ بالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح.
الرئيس والوسام والكاتب الألماني
ولأنّ اللقاء كما ذكرت لم يتم إعلامي ولا إعلام الشاعر المقالح بتوقيته، لذلك حينما أخبرَ الرئيسُ صالح الكاتبَ الألمانيَّ بأنه سَيَمْنَحُهُ باسمِ اليمن وسامَ الإبداعِ، وهنا أشار إلى أحد مساعديه يسأل عن الوسامِ، فالتفتَ إلي السفيرُ اليمنيُ وهو يسألني إذا ما كنت أعرف شيئًا عن الوسامِ. في تلك اللحظة كاد قلبي أن يتوقف، فالحاضرون كانوا لا يعرفون ما الذي يجري، لأنني قبل يومٍ من الافتتاِح أَخْبَرْتُ المقالحِ بقلقي إذا ما اختفى الوسامُ، كما اختفتْ بعضُ وثائقِ المؤتمرِ. لذا طَلَبَ مني الاحتفاظَ بكلِ شيءٍ يتعلقُ بأدبياتِ الحوارِ في مكان إقامتي، ومنها الوسام بالطبع. المهم اضْطَرَنَا هذا الموقفُ المحرجُ إلى الهمسِ في أُذُنِ الراحل الدكتور عبد الكريم الارياني، المستشار السياسي للرئيس، والذي تصرف هو والمقالح بحكمةٍ فريدة من أجل كسب الوقت لجلب الوسام من مكان إقامتي، لذلك أخبرا الرئيس بأن غراس أيضًا هو شاعر، وليس روائيًا فقط، وهناك معرضٌ فنيٌ لأشعاره، سيكون باللغة العربية، والشاعرة أمل الجبوري هي من ترجمت القصائد، فهل تَوَد سماعَ بعضٍ منها؛ فاستدار الرئيسُ إليَّ مطالبًا إيايَ بإلقاء بعضٍ من قصائد غراس بالعربية، ولكني لم أكن مهيأة أبدا لهذا الأمر، فقلت للفنانة نضال الأشقر، التي كانت تجلس قبالتي، وكانت مدعوَّةً لإلقاء تلك القصائدِ بالعربية، لكنها أيضًا دُهِشَتْ من طلبي، فقالت لي لكي تتفادى القراءة: “أنت مترجمةُ القصائدِ والأفضلُ أن تقرئينها أنت”. وبالطبع كلُ هذا أكسبنا شيئًا من الوقتِ، وكل من كان يعرف بالذي يدور كان يتمنى لو حدثت المعجزة بوصول الوسام. وبالفعل بدأت أقرأ ببطء شديد والرئيس يقول لي بلهجة يمنية: ”ما لك.. خازية .. لماذا تقرأين هكذا”؟ لم أكمل النص الثاني وإذا بأحد الحراس يدخل الصالةَ وبيديه الوسام، وهنا تنفست أنا ومَن معيَّ من المسؤولين اليمنيين، الذين كانوا لا يعرفون كيف ستكون ردةُ فعلِ الرئيسِ صالح إذا عَرَفَ بالأمر، وهنا طرح غراس قضية وجدي الأهدل، فأجابه الرئيس بأن الدولةَ لم تكن هي من طالبت بسجنه، بل القضاء أصدر الحكم، وهو هرب، ولكن سنحاول أن نساعده بالعودة. للتاريخ، هذه حقيقةُ ما جرى في ذلك اللقاء الذي مازال بعضُ شهودِه أحياءً يرزقون. فهذا السببُ الحقيقيُ وراءَ الارتباكِ الذي أدى للتأخير في مراسيم منحِ الوسامِ الرئاسيِ للكاتبِ الألمانيِ غونتر غراس؛ وليس كما أشيع ونشر من قصصٍ كتبها أناسٌ لم يكونوا أصلًا من الحاضرين ذلك اللقاء، الذي لن أنسى ما حييت، هدَ المقالح في أكثرِ اللحظاتِ حرجًا وتعقيدًا، حيث علمنا أن القلقَ لن يجدي نفعًا؛ لأن ما هو حاصل سيكون حتمًا.
كلمة شهيرة في معرض فرانكفوت
بعد أن تكللتْ الحواراتُ العربيةُ الألمانية في زيارة غونتر غراس الأولى بالنجاحِ الكبيرِ، حتى تحول الكاتبُ الحائز على جائزة نوبل إلى داعيةٍ لليمن، يحثُ الألمانَ، وغيرَهَم من الأوربيين، في كل خطبِهِ ولقاءاتِه لزيارة اليمن، وقال كلمتَه الشهيرةَ في معرضِ فرانكفورت للكتابِ حيث كان الوطنُ العربيُ هو ضيفُ الشرفِ عام ٤٠٠٢، متوجهًا إلى الجمهور الذي حضر فعاليةَ القراءةِ الشعريةِ بيني وبين غراس الذي ابتدأ الحفلَ قائلًا لهم اذهبوا لليمن، لا تصدقوا كذبةَ الإرهابِ، فنحن يقصد الغرب من بدء بحز الرؤوس في الحروب الصليبية ضد المسلمين والعرب، لقد وجدت التسامح هناك يقصد اليمن وليس هنايقصد ألمانيا والغرب
ثم دَعَم الشاعرُ الكبيرُ عبد العزيز المقالح عقدَ مؤتمرٍ للروايةِ العربية الألمانية، حينما تداول الفكرة هذه مع غونتر غراس، وبالفعل عاد لليمن عاشقها غراس، بعد أقل من عامين ٤٠٠٢، ليشاركُ بوصفِهِ الروائِّي الأكثرِ شهرةً وتأثيرًا في العالم آنذاك في حوارات عميقة بين الشرق والغرب، دارت أغلبها حولَ الأدبِ والسياسةِ والحياةِ بشكلٍ عامٍ. وفي ختام هذا الحدثِ الثقافيِ الأبرزِ في العالم العربي، الذي احْتَضَنَتْهُ اليمنُ بكلِ سخاءٍ، ونحن مشغولون بإعلانِ بيانِ الختام، كنت كعادتي أجلس في آخرِ مقعدٍ في القاعة، فاقترب مني روائيٌ عربيٌ معروفٌ، وبيدِه ورقةٍ تضمنت برقيةٍ، طالبًا مني قراءتَها إلى جانب توصياتِ المؤتمرٍ، كونِها تعبرُ عن شكرِ المشاركين (العرب والألمان) لجهود اليمنيين في تنظيمِ ودعمِ هذا اللقاء العالمي. فحينما قرأت ما في الورقة وجدتها عبارة عن برقيةِ شكرٍ موجهةً بالاسم إلى الرئيس الراحل صالح والحكومة إلخ…. أعادتني إلى السياق العراقي، في زمن النظام السابق، ففي كل مهرجانات المربد وغيرها، كانت هناك برقيةُ شكرٍ تُرْفَعُ باسمِ المشاركين، لتشكرَ الرئيس العراقي والقيادة العراقية، بالطبع دون أخذ موافقةِ المشاركين من الضيوف. وفي ظل إصرار هذا الروائيُ على أن أُسلم البرقية للشاعر المقالح، وفي وسط الإرباك هذا، وغونتر غراس يصر على أن أجلس في المنصة، حيث يجلس هو والمقالح، همست في أُذُنِ الإمام- أقصد المقالح- ليمنحني فتواها، طالبةً منه ألا يسمح بقراءتها، كونها ستثيرُ حفيظةَ وحساسيةَ الأدباء الألمان، وسترسخ تقاليدَ النفاقِ للحكامِ؛ وربما ستسبب لنا إشكالات نحن في غنى عنها. وبالطبع هكذا طَلبٌ من المقالح، والذي لم يكن حاضرًا بشخصه الشعري الأدبي، وكرئيس للمؤتمر، بل كان يشعل منصبَ المستشار الثقافي لرئيس البلاد صالح، الذي هو محورُ الإشكالِ في هذه البرقية، لم يكن سهلًا عليَّ، كوني كنت أشرف على تنظيم المؤتمر، بوصفي المستشارة الثقافية لليمن في سفارتها بألمانيا، لكن شجاعة عبد العزيز المقالح قد حسمت الموقف، ولم يتردد لحظة واحدة بالقول لي وبهدوئه المعتاد ”مزقيها وارمها في أقرب حاوية للنفايات”. فتواه هذه لي بقدر ما أزاحت عني ثقلَ جبالٍ بأكمَلِها، بقدر ما أكدت لي أن الحريةَ وشرفَ النفسِ وشجاعةَ عبد العزيز المقالح كلَّها كانت سماتٌ لم تنفصل أبدًا عن قيمة إبداعه الشعري؛ لذلك عاش أيقونةً، وسيبقى درسًا إبداعيًا وأخلاقيًا كبيرًا راسخًا وحيًّا، رسوخَ حضارةِ اليمن الحيةِ والحرةِ والمضيئةِ والغنيةِ، رغم كل ما مر بها من محنٍ وفتنٍ وظلامٍ، لأنّ الله يأبى إلا أن يُتِمَّ نوره.
لندن 2023 ، أمل الجبوري