ناهض الخياط
يقول الشاعر.. لا
محمد جودة العميدي
تأتي قراءتي النقدية لديوان الشاعر المبدع ناهض الخياط ( يقول الشاعر …. لا ) الصادر عن المركز الثقافي للطباعة والنشر (بابل- دمشق- القاهرة ) في محاولة لرصد سمات خطابه الشعري من : صورة شعرية وتكثيف لغوي وصور بلاغية و ايقاعات وترميز ، وكذلك تقصي الدلالات التي يكتنزها خطابه الشعري وبلوغ مكامن الجمالية في نصوصه الشعرية ومعرفة الثيمات التي تتفاعل معها ذات الشاعر .
يكتنز العنوان من الدلالات ما تثير التأويل ، والعنوان جواب كما هو واضح من فعل القول : ( يقول الشاعر ….لا ) ، ويحمل العنوان كلمة (لا) بحجم أكبر من كلمات العنوان الأخرى وللشاعر في هذا قصد ومأرب . تحمل (لا) في لغتنا العربية دلالة الرفض ، فهل الشاعر المبدع ناهض الخياط يعلن حالة الرفض ويؤسس لفلسفة ما في اختياره لهذا العنوان كفلسفة الرفض عند الفرنسي غاستون باشلارد التي تستند الى ( القيمة التوليفية ) ؟
لا يهتم الكثيرون من النقاد بقراءة عنوان المنجز وفهم دلالاته والتعليق عليه ، في حين أنه المدخل الوحيد لأي قراءة نقدية أو غير نقدية . وبعكس هؤلاء أنني أرى – كقارىء – ان تكون هناك قراءتين لعنوان المنجز : مرة من الخارج لمعرفة ثيماته ودلالاته الحقيقية ومرة أخرى من الداخل لمعرفة ما يكتنزه من مقصودات كامنة ورسائل مشفرة . وعلى هذا يعمل الشاعر فيبدأ بحل الألغاز والشفرات مستعينا بتجربته وتقاناته و أدواته الشعرية .
ولا أخفي سرا اذا قلت أستوقفني العنوان و أثار في مدونتي أسئلة شتى من قبيل : ( لا !! لمن ؟؟ ) ، مما دعاني الى افتراض عدة اجابات لعلي امسك بواحدة منها لأحدد اتجاه بوصلة الشاعر . ومن بين ما افترضت من اجابات لهذا السوال ، قلت انها حالة ( رفض ايديولوجي ) لكل ما هو عبث في الحياة ورفض لكل حالات الانتماء لغير الوطن . وبهذا يكون الرفض شاملا لكل مظاهر الفساد في ادارة البلاد والقتل و التهميش و النزوح القسري و الطائفية المقيتة وسطوة الجاهلين .
وأغلب الشعراء يختارون عنوان قصيدة مائزة تتجلى فيها شاعريتهم لحمل عنوان المنجز ، لكني لم أجد ذلك . ولأن الشاعر هو من أختار عنوان منجزه ، فهو وحده القادر على تحديد دلالته ، لأن الشعر محمل بالذاتية أولا ولأن العنوان يحمل ملامح اللغز الذي يتطلب طاقة ثقافية اضافية لبلوغ دلالته الحقيقية ثانيا .
قرأت بين دفتي الديوان مئة وثلاث قصائد نثر كتبت بين عامي 2014 و 2015 و بثيمات شتى. كانت قراءتي قراءة نقدية ( جمالية / ذوقية ) ، لأن ( المنهج النقدي الجمالي / الذوقي )هو المنهج السائد الآن في أغلب الآداب العالمية . بحثت في قراءتي عن مواطن الجمالية في هذه النصوص ، ووجدت ان بعضها تشترك في ثيماتها .
رسم لوحة
فقصائد : ( ذلك الشاعر ) و (كيف رسم الشاعر لوحته ) و ( كيف تحلق قصيدتي ) و ( كيف يحلق الشاعر) و (أنا الآن في قصيدتي ) و ( كلمات الشاعر ) و (الشاعر في صور ) و ( القصيدة تتركني) و ( الشاعر) هي تلميحات لتجربة الشاعر الذاتية في كتابة الشعر وتمكنه من أضفاء مشاعر الانتشاء للمتلقي من خلال رسم لوحات فنية بقصائد شعرية تفوح مشاعر وأحاسيس . تفاعلت ذات الشاعر مع ثيمات هذه القصائد ولاحظت ان مفردات النصوص العذبة تخلت عن وظيفتها في نقل المعنى الى نقل مشاعر و أحاسيس ، فهي مفردات جميلة غير مستهلكة لا تمجها الأذن بل تطرب لها الأسماع .
في قصيدة ( ذلك الشاعر ) ، ذكريات مخزونة في اللاوعي وحزن مكبوت ، فيها شكوى و عتاب للزمن الذي أودى بالشعر و الشعراء و أعان على ظهورالكثيرين من التافهين والمندسين في المشهد الشعري . أستطاع الشاعر المبدع ناهض الخياط و بكفاءة من أستحضار هذه الذكريات بما تحمله من أحاسيس شتى من خلال تقنية (الاسترجاع ) flash back .
ليعيد لها
احساسها بوجودها
وما تساقط من اوراقها ورفقته معها
فهى لما تزل
تحمل رائحة ذلك الزمن
وآثاره في اجسادها المرهفة
انه يتنفسها الآن
وأستندت قصيدة ( كيف رسم الشاعر لوحته ) على ثنائيات : النهار والليل / الحضور و الغياب / اسئلة واجوبة / و الأرض والسماء . وجمالية القصيدة تكمن في الدعوة الرومانسية للتواصل مع الطبيعـة :
رسم الشاعر لوحته
كما رآها في حلمه
موحية لنا بالنهار والليل
والحضور والغياب
………
وحين دخلنا في لوحته
وايقظنا نور الوانها
وايقاعاتها
صرنا عراة
نود ان نظل متشحين بها
متناغمين مع الطبيعة باضدادها
وفي قصيدة ( أيها الأمس) ثمة حنين الى الماضي والايام الجميلة وشعور نستولوجي أخاذ يشعر به المتلقي من خلال تحميل المفردات العذبة بشتى الدلالات التي أكتنزته القصيدة ، وهنا تكمن الأبداعية creativity من خلال ( الأنفتاح على عالم المعنى والدلاله ) – كما يرى الناقد أمبرتو ايكو .
وفي قصيدة ( أراك الآن عبر دمعتي ) التي يهديها الى الشاعرة ( جوزيه الحلو ) رفض للفكر الظلامي المتخلف المتمثل بـ (داعش) وممارساته في السبي و الرجم وضرب السياط و القتل بالسيف و الدعوة لمواجهة هذه الأفكار التي لا تمت الى الانسانية بصلة .
قصيدة جميلة
وقصيدة ( أغنيك .. ياوطني ) قصيدة جميلة بمفرداتها ، فيها من المشاعر الوطنية الصادقة ما تؤكد الرغبة في الانتماء للوطن وحب الانتماء للحياة والتشبث بها والرغبة في التواصل معها في حياة كريمة . وفيها أدانة للتفرقة التي تقتل أبناء وطن واحد كانوا يتقاسمون الهموم ، وفيها اشارة لما كتبته الأقدار على أبناء شعبنا من دوام الحزن وأنين لفراق أحبة هاجروا الوطن لبلاد الغربة حيث تصبح الحياة متأرجحة بين الصبر و الأنتظار .
وللمكان قدسية في قصائد الشاعر المبدع ناهض الخياط ، وطنا أو مدينة . ففي قصيدة
( الناصرية مدينتي ) يفتخر الشاعر بتأريخ المدينة العريق و يفتخر بأنتمائه لها . يعمل الشاعر حوارا فرديا monologue مع مدينته واصفا اياها بالحبيبة و رغبته الجامحة في العودة اليها .
تعي الذائقة الأدبية السليمة ثيمة قصيدة (الهاجس) من خلال مفرداتها ، فالشاعر يبدو هنا مضطربا وبنبض مأزوم عند كتابة الشعر . وقصيدته تقترن بمشاعره الصادقة ومخاوفه من ان قصائده قد لا تؤدي الى تحقيق هدفها المنشود :
وها انت
مع قصيدتك الآن
تحدق في سطورها
لعلك تسترجع ذلك الطيف الجميل
وفي القصيدة ملامح لأحلام يقظة
لياخذك عبر غاباته
فترى ذلك الطيف الجميل
الذي عرفته بعد حين
انه طيف جميلتك
ولقصيدة النثر القدرة على تركيز ثيمتها لغرض واحد لاتتعداه كما في قصيدة ( أصدقائي الراحلون ) التي تحيط بها مشاعر الحزن و الأسى لفقد احبة أعزاء وفيها تقنية ( أستحضار الغائب ) والعودة للحياة و محاورتهم بحوارات ثنائية dialogues وكانهم احياء .
حين أستحضر في ذاكرتي
أصدقائي الذين رحلوا في غياهب التراب
يتوافدون جميعا علي
كموج ساطع بشمس الضحى
يتقن الشاعرالمبدع ناهض الخياط اقتناص الفرصة لتهيئة ذهن المتلقي وخلق الفضاء الشعري المناسب لممارسة طقوسه الشعرية . كتبت القصيدة بلغة فنية عالية ومفردات جميلة . يعمل الشاعر على تقنيات البواطن من : تلميحات hints و أيحاءات revelations وأسترجاع flash back وكلها تقنيات أدبية غربية .
وفي ( قصائد لمسات ) الست التي ضمها الديوان ، قرأت نصوصا أقرب الى قصائد الومضة ، فيها ملامح شعر قصصي لما تحويه على قليل من السرد . كان للحوار الفردي و الثنائي دورهما في أكمال الأيحاء الشعري . كانت النصوص قوية الوقع بعيدة عن الترهل .
ثيمات مختلفة
وفي ( الشاعر في صور ) أثنتا عشرة صورة للشاعر بثيمات مختلفة ومواقف شتى ، تتباين فيها نظرة الشاعر للشعراء . ففي النص الأول ، يبدو الشاعر متشائما من مستقبل الشعراء :
اعلى ما يوصله الحظ للشاعر
ان يغدو كتابا
يعرضه الكتبيون على الأرصفة !
النصوص قصيرة ، كتبت أغلبها بثلاث أسطر . أحصيت مقاطع كل نص فلم أجد (سبعة عشر ) مقطعا ، والا فأنني ظننتها ( قصائد هايكو ) .
وملامح الرومانسية تبدو جلية في قصيدة ( بعيدة عني ) لما تحويها القصيدة من حوارات ونداءات مع : ( الموجة) و(الريح ) و ( البرق) و مظاهر الطبيعة الخلابة . في القصيدة معاناة من الشعور بالوحدة و الاغتراب . أجاد الشاعر المبدع ناهض الخياط أستخدام تقنية ( الصورة البديلة ) من خلال تلاعبه بالألفاظ و أستبدال أماكنها :
بعد ان تقوست همتي
وشحبت رؤيتي
وللشاعر رأي وموقف من (النقد والنقاد ) يتجلى واضحا في قصيدة ( ما قاله الشاعر في النقد ) ، فالشاعر يرى ان النقد مجردا من العطاء وان الناقد كثيرا ما يكتب دون ان يعي ما يكتب عنه :
النقد
ليس نهرا ولا مطرا
بل محض ضباب
و أجمل ما في القصيدة أنها مبنية على حوارات ثنائية بين شاعر وناقد تارة وبين روائي وناقد تارة اخرى . وفي القصيدة دعوة للنقاد للألتزام بأخلاقيات النقد وأحترام طقوسه ، فلا يسمحوا للمندسين بالدخول الى المشهد الشعري و التأثير فيه . وبهذا يكون النقد ضارا ولا طائل منه . وذروة النص anticlimax تكمن في :
أهذا ناقد أم مهرب لاجئين لمملكة الشعر ؟!
ذلك الناقد
يستعير هدير البحر لسطور كتاباته
ما يميز قصائد الشاعر المبدع ناهض الخياط هو ميله الى النزعة العقلية و الشغف الفكري لسبب جلي هو اتساع ثقافة الشاعر وتمكنه من لغته وامتلاكه لأدواته الكتابية . كما ان تطلعات الشاعر الانسانية غرست في قصائده وعيا ومعرفة لضرورة التواصل و التفاعل مع معالم الحضارة الانسانية . وبهذا لم تكن قصائد الشاعرالمبدع ناهض الخياط مجرد تهويمات وخيالات وامنيات هاربه من عالم مجهول . وازن الشاعر وبصدق بين اعتزازه بالماضي وصدق تطلعه لمستقبل واعد في ضوء معرفة واعية .
وأخيرا أرى – كقارىء – أن رؤية الشاعر المبدع ناهض الخياط نوعا من الكشف والحدس الذي يستولي على وجدان الشاعر فيعمل على تجسيد اللحظات الكاشفة وبما يملك من خيال و قوة تصوير وحسن ايقاع ومهارة التصرف في مفردات اللغة . والشعر موقف ومواجهة الذات الشاعرة ، فهو يصدر عن وعي ويعبر عن الفكر ويرتبط بالقابلية على الانجاز .