حرٌّ لا يطاق حاصر مدينة بيرث الأسترالية منذ أيام، وعرق يتصبَّبُ من الوجوه الشوارع مقفرة والمتاجر مغلقة بسبب موجة الحر القاسية. في حين ازدحمت شواطئ المحيط الهندي بحشود الناس شبه عراة هرباً من جحيم القيظ. غير أنَّ الطقس انقلبَ رأساً على عقبٍ ليلة أمس وباتَ الجميع يبحثون عن الأغطية الصوفية تجنباً من البرد اللعين الذي باغت موسم الصيف فجأة؛ طقسٌ مزاجي ومعتوه حدَّ القرف يلعب على عقولنا ويقضُّ مضاجعنا بالقلق والحيرة. توقعات الأنواء الجوية التي اتَّسمتْ بدقتها في أخبار نشرتها اليومية خدعها الطقس بجدارةٍ هذه المرَّة؛ حتى أصبحنا في حيرة من أمرنا، هل نرتدي الملابس الصيفية أمْ الشتوية ونحنُ نذهب إلى أعمالنا؟ ليلة أمس أشعلنا المدافئ ناشدين الدفء، لكن بعد مضي ساعتين أفقنا والعرق يغزو جلودنا؛ لقدْ ارتفعتْ درجة الحرارة بشكل مريع على حين غرَّة؛ هربنا بجلودنا إلى الحديقة لحين اكتساب المنزل لبرودةٍ مناسبةٍ من مكيفات الهواء. عند الصباح لمحتُ امرأة آسيوية تتبضَّعُ في سوق الفواكه والخضراوات وهي تحمل مظلَّة المطر بيدها اليمنى ومروحة القش في يدها اليسرى. أخذني مزاج هذا الطقس الغريب إلى ذكرياتٍ ماضيةٍ لا تخلو من المرارة ومن المتعة أيضاً، إذْ أتذكر في طفولتي عندما يصل البرد إلى ذروته بفصل الشتاء وتحديداً في منتصف شهر شباط؛ كان يُطلق على موجة البرد القارصة تلك ”برد العجوز”، كانت أمي رحمها الله حالما تنتهي من انتزاع آخر رغيف خبز ناضج من التنور الطيني؛ تجمع الجمر المتبقي في “منقلة” وهي صفيحة معدنية على شكل حوض مستطيل، وتحملها إلى غرفة المعيشة حيث نتجمَّع نحن أطفالها السبعة مثل صيصانٍ حول لهب الجمر ناشدين الدفء؛ بينما إبريق الشاي المعدني يطلق بخاراً ساخناً وصفيراً من أنفه المعقوف؛ كانت متعة ما بعدها متعة حين نتناول الشاي مع الخبز الحار كوجبة تمهيدية قبل موعد العشاء الذي عادة ما يكون من رز العنبر مع الدبس. مثلما أتذكر عندما يأخذني أبي رحمه الله معهُ إلى مشروع الماء والكهرباء في نوبته الليلية، ويدعني استحم تحت شلال الماء الدافئ القادم من أحواض ماء مكائن الديزل العملاقة التي كانت تجهز المدينة بالطاقة الكهربائية، ثمَّ يفرش لي بطانية بجوار إحدى مكائن الديزل لأغفو على صخبها خلال دقائق. كنتُ ومازلتُ أنام بعمقٍ على هدير مكائن الديزل، مثلما اشعر بالاسترخاء على صوت اشتعال الموقد النفطي. وحين دخلت إلى الحرب كنتُ أكابد من البرد القاسي في الخنادق الرطبة، وكيف كان جسدي يرتجف بعنف في ساحة العرضات عند الفجر بالمعسكرات الخليفة. وفي حديث جانبي مع زوجتي عن قسوة البرد أوصيتها إذا ما فارقت الحياة في موسم الشتاء فليغسلوا جسدي بماءٍ دافئ، فاستغربتْ من وصيتي. لعنة البرد التي لا تطارد إلا الفقراء والمعذبين والمشردين ذكّرتني بفنانٍ تشكيلي عثروا عليه قبل عامين متجمداً من البرد على رصيف وعمره لا يتجاوز الثالثة والأربعين، لقد جاء الى مصر وأقام معرضا تشكيليا، وطابت له الحياة في أم الدنيا فقرر الإقامة فيها، لكنَّ أوضاعه المالية تدهورت ولحقها تدهور حالته النفسية ولم يجد من يعينه على الإقامة فاتخذ من رصيف في ميدان التحرير مسكناً حتى أطبق البرد الوحشي على جسده الهزيل من الجوع والحرمان وأحاله إلى جثة متجمدة. ولك أن تتخيل كارثة الذين نجوا من الزلزال في سوريا وتركيا ومأساة المهجرين في مخيمات شمال البلاد. هؤلاء جميعهم كهولاً ورجالاً ونساءً وشبَّاناً وأطفالاً يكابدون من قسوة البرد والمطر؛ وبين طقس الغربة المتقلّب وبرد الطفولة إلى زمهرير سواتر الحرب وشظف العيش الذي كتم على أنفاس الفنان التشكيلي وأسى الذين يرزحون في المخيمات إثر الزلزال والتهجير. مازال هناك بصيص ضوءٍ لحياةٍ هانئةٍ منتظرةٍ برغم كل هذه الفجائع والأسى على هذه الأرض التي تحاصرنا بكروبها، ولعلَّ قصيدة الشاعر سامي مهدي التي نشرها على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي قبل رحيله هي من تسعفني على ختام هذا المقال حيث كتب: وحيدينَ نلقى الحياة، وحيدين نشقى، وحيدين نبقى، وحيدين تنأى بنا هذه الطرقاتْ وتَكمُلُ دورتُنا في الفضاءْ ونتركُ من دمِنا شُهُباً في السماءْ…ونأسى وننسى ونخلعُ أسمالَنا ونصلّي عراة. وحيدينَ يحضرُنا الموتُ، إلاّ من الصَبَواتْ.
حسن النواب