وما زال العراق معلّقاً

وما زال العراق معلّقاً

كيف تم إغتيال قائممقام سنجار؟

كفاح محمود كريم

يتذكر العراقيون منذ فجر الرابع عشر من تموز حينما اسقط بضعة ضباط مملكة ال هاشم التاريخية في العراق والتي اوكل اليها قيادة المملكة التي أسسها البريطانيون والفرنسيون بموافقة الروس في بلاد النهرين، وكيف بدأت سلسلة الاتهامات للعائلة المالكة وعمالتها لبريطانيا وغيرها من الدول الاستعمارية، واعدين الأهالي بإقامة جمهورية عراقية خالدة تسود فيها العدالة والمساواة، حيث لم تمض الا سويعات قليلة حتى اُبيدت العائلة المالكة عن بكرة ابيها أطفالا ونساءً وشيوخا، ثم توالت تحت مقاصل الاتهامات تصفية الالاف من العراقيين سواء في ما سمي في حينه بثورة عبدالوهاب الشواف وعمليات القتل والسحل خلف السيارات لكل من عادى الزعيم وجمهوريته الخالدة، لكي تعاد الكرة ثانية وبعد سنوات قليلة ليُبَشر القاتل بالقتيل في سلسلة دموية حينما انقلب البعثيين على الزعيم وأقاموا حمامات دماء للشيوعيين واتباع الزعيم الأوحد في شباط 1963 والتهمة جاهزة هي الأخرى ولكن بلبوس ديني هذه المرة حيث الكفر والشعوبية والالحاد!

 في عودة البعث الثانية تموز 1968 بدأت سلسلة أخرى اكثر بشاعة ودموية وأمواج حمراء من الدماء تتلاطم في مجرى الرافدين، حاملة معها شعارات كتب عليها بان هذه الدماء تعود لعملاء الامبريالية الامريكية والصهيونية العالمية، حيث تم تصفية المئات بتهم وهمية أساسها انهم في الأصل معارضين لسلطة البعث واسلوبه في سرقة الحكم وممارسته، لكن للأسف لم تكتف تلك الأمواج بألاف مؤلفة من أبناء وبنات العراق، حتى عاد البعث ليدفن مئات الالاف من أبناء وبنات كوردستان وهم احياء في صحراوات الجنوب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ويكتب على مقابرهم انهم من الجيب العميل والمتمردين من عملاء الاستعمار والرجعية، لا لشيء الا لأنهم كوردا طالبوا بأبسط حقوقهم الإنسانية، وفي كل هذه الماسي يصر نظام الحكم على ان تهمة هؤلاء الضحايا الأساسية هي العمالة لأمريكا وإسرائيل، وازعم ان 90% منهم لا يعرفون اين تقع أمريكا ومن هي إسرائيل، لكنها تهمة تسمح للقاضي بإصدار حكم الموت على مقترفيها، وبذلك وكما قال صدام حسين في دفوعاته في المحكمة الجنائية انهم لم يتجاوزوا على القانون، وان لهم الحق بالتصفية كما تصفى الحبوب من الشوائب!؟

   وانا اكتب هذه السطور متذكرا كل هذه الاحداث توقفت عند حدث اختصر لي كل ما حصل في عراق ما بعد 1958 في شكله السياسي والإعلامي والاجتماعي، فقبل نصف قرن تقريباً، قُتِلَ قائممقام قضاء سنجار في شمال غرب العراق على أيدي مهربين وهاربين من الخدمة الإلزامية حينذاك، ظنّاً منهم أنه أحد أفراد الشرطة التي تتابعهم، خاصةً وأنه كان يستقل سيارتهم المعروفة في حينها بـ (المسلحة)، وحينما اقتربت من مكان تواجدهم في جبلٍ سنجار، ورغم أن القائممقام لم يكن في تلك الحادثة بمهمة رسمية، بل كان في زيارة تفقدية للمنطقة إلا أنه وحينما اقتربت السيارة التي تقله من مكان تجمعهم أطلقوا الرصاص عليها، وهم لا يعلمون من في داخلها غير الشرطة، وقد قُتِلَ الرجل وأصيب آخرين من مرافقيه بجروح، وراح ضحية زيارة غير موفقة وعلى ايدي أناس لا يعرفونه!  بعد ساعات قليلة وتنبيهات عديدة من إذاعة بغداد بأنها ستذيع بياناً هاماً للمواطنين، خرج علينا المذيع بمستهل البيان التالي:

“قامت مجموعة مجرمة من عملاء شركات النفط الاحتكارية وشبكات التجسس وبدفع من الإمبريالية والصهيونية العالمية باغتيال المناضل (…) قائممقام قضاء سنجار…”

نغيير ديموغرافي

الى آخر البيان الذي كانوا يقصدون فيه المسؤولين الكورد في تلك المدينة، التي تعرضت لسياسة التغيير الديموغرافي في تقطيع أوصالها وتشويه تركيبتها السكانية، ويتذكر العراقيون في تلك الفترة شيوع مودة العمالة للشركات النفطية لكل معارض لنظامهم، حيث قرار التأميم قد اتخذ للتو وكان يومها الخطاب الإعلامي والسياسي يتضمن هذه المصطلحات في الدعاية السياسية لإسقاط معارضي نظام البعث، وقد أُعدِمَ المئات منهم تحت مقصلة هذا الشعار، وللأسف ما يزال ورثته اليوم يقتفون آثاره بذات الفلسفة والوسيلة، بل ويقلدونه أكثر من تقليدهم لمرجع في خطابهم السياسي والإعلامي التخويني.

   هذا النسق الإعلامي لم يكُ حصرياً على العراق، فهو أيقونة كلّ الأنّظمة الراديكالية في الشرق الأوسط، سواء في الدول العربية أو الإسلامية، حيث التهمة جاهزة لكل من يعارض نظامهم السياسي إما بالعمالة للغرب وإسرائيل إذا كان عروبياً، أو أنه فاجرٌ كافرٌ إذا كان إسلامياً وتهمته الأولى بأنه مرتد أو مؤيد لقتلة الخلفاء الراشدين أو أبنائهم أو كل من قُتِلَ خلال 1437 سنة بسبب معارضته للنظام، وكانت الخلاصة الناتجة من هذه الثقافة البائسة ظهور الدولة الإسلامية “داعش” ومن بعدها دولة الميليشيات، اللتان أنهيتا وجود الدولة وتحويلها إلى اللا دولة، والغريب أنهم كلما انفضحت مخازيهم في الفساد وجرائمهم في الاغتيال والاختطاف، وأصبحوا بديلاً للدولة في امتلاك السلاح وسلطة المنفلتين، وجهوا نبالهم وأبواقهم الدعائية الى كوردستان وعزفوا أغنية انها (تعيش على نفط البصرة ويجب قطع حصتها من الموازنة) وحرمان موظفيها من المعاشات كما يحصل منذ سنوات!

   ولعلّ أفضل شاهد اليوم على هذا النهج هو اتهام كل من يعارضهم ويقف بالضد من توجهاتهم الطائفية والعنصرية بأنه من حلفاء أمريكا وإسرائيل، فمنذ اعلان الحكومة الاتحادية الجديدة برئاسة السيد الكاظمي وإعلانه البدء بتنفيذ حملته ضد أشباح اللا دولة وما يلحقهم من مافيات فساد ودولة عميقة، وهم يتبارون على وضع (بالاتهم ولنكاتهم) على شماعة أمريكا الشيطان الأكبر وإسرائيل الشيطان الأصغر، وقد أضافوا إليها مؤخراً (الانفصاليون وناهبي ثروات العراق)، للتغطية على سرقاتهم الهائلة من معابر البلاد الحدودية ومن الفجوات والثقوب التي احدثوها في منظومة الانابيب الناقلة للنفط ومشتقاته والمهربة الى ايران وسوريا، ناهيك ما يجنوه من استثمار في شعاراتهم الطائفية والعنصرية المقيتة ضد الإقليم وضد كل من يختلف معهم حتى في أغنية!

   لقد تجاوزوا الاسطة في صنعتهم واستحقوا أن يكونوا ورثة أولئك الذين اتهموا شلة من المهربين الأميين والهاربين من العسكرية الذين اغتالوا القائم مقام واعتبروهم عملاء للشركات النفطية وجواسيس الإمبريالية والصهيونية منذ نصف قرن، وللأسف المسيرة هي هي لم تتغير الا بالألوان وبعض العناوين، في خطاب اعلامي بائس وفكر طائفي وسياسي أكثر بؤسا، في بلاد ما تزال معلقة على شماعة العمالة لإسرائيل وامريكا، والغريب انهم لا يفقهون ما جرى لأسلافهم ونهاياتهم التي رسمتها اعواد المشانق ورصاصات الإعدام من الزعيم وحتى القائد الضرورة!

مشاركة