وليد جمعة كان يشرب من دمه كأنه النبيذ 2

وليد جمعة كان يشرب من دمه كأنه النبيذ 2

قصر البلّور حانة تجمع الشاعر مع عجينة والصافي ويطلق: القيادة أفضل من القاعدة

عبد الحسين شعبان

بيروت

لم يزعم أنه سيموت موتاً بطولياً، كما يدعيه الكثير من الدنكيشوتيين، ولم يدر بخلده إنه سيمكث إلى هذا الحد الذي يتجاوز فيه السبعين، مع إنها تزمجر وجعاً لا طاقة على احتماله، ووحدة لا سبيل لتحمّلها، في ظل متاهات مصحوبة بغيوم سود ورمادية وداكنة، وكانت تنمو فيما حوله غابة وحوش بكل شراسة ولؤم وخداع.

هل كان وليد جمعة مضروباً بلعنة الوجود، حيث الوحشة والوحدة والحيرة، تفترس جسمه النحيل، لتحيله إلى شكل مأساوي، يجمع بين الملحمية الدرامية ، وبين الملهويّة الفقيرة، مع إن عينيه ظلّتا مشعتين على نحو كثير البوح والحرمان!؟

لا يوجد شيء يشبه وليد جمعة سوى قصيدته، منذ أن كان جيلينا الستيني يتمرد على كل شيء، كان وليد الأكثر انسجاماً مع تمرّده، وظلّ يتصاعد في رفضه وسخريته، خصوصاً من أولئك الذين لبسوا ثوب العقل. أما قصيدته فهي حياته، ونصّه هو توأم فجيعته.

منذ خمسة عقود ونيّف من الزمان تجرأ على التحدّي، حين ترك حزباً قومياً ليقترب من حزب أممي، لكن في كلي التمردين لم يجد ضالته، فتضاعفت معاناته وازدادت مأساته، ولذلك ظل يجرّب ويتحدّى ويسخر حد البكاء من الآخر ومن نفسه، بحثاً عن حقيقته المفقودة، تارة بالشعر وأخرى بالنثر وثالثة بالمغامرة ورابعة بالنكد واللعنة، لكنه لم يقطف حصاده.

كان وليد جمعة يقول ما يحجم كثيرون عن قوله ممن اتخذوا لأنفسهم تسميات اليسار والوجوديين وما بعد الحداثة.. صدّق اليأس أحياناً، لكن اليأس لم يصدّقه، لهذا عاود الحياة بعد موت كاد أن يتحقق لعدّة مرات. وقع فريسة الغضب والعبث والوهم واللّامبالاة، لكنه عاد حيّاً يهجو ويشاكس، حتى وإن كان الجحيم أمامه، والجنون طريقه لأنه يريد أن يقبض على الروح ويؤنسنها حتى ولو بالموت الرحيم.

عناء معتق

كان يريد موتاً بلا زيف، لم يعد يتحمّل هول هذا العناء المعتّق والجروح في كل من مكان ومن كل مكان، بدأ يلعق دمه كي لا ينضب، وكي لا تذهب الكلمات على عجالة، وتُطفئ الحرائق. كان لا يريد للنار أن تنطفئ، بالتبغ والحشيشة واللفائف والأراكيل والسكائر الغالية والرخيصة، كان يريد حياة أقرب إلى الموت.

يلاحق الدخان كأنه يرسم حتى وإن كان الأمر سراباً، ويسمع صوت تنفسه مثل موسيقى جنائزية ولكنها بحشرجة ، حيث غابت اللياقة البدنية فخذله الجسد وانحنى فوق روحه يلملم فيها، ويردّد أغنية قديمة.

شغف الموت

كان شغوفاً بالموت أكثر مما هو شغوف بالحياة، وظلّ وفياً لذلك الشغف حتى الرمق الأخير: قال لي مرّة لماذا قدّم الجواهري الكبير، الحياة على الموت، قلت له قد يكون ذلك من لازمة الشعر: وهو تتمة للصدر الذي سبق العجز، حيث الخطر رفيق الموت، والحياة رفيقها الأمان:

وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ                حبّ الحياة بحبّ الموت يُغريني

وهكذا تكوّنت الجدلية: الخطر والأمان، والحياة والموت، لينسجم ذلك في هارموني هو الإغراء: أي مغامرة الحياة رديفاً لمغامرة الموت، وهما صنوان يشدّان المقامر إلى حيث التحدّي.

هرب وليد جمعة قبلنا من شرك الآيديولوجيا. لم يطق القيود، ففرّمثل طائر من قفص، كان يريد حريته وقصيدته وهامشه وفردانيته ووحدته، لكنه سقط مضرجاً بخيباته وانكسارات روحه:

هجّيت من حزب البعث

والكَفني نص مسقوفي.

تحدّثنا عن الأقنعة التي يلبسها البعض، وكان دائم السخرية، واستخدم الملاّ عبود الكرخي طريقاً للتوليف والله لكسر ” الزنكنة” وأنعل أبو … وحين كتب ماجد عبد الرضا عن “المطلق والنسبي” في نشرة رسالة العراق التي يصدرها إعلام الحزب الشيوعي في الشام، جادلني وليد جمعة بحدّة : ما هذا الهراء؟ وكتب قصيدة كنّا نتبادل في ترديد لازمتها “ونسبي”، مثلما كتب قصيدة بهجاء المؤتمر الرابع للحزب العام 1985 وكان عصام الحافظ الزند يحفظ بعض مقاطعها ويعيد تكرارها علينا. لم أرَ جدوى من نشر القصيدتين ، ولكنني اكتفيت بالإشارة إليهما، إلاّ إذا جمعنا أعماله فيمكن نشر ما هو ممكن منها.

كان وليد جمعة نسيجاً لوحده في لغته وسخريته وحياته، مثلما كان في قصيدته ومرضه وموته، مصادره تدل على ثقافته في الفكر والسياسة والأدب والصحافة، هو يساري لكنه الأكثر انتقاداً لليسار، لم يستطع أن يغيّب الأنا لصالح القطيع كما يسميه، أناه هي عصب الحياة الذي يربطه بالعالم، والنقد غذاؤه الروحي.

كان وليد جمعة شديد الاعجاب بأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال والماغوط وحسين مردان، مثلما  كان معجباً بالشعراء الهجّائين على مرّ التاريخ العربي- الإسلامي، والأدباء الصعاليك والعبثيين والوجوديين، وكان يقرأ كثيراً سارتر وألبير كامو وكولن ولسن سيمون ديبفوار وهي موجة ستينية اجتاحت جيلنا، وكان يتميّز علينا بأنه يحفظ بعض النصوص عن ظهر قلب، وكان يردّدها على مسامعنا، بل يتحفنا بها كما يقول ، وتحفل جعبته بالكثير من الأقوال المأثورة.

وكان يتردّد بالنشر ويرفض أن يجمع قصائده المبعثرة في ديوان أو مجموعة شعرية، على الرغم من أنني أحتفظ بمخطوطة لديّ أحاول أن أجمع ما بعدها من قصائد لطبعها، وهي مجموعة حصلت عليها من إياد الجواهري في كوبنهاغن ومن أحمد المهنا في لندن. وأعتقد إن عبد الأمير الركابي هو من لديه مجموعة كبيرة من قصائد وليد جمعة، وهو الأكثر إلماماً منّا جميعاً بوليد جمعة وسايكولوجيته وتموّجاته، وكان على صلة به طيلة نحو نصف قرن وفي فترات لاحقة كانت علاقته وطيدة بهاشم شفيق وعواد ناصر وأحمد المهنا وشفيق الياسري وعامر بدر حسّون وجمعة الحلفي وفاضل الربيعي، على الرغم من المناكفات والمشاحنات.

لعلّ أهم من قصيدته هو شيئياته ومزاجه ومهارته ونكاته وخصوماته واختياراته وبراعاته وبغدادياته وكرخياته ومشهدانياته، وثقافته تكاد تكون شفوية حسب الشاعر المبدع هاشم شفيق حيث يقول عن ثقافته  ” ثقافة مقهى وكلام وتداول أسماء وأفكار وعناوين كتب ومجتزءات ومقتبسات ومقولات ومآثر أدبية وحفظ أبيات شعرية”، ولعلّه يقصد بذلك إنه كان محدثاً يحاول إدهاش الآخر دون استعراض، خصوصاً بالإطلال على الجديد والمتميز والمغاير، فوليد جمعة كان مغايراً ومختلفاً ومفارقاً، وتكاد تلك السمات تنطبق على كل شيء عنده. لم يسع إلاّ إلى العزلة اللطيفة، وذلك لإخفاء ما في روحه من مرارة وألم مثلما هي البراءة والطيبة، المغمّسة بالحزن والقلق والحيرة.

إيقاعاته الشرسة ومعجمه اللغوي اتسم بالهجوم والصور والاستعارات والترميزات والخرائط. كانت القصيدة صاخبة حتى وهي في حقيبته لا يريد أن يطلّع عليها الآخرون. لا زلنا نتذكر عموده في جريدة بغداد ” طكّ بطك”  وكان يردّد لازمة لقصيدة مظفر النواب التي يقول فيها :

يحزب حسين …

ماننساش حكنه أو حك المناطر

تراهو ازماطنه ابزيجك

إخذها إمناحر إمناحر

لجل عيناك …

مامش عالجروح احساب ولانهوه

لجل عيناك …

يلتسوه الكباحه… أوتسوه ماتسوه

تفك …

وابغيردشر أوشدحزم ورصاص

ما نهوه

خذوها ابْكوه… عينك عينك

نستافيها بالكوّه

يحزب حسين …

بس منك علامه … انسكْ عليهم سك

الدونيون

كنت قد زرت وليد جمعة في كوبنهاغن عدّة مرّات وبصحبة قيس الصرّاف الذي كان يهتدي إلى أماكنه حيث يكون، وخصوصاً عندما نعجز في العثور عليه في غرفته البائسة، والتي انتقل بعدها إلى غرفة في دار العجزة، وكان أحمد الناصري (الرفيق أمين) قد كتب بعد رحيله إن كل ما كان يحتاجه جمعة غرفة نظيفة وبضعة كتب وشرائط فيديو، وبالطبع فسحة من الحرية للنقد والسخرية.

ولكننا عجزنا خلال المرّة الأخيرة لزيارتي لكوبنهاغن (2013) لإلقاء محاضرة في جامعة لوند (جنوب السويد) في الاستدلال إلى وليد جمعة، وضاعت فرصة لقاء ثمينة كنت قد حضّرت لها بأسئلة وتساؤلات، وكانت تعوزني بعض المعلومات وددت استكمالها وبعض الفراغات التي أردت سدّها، سواء في الذاكرة أو الشعر أو العلاقات.

وسيلة وحيدة

كان وليد جمعة يضحك من خياراته ويشاغب حتى مع نفسه . قال لي جئت إلى لندن لأكون قريباً منكم وأراكم بعد غياب وحسرات، وهذا هو المهم و”شيريد اليصير خلّي يصير”، لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تؤمن لي مجيئاً مضموناً (يقصد عمله في جريدة بغداد)، وأنت تعرف إن عقلي وقلبي في مكان آخر، وسرعان ما عاد من لندن إلى كوبنهاغن مهزوماً ومُحرجاً ومخذولاً. يقول إن في الخيارات شيئاً من الكيمياء التي كان يكرهها، مثلما هي الأمزجة والخيبات واللقاءات المبرمجة.

كنّا نجادل في مطلع الثمانينات في توصيف للدكتاتورية، قال أحدنا إنها فاشية، وقال الثاني إن أساليبها فاشية، وقال ثالث إنه حكم فردي وعشائري ودموي، وقال رابع لا تنسوا الطائفية، وقال خامس إنه استبداد وتخلّف وبدوية، وقال سادس كان أبو كَاطع يردّد إنها فاشية ريفية أو بدوية، وقال وليد جمعة: كفى فلسفة أيها الجمع ماذا تبقى: قولوا اختصاراً إنها دونية، ولتأخذ الجامعات ومدارس العلوم السياسية هذا التوصيف الذي يمكن أن يندرج تحته الكثير من المفاهيم. وحسب وليد جمعة الدوني ليس بالضرورة حاكماً، هناك دونيون في المعارضة أيضاً، ولم يتوان وليد جمعة عن تسميتهم وتحمّل بسبب ذلك ضرب مبرح قامت به إحدى المسترجلات.

رغم كآبته كان حضوره مضيئاً وصداقته باهظة وزواياه حادة. وبقدر ما كان بسيطاً ومتهكّماً، كان متعالياً ومتألماً. كان ولوعاً وملمّاً وناقداً للسينما، لم أجد مثله محترفاً ومولعاً بالسينما والأفلام سوى صادق الصائغ واعتقال الطائي، لكن شخصاً مثل طارق الدليمي المثقف العراقي البارز والمناضل العنيد والبعيد عن الأضواء، كان وليد جمعة يصغي إليه حين يتحدّث عن السينما، في حين كنّا نحن نستمع إلى وليد جمعة حين يستذكر معنا أفلام الستينات.

وكان يريد مباغتة الأشياء بما ينسجم مع مزاجه ورغائبه وانفعالاته فقد فاجأنا في قصيدته ” الغروب النحيف”، لم يكن نوّاحاً، بل كان عصياً وهازئاً، وأجاد اللعب بالكلمات مثلما برع بالتوليف والتورية. أخاط قصيدته من قماشة شعر الحياة وكان مخزونه شاسعاً ومتّسعاً وبهياً.

في الغروب النحيف

وإذْ أتذكر رأس الحواش

وعكَد النصارى

والتسابيل

أبجي

في الغروب النحيف

رغم كل البلايا

أراه من المستحيل تماماً

كراهية هذا العراق

نجم ستيني

كان وليد جمعة، حتى وهو مقلٌ ولا ينشر إلّا ما ندر، هو أحد نجوم جيل الشباب في الستينات، فهو المثال المتطرّف لجيل غير اعتيادي في انتمائه وتطرّفه وقلقه وعواصفه وتقلّبه ومزاجيته وتموّجاته ومواهبه، في فرديته وشموخه وفي عبثيته ومأساويته.

وليد جمعة المنشق عن وسطه وجماعته الساعي للاندماج في جماعة أوسع وأكبر، ولكن كيف تستقيم الفردية حد الاتفاق والاندماج، وصولاً إلى الفناء والذوبان في ذات جريحة وروح نازفة. حين حصل تحوّله بدا منحازاً مثلما هو ذاهب إلى عرس، لكن قامته ضاقت والدهر انقلب عليه، واستيقظ على انشطارات رهيبة، فلم يكن الأمر بالنسبة له سوى وهماً.

نقد اليسار

تنازعه عاملان : انتماؤه لليسار ونقده لليسار على ذات الدرجة من القناعة. مرّة قال لي كنت أعتقد إن أعضاء حزب البعث وحدهم الجاهلون، المبتلون بحبك المؤامرات ونسج الدسائس، فإذا بي أكتشف جهلاً لا يقل لدى أعضاء الحزب الشيوعي، بل إن افتتناهم بالمؤامرات والتقارير أكثر من غيرهم، لكنه استدرك بالقول وجدت في بعض قيادات وكوادر الحزب الشيوعي مثقفين، وإنْ كانت الغالبية ركن الريف على حد تعبير ابراهيم الحريري، ويزيد وليد جمعة، بل أصبح بعضهم من روّاد الملالي (بصق حين تذكّر من كان يعلّق صورة الخميني فوق رأسه) والأغوات الأكراد، وعلق بالقول: فهؤلاء المغلوبون غير قادرين على القيادة.

عدّل من رأيه الحاد هذا عندما التقينا برحيم عجينة وعبد الرزاق الصافي في حانة “قصر البلور” بدمشق منطقة باب توما، فأبدى إعجاباً بثقافتهما على غير عادته، لكنه أعاد رأيه السابق: القيادة أفضل من القاعدة، قلت له وذلك من باب المناكفة والاستفزاز، لأسمع ما بعد التعليق: إنها النجف وكربلاء دون انحياز. واستطردت بالقول: إنهما مدينتان منفتحتان على العالم، تجارياً وسياحياً ودينياً وعلمياً وثقافياً ولا تنسى كلاهما متعلمان ودرسا في أوروبا، فعجينة درس الطب في الاسكندرية، ثم في لندن، والصافي بعد أن تخرج من الحقوق ، وكان قد تأخر فيها لأسباب سياسية، ثم درس في بلغاريا وعمل في “إذاعة صوت الشعب العراقي” التي كانت تبث من صوفيا وكان رئيساً لتحرير طريق الشعب. وكلاهما كانت لغته العربية ممتازة. صمت قليلاً، ثم قال بسخريته اللاذعة: لكنهما بلا قرار مثل سعدون حمادي وطارق عزيز ، أو  مثل وزيركم الفهيم، لكنه بلا وزارة (ويقصد عامر عبدالله).

قال تصوّر يا عبد الحسين إنني أستطيع القول ودون أي شعور بالشطط إن القاعدة أسوأ من القيادة، فما بالك بقيادات بعضها لم يذهب إلى المدرسة، والآخر سار وراء أنصاف الأميين، والقسم المتبقي مغضوب عليه ولا يُعرف متى يتم الاستغناء عنه . لقد خسرتم أدواركم وباخت وعودكم وأنتم تحاربون خارج الميدان.

لم يرغب في الظهور بمظهر البطل، لأن البطولة غائبة، وهذه تحتاج إلى ملحمة وحكاية وحبكة درامية، وعلى نحو مفاجئ خاطبني: هل ستحكون كيف نمتم فوق الصخور، حتى مطلع الشمس وجاءكم الاتحاد الوطني الكردستاني، ليلتقطكم واحداً واحداً، وليفرض عليكم لاحقاً التغنّي بمجده وكبريائه، وهو الذاهب والآتي إلى بغداد يومذاك، مثلما تغنيّتم بالحزب الحليف وكاسترو العراق، وكنتم تمطروننا بشتى التهم لأننا كنّا ننتقد حليفكم “الغالي” واستخذاؤكم أمامه، كل ذلك وتقولون إنكم طليعة، وحين سمع بالمشاركة بمجلس الحكم الانتقالي: هاتفني قائلاً هل أعلن براءتي من الشيوعية وتجّارها ، ثم علّق ولكن حتى البراءة لم تعد لها من مدلولات، ولو قدّمنا البراءة سيكون مثل هذا الموقف أفضل من الانخراط بجوقة الطائفيين.

قلت له: لقد  اجترحنا بطولات في بشتاشان لا حدود لها، وبرز من بيننا شجعان وأبطال حقيقيين، قال لي لكن المشهد العام كان هزيمة نكراء، ليس على الصعيد العسكري، بل على الصعيد السياسي، في الخطة والتحالف والمكان وفي اختيار العدو والصديق. وكرّر ذلك: قل لي أنتم: لماذا تنتقلون من هزيمة وفشل إلى هزيمة أخرى وفشل آخر، في حين كنتم قيادة للناس أيام الحكم الملكي؟ لكن وليد جمعة الذي كان ينتقدنا بشدّة وشراسة أحياناً، إلاّ أن نقده كان مملّحاً، وهو من موقع الصديق والمثقف النقدي، وحتى حينما يشط في انتقاداته ويرمي بمدفعيته الثقيلة ضدنا أو ضد العراق، فهو عن مرارة وحرقة وتكسّر أحلام، وسرعان ما يستفيق فيعدّل الميزان، وللأسف لم تكن لدى الكثيرين منّا سعة الصدور والرحابة في قبول النقد وأحياناً حتى سماعه وغالباً ما يتم صدّه أو مجابهته بتاريخه البعثي.

ضد الشيوعي

حين شنّت السلطة البعثية في أواخر العام 1978 وأوائل 1979 حملة شرسة ضد الحزب الشيوعي، ذهب وليد جمعة إلى جريدة طريق الشعب التي كانت تفرغ يوماً بعد يوم، أما بسبب الاعتقالات أو الاختفاء أو الهرب خارج العراق، وطلب العمل متطوعاً، وكان حين يأخذ سيارة الأجرة لتوصله إلى الجريدة، يقول للسائق بعد سؤاله إلى أين يتجه، فيجيبه بكل تعالٍ وفوقية إلى ” التهمة”، وحين يستغرب السائق يكرّر عليه ألا تعرف التهمة إنها ” طريق الشعب” فيتصور السائق إما إنه مسؤول أمني كبير، أو شخص مهم من الحزب الحاكم، ويضحك وليد جمعة في عبّه، قائلاً إذا كان السائق  شرطي أمن، فإما أن يعتقلني وبذلك يجنبني شر الانتظار والقلق والبلاء القادم، أو إنه سائق عادي فسيخاف مني حين أخاطبه بهذه الطريقة، وإنْ كان غلباناً مثلي، فسينصاع ويوصلني حدّ الباب، وقد قال لي أن أحد السواق لم يأخذ ثمن الأجرة، ربما خوفاً أو ارتباكاً أو تعاطفاً مع طريق الشعب “المراقبة”.

بعد مغادرة العراق إلى بيروت كتب في مجلة الرصيف (العام 1981) قصيدة بعنوان ” حين تأتينا الشتيمة من شبابيك اليسار” يقول :

صفحة أخرى وتشحب

تتهاوى

وتقول الناس خانت

ربما أنت التخون

لا تقلْ إن الجنون

جبهة كالطير طارت

يا ابن آوى، كلّنا مثلك

ثعلب!!

حين جاء إلى لندن سألني السيد محمد بحر العلوم عنه، فقد سمع بوجوده، هل صحيح إنه هجّاء وشتّام وأحياناً بتوجهات طائفية؟ قلت له إن هذا آخرهمّ لوليد جمعة، فهو يهجو الجميع بمن فيهم أمه، وليس لديه محظورات. وكان يقصد قصيدته التي مطلعها :

” أريد أضرب هدف بحري وبرّي

وفرّج للخلك خير وبرّي

خلخالي الـ .. وبرّي

وطشّر هالـ … عالجعفرية

وهي القصيدة التي كان السيد هاني فحص يردّدها كلما انفردنا وكان الجو مواتياً، ثم يأخذ بالضحك قائلاً: “نستأهل”!.

ذهب وليد جمعة إلى الموت كأنه سرب كامل من العصافير أو الأعاصير. أنفق حياته حتى القطرة الأخيرة، بحيث لم يترك للموت أن يأخذ منها شيئاً إلى القبر غير الجسد المتهالك. لم يكن وليد جمعة رقماً عابراً، بل كان كياناً قائماً  وحتى الآن نحن لم نكتب له ، ولم نكتب عنه، بل إننا لم نقرأه جيّداً على شحّ ما وقع بين أيدينا، وهو ما نحتاج إلى جمعه وتوثيقه وتدقيقه. لقد كتبنا دموعنا وفداحتنا وخيباتنا وإنكسار أحلامنا. وعادة ما يموت الناس، فذلك أمر طبيعي، لكن وليد جمعة قتلته الحياة ذاتها، فقد ظل باحثاً عن الموت لأكثر من أربعة عقود من الزمان، لأنه استشعر الهزيمة منذ وقت مبكّر، وكان يريد الانتقال إلى العالم الآخر دون مكابرة، وأحياناً يتوسّل بما هو أقرب كي يصل إلى ما يريد بطريقة أسرع.

رثى وليد جمعة نفسه حين كتب قصيدة بعنوان: ” العبئريون” سيرثونني ويقول فيها:

ملثمٌ بالموت

عندي مراسيم لدفني من يد القابلة

عندي له: عدته البغيضة الرثة

زجاجة السمّ ومرثيّة

حبلٌ من القنّبِ

لا مقصلة

–              ملحوظة عن عتعتات الزمن-

تفلة على غباء الوطن

وحفرة في قاعة الخلد

أو المزبلة

الصمت والتطهّر

كان وليد جمعة متحرّراً من عبء الكتابات المدرسية والأبحاث الأكاديمية ، وكان يضع موهبته ونزقه، مع إحساسه باللاجدوّى، ويمدّ لسانه إلى التاريخ أحياناً، بكل هزء، ولاسيّما، وهو يتلذّذ بالكلمات البذيئة، يخرجها من فمه ويعيد رجع صداها، وهو الذي يصرّ على تخريب نفسه أحياناً بإخراجها من الحياة.

مشاركة