عولمة الثقافة الأمريكية
وسائل الإعلام تتولى دس صيرورة التميّز
ريتشارد بيلز
ترجمة: فضيلة يـزل
منذ الحادي عشر من سبتمبر، وكُتاب المقالات في الصحف والمجلات وخبراء الأعمال التلفزيونية يقولون لنا: لا القوة الاقتصادية للولايات المتحدة ولا السياسة الخارجية الأحادية لإدارة بوش هما اللذان نميا حالة العداء العالمي لنزعة الأمركة فحسب، بل ان كره العالم للولايات المتحـدة نجم عن “نزعتها الإمبريالية الثقافية” أيضاً. وقد سمعنا كثيراً عن كيف ان الثقافة الجماهيرية الأمريكية تثير استياءاً، وأحياناً، ردود فعل عنيفة، ليس فقط في الشرق الأوسط بل في كل أنحاء العالم.
فضلاً عن ذلك، ان الاستياء من هيمنة الثقافة الأمريكية لم يكن جديداً، ففي عام 1901 نشر الكاتب البريطاني “وليم ستيد” كتاباً بعنوان (أمركة العالم) وكان نذير شؤوم. فقد ولد مجموعة مخاوف مستقبلية حول اختفاء اللغات والتقاليد القومية، وطمس هويات بعض البلدان الفريدة من نوعها تحت وطأة العادات الأمريكية.
لقد أصبحت العولمة الآن هي العدو الرئيس للناشطين الأكاديميين والصحفيين والسياسيين الذين شجبوا ما يشاهدونه من ميل اتجاه محاولة توحيد الثقافة. وهم ما زالوا يعدون الثقافة العالمية والثقافة الأمريكية ثقافتان مترادفتين. وواصلوا إصرارهم على ان صناعة السينما الأمريكية ومجموعة مطاعم ماكدونالد وعالم دزني محاولة لمحو أو أجتثاث الاختلافات المحلية والإقليمية المركزية وعملية لنشر الصور والرسائل لغرض تضليل وأغراء الأصوات المنافسة في البلدان الأخرى.
على الرغم من هذه الادعاءات، فإن العلاقة الثقافية بين الولايات المتحدة وباقي دول العالم وخلال 100 عام كانت ثقافة أحادية الجانب. وعلى نحو مغاير، كانت الولايات المتحدة وما زالت، مستهلكاً كبيراً للتأثيرات الفكرية والفنية الأجنبية على أساس أنها راعية لوسائل الترفية واختلاف الأذواق في العالم.
قد لا يستسيغ عدد كبير ليس من الأجانب ، بل من الأمريكان أنفسهم هذه المناقشة بسهولة.
فالكليشهات حول هيمنة الثقافة الأمريكية جعلت من الصعب جداً ان يدرك معظم الناس الثقافة العالمية المعاصرة هي بالكاد صيرورة منليثية (متكشفة عن وحدة متراصة وتناغم كلي) دستها وسائل الأعلام الأمريكية للعالم.
وليس من السهل بالنسبة لنقاد الميكروسوفت أو تايم ورنير إدراك ان مفهوم التناغم وتميز الثقافة الأمريكية يحيط بالعالم كله مرسخاً قيمها في عقول الأجانب .. هو مجرد أسطورة.
مجموع المهاجرين
في الحقيقة، ان الشعب الأمريكي شعب تكون من مجموع المهاجرين من القرن التاسع عشر وحتى القرن الواحد والعشرين، وأصبحت الولايات المتحدة مأوى للاجئين والعلماء والفنانين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، فكانت الدولة التي تستقبل الثقافة العالمية بقدر ما كانت مصدرة لها. في الواقع، ان تأثير المهاجرين والأمريكان ـ الأفارقة على الولايات المتحدة يوضح لماذا أصبحت ثقافتها شعبية جداً في أماكن كثيرة. إذ انتشرت الثقافة الأمريكية في العالم لأن لها أساليبها وأفكارها الخارجية التي تنشد التوحد. فما فعله الأمريكان كان أكثر وضوحاً مما فعله منافسوهم عبر البحار وهو أعادة تجميع النتاجات الثقافية التي نتلقاها من الخارج ثم إعادة نقلها إلى دول العالم الأخرى. بالنتيجة، أصبح الأميركان متخصصون في بيع الأحلام، والمخاوف وفلكلور الشعوب إليهم. وهذا هو السبب الذي جعل كل ثقافة جماهيرية عالمية تصبح ثقافة محدودة ببساطة في الولايات المتحدة.
بعد كل هذا لم يبتدع الأمريكان وجبات الطعام السريعة، ومتنزهات الترفية أو أشرطة الأفلام، فقبل بك ماك، كانت هناك وجبات “الفش اند جبس fish and chips”. وقبل عالم ديزني كانت حدائق تيفولي في كوبنهاغن (التي استخدمها ولت ديزني كنموذج لفكرته الأولى لإنشاء متنزة، في اناهيم، وقد تم أعادة تصدير النموذج فيما بعد إلى طوكيو وباريس). ولا يمكن المؤسسي وسائل الترفيه الدولية في الوقت الحاضر ان يقتفوا إثر P.TB arnum أو Buffalo Bill . فجذور الثقافة العالمية الجديدة تعود كذلك إلى غزو الحداثة الأوربية في أوائل القرن العشرين من أدب وموسيقى ورسم وعمارة كانت موجودة في القرن التاسع عشر خصوصاً في رفض الحداثة إلى احترام الحدود التقليدية بين الثقافة الراقية والثقافة البسيطة. كانت نزعة الحداثة في الفنون نزعة ارتجالية، انتقائية، عديمة الاحترام. هذه السمات كانت أيضاً بعض صفات الثقافة، ولم تكن صفات خاصة بثقافة الجماهير. كانت العلامة المميزة لثقافة القرن التاسع عشر في أوربا وكذلك في أسيا إصرارها على الدفاع عن النقاء في الأدب، والموسيقى الكلاسيكية والرسومات التمثيلية ضد حالات تطفل أو إقحام الفلكلور ووسائل التسلية المألوفة.
فلا أحد يخلط روايات تولستوي بروايات لا تحمل أي قيمة أدبية ولا الأوبرا بعروض وايلد ويست، ولا لوفر بجزيرة كاني. فمن المفترض ان تكون الثقافة الراقية ثقافة تعليمية وتأملية تؤدي إلى الارتقاء، وطريقة للحفاظ على أفضل ما موجود في الحضارة الإنسانية.
مثل هذه المعتقدات لا تعني بان ديكنز لم يكن مهتماً بالميلودراما، أو ان (براهامز) يزدري سماع الأغاني الشعبية، وان الكتاب الصينيون أو اليابانييون ورساميهم يرفضون الاعتماد على الموروثات الفلكلورية الشفهية. بل ان القرن التاسع عشر واصل الحفاظ على الحدود بين الثقافة الراقية والثقافة البسيطة بإصرار.
لقد حطم فنانو القرن العشرين ما كان يبدو لهم حدوداً تمييزية مصطنعة بين الأشكال الثقافية المختلفة، وهم يتحدون بذلك فكرة ان الثقافة كانت وسيلة لأجراء التطور الفكري والأخلاقي، وقد فعلوا ذلك من خلال التأكيد على الأسلوب والحرفية على حساب الفلسفة والدين والأيديولوجية. وقاموا بجذب الاهتمام باللغة في رواياتهم بشكل مقصود وبالبصريات في رسوماتهم وبالماديات فيها ووظيفة البناء المعماري لها، والى البنية الموسيقية بدلاً من أتساق الأصوات أو تناغمها. تدفعهم الرغبة في مفاجأة جمهورهم، وقد نجحوا في تحقيق ذلك. ان الرسم والأدب الحديث يؤكدان على صور العري المشوهة للحقيقة، وإباحية العلاقات الجنسية وأفكار العنف .. وقد تمت مهاجمتها لأنها انحطاط وفحش، ولأنها تحفز الغرائز لدى الإنسان. وبالطريقة نفسها شجب النقاد فيما بعد السوقية والفظاظة في الثقافة الشعبية.
بالرغم من ان الفكر الحداثوي هاجم التقاليد التي سادت الثقافة الجماهيرية في أوربا واسيا في القرن التاسع عشر إلا انها سارعت وبشكل غير مقصود في نمو الثقافة الجماهيرية في الولايات المتحدة. في الواقع، ان الأمريكان متفتحون أساساً لتقبل الضبابية وعدم الوضوح في الاتجاهات الثقافية. كانت فرق الاوركسترا التي تعزف السيمفونيات في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر تدرج غالباً موسيقى الفرق الشعبية ضمن برنامجها ويطلب من مغني الأوبرا أداء سيمفونيات موزارت وستيفن فوستر.وهكذا، بالنسبة للأمريكان في القرن العشرين، كانت السريالية مع تداعيات أحلامها تجيز لنفسها التلاعب بالكلمات بسهولة وسمحت الرمزية السايكولوجية في صناعة الإعلان وأفلام الكارتون وبناء المتنزهات. أما الدادائية فقد سخرت من تقليد مؤسسات النخبة الثقافية وعززت،عوضاً عنها، الميل القائم (خصوصاً بين جمهور المهاجرين في الولايات المتحدة) لمشاهدة عروض المسرحيات النيكلية المناوئة للبرجوازية ومسرحيات الفودفيل الهزلية لدى أبناء الطبقة الدنيا. ان تجارب سترانفسكي مع موسيقى الإثارة (وهي موسيقى لا تتبع الأنظمة الموسيقية ولا تلتزم بألحان معينة) التي أجازت ابتكار إيقاعات جديدة في موسيقى الجاز الأمريكي. ان كتاب أمثال همنغواي كانوا يمقتون الزخرفة البلاغية في نثر القرن التاسع عشر، فقاموا بابتكار لغة مهذبة وعملية، كُرست لإعادة إنتاج السمات الأولية للتجربة الشخصية قدر الأمكان وعلى نحو متحمس. وقد أصبح الأسلوب الموجز والمقتضب إنموذجاً للصحافة المعاصرة، والقصص البوليسية والحوارات السينمائية.
الثقافة حقيقية
لقد قدمت هذه الميول جميعها الأسس لثقافة حقيقية جديدة. لكن، انتهى الأمر بها ولم تعرف فيما إذا كانت ثقافة حداثوية أم ثقافة أوربية. وبدلاً من ذلك، حولت الولايات المتحدة ما يعرف بثقافة الأبرشية (الضيقة) والتي لا زالت تدعو بشكل كبير الشباب والمتمردين في المجتمع الغربي، إلى ظاهرة العالمية. أن نزوع المثقفين الأمريكان إلى استعارة أفكار الحداثة وتحويلها إلى ثقافة عالمية، أمر يمكن ملاحظته بوضوح في التطبيقات التجارية للعمارة الحديثة. لقد عُدَّت حركة بوهاوس الأوربية BauhausMovement The European في القرن العشرين على أنها .. تجربة اجتماعية في أسكان الطبقة العاملة .. وقدمت في الواقع النظريات والأساليب التي تخص بناء ناطحات السحاب والبيوت المخصصة لقضاء العطل فيها والمزودة بوسائل الراحة المختلفة في الولايات المتحدة. لكن الأفكار المعمارية نفسها أرسلت مرة أخرى إلى أوربا بعد الحرب العالمية الثانية على انها نموذج لإعادة أعمار المدن التي طالها القصف كمدينة روتردام وكولونيا وفرانكفورت. هكذا نقلت الولايات المتحدة ما كان ثورة مميزة أصلاً (وان كانت محلية)، من خلال المعماريين الهولنديين والألمان إلى “طراز عالمي” شمولي.
لكن في الثقافة الشعبية يمكن ان تعد العلاقة المتبادلة بين أمريكا وباقي دول العالم علاقة جيدة. إذ توجد أسباب عديدة لهيمنة الثقافة الجماهيرية الأمريكية. بالتأكيد، كانت القدرة الأمريكية تستند على التكتلات الإعلامية للسيطرة على الإنتاج وتوزيع منتجاتها التي كانت حافزاً كبيراً لرواج وسائل الترفية الأمريكية في العالم لكن لم يكن نفوذ الرأسمالية الأمريكية هو التفسير الوحيد لانتشار الأشرطة السينمائية والعروض التلفزيونية الأمريكية في العالم.
ان تأثير اللغة الإنكليزية بوصفها لغة وسائل الاتصال الجماهيرية كان فعالاً في تقبل الثقافة الأمريكية، إذ لم تُحدث اللغات الأخرى كالألمانية والروسية والصينية التأثير نفسه، فبساطة بنائية ونحو اللغة الإنكليزية يتماشى مع نزعتها لاستخدام المختصرات والكلمات الأقل تجرداً واستخدام الجمل المقتضبة جداً، جميعها عادت بالنفع على مؤلفي القصائد الغنائية، والشعارات الدعائية والتعليقات على الكاريكاتير والعناوين الرئيسة في الصحف والحوارات السينمائية والتلفزيونية. بهذا تكون اللغة الإنكليزية ملائمة جداً وبشكل استثنائي لمتطلبات انتشار الثقافة الجماهيرية الأمريكية.
العامل الأخر هو حجم الجمهور الأمريكي، فالسوق المحلية الكبيرة جعلتها متيسرة لكثير من صناع الفلم الأمريكي ومنفذي الأعمال التلفازية لاسترجاع معظم تكاليف إنتاجهم والحصول على ربح ضمن حدود الولايات المتحدة. ذلك الإسناد الاقتصادي مكن من إنفاق المزيد من الأموال على إعداد النجوم وتهيئة الترتيبات والمؤثرات الخاصة والترويج المحلي واتخاذ الإجراءات للإعلان عنها .. كانت المقومات الحقيقية التي جذبت الجمهور العالمي كذلك.
حتى مع هذه المنافع الكثيرة، لم تكن ثقافة الجماهير في أمريكا متاحة لجميع الأمريكان. فالجمهور الأمريكي ليس جمهوراً واسعاً فقط، بسبب تدفق المهاجرين واللاجئين، بل انه أيضاً جمهور عالمي بطبيعته. ان اختلاف الأبناء عن الإباء في المجتمع الأمريكي، جعل منه مجتمعاً يتصف بالإقليمية والأثينية والدينية والتمييز العنصري .. العوامل التي أخضعت وسائل الأعلام ـ منذ السنوات الأولى للقرن العشرين ـ لخوض تجربة استخدام الرسائل والصور ومسارات القصة التي تدعو إلى تعدد ثقافي واسع. لقد تعلمت استوديوهات هوليود والمجلات الدورية الجماهيرية وشبكات التلفزة كيف تخاطب هذه المجموعات والطبقات المتنوعة في البلد. مما منحها التقنيات الواسعة لدعوة جمهورها المتنوع في الخارج على حد سواء. وكانت السوق المحلية الأمريكية، بشكل جوهري، مختبراً ومكاناً لتطوير النتاج الثقافي الذي يمكن ان تتبناه السوق العالمية بعد ذلك.المهم، ان وسائل الأعلام الأمريكية نجحت في تجاوز التقسيمات الاجتماعية الداخلية، والحدود الوطنية ومحددات اللغة من خلال تمازج الأساليب الثقافية. فقد اتبع الموسيقيون والعاملون في وسائل الترفيه نموذج من الفنانين الحداثويين أمثال بيكاسو و براك في الرسم على مفردات من الثقافة الراقية والثقافة الدنيا، موحدين بين المقدس والمدنس. وتبنى العاملون في الإعلان الأساليب السريالية والتعبيرية التجريدية لجعل نتاجاتهم مثيرة لاهتمام الآخرين. وقام مؤلفون موسيقيون أمثال آرون كوبلاند وجورج غيرشون وليونارد بيرنشتاين بمزج الأغاني الفلكلورية والترنيمات الدينية والأغاني الزنجية ذات الطابع الحزين والأغاني الإنجيلية والجاز مع سمفونياتهم، وفي الكونسيرتو والأوبرا وموسيقى البالية. في الواقع، الشكل الفني المقارب لشكل موسيقى الجاز الأمريكية أساساً كان يستحضر خلال القرن العشرين في مزيج من الموسيقى الأفريقية والكاريبية والأمريكية اللاتينية والموسيقى الأوربية الحداثوية. ان هذا المزج بين الأشكال في الثقافة الجماهيرية في أمريكا عزز دعوتها لجمهور محلي وعالمي متعدد الأعراق والطوائف والأديان من خلال الاستحواذ على معارفهم وأذواقهم المختلفة.
لم نجد ميداناً ظهرت فيه التأثيرات الأجنبية واضحة أكثر من ميدان صناعة السينما الأمريكية. وفي مختلف الأحوال والظروف أصبحت هوليود، في القرن العشــــــــرين، العاصمة الثقافية في العالم الحدـــــــيث. بل لم تكن عاصمة أمريكية بشـــــكل حصري. ومثلها مثل المراكز الثـــــــــقافية الراسخة .. فلورنس وباريس وفينا .. وقد وظفت هوليود لتكون مجموعة عالمية، بناها رجال الأعمال المهاجرون واستفادوا من مواهب الممثلين والمخرجين والمؤلفين وكتاب السيناريو والمحررين والزبائن ومجموعة المصممين من أنحاء العالم كافة. لقد كان نجم الأفلام الأمريكي الأول، شارلي شابلن يمتلك المهارات الكوميدية التي شحذتها صالات الموسيقى البريطانية.
واقعية جديدة
فضلاً عن ذلك، وخلال وقت طويل من القرن العشرين، فكر صناع السينما الأمريكان بأنفسهم على انهم مساعدون برزوا لأول مرة من خلال الأعمال المتميزة لمخرجين أجانب. في العشرينيات ، فقد تمكن عدد قليل من المخرجين الأمريكان الحصول على الاعتراف بهم في مجموعة الفنانين الأمريكية التي كانت تضم (سيرجي ايزينشتاين وأف. دبل يو. مورناو). وكانت السنوات التي تلت الحرب، من الأربعينيات إلى منتصف الستينات، مرة أخرى هي سنوات العصر الذهبي بالنسبة لصناعة الأفلام في بريطانيا والسويد وفرنسا وايطاليا واليابان والهند. وقد شهدت زيادة غير اعتيادية في عدد المخرجين الأجانب الموهوبين والمعروفين عالمياً.
مع ذلك، كان احد التناقضات لدى السينمائيين الأمريكان والآسيويين ان نجاحاتهم الباهرة كانت في نتاج الموضوعات الأمريكية القائمة على المحاكاة والتقليد. فهؤلاء يدينون بأساليبهم الأرتجالية واستغراقهم بكل ما يتعلق بسيرهم الذاتية إلى الواقعية الإيطالية الجديدة والتيار الفرنسي الجديد. لكن من، يحتاج إلى مشاهدة سيرةأخرى تشبه سيرة (لا دولس La Dolce )، عندما يتمتع بمشاهدة (ناشفيل Nashville) ؟
وبالتالي، أصبح العاملون في صناعة الأفلام متنفذين جداً بسبب امتلاكهم للثروة، التي ساعدت على أحداث ثورة في السينما، فبعد الستينيات والسبعينيات أصبح من الصعب جداً لصناعة الفلم في أي دولة أوربية أخرى ان تتبارى مع شعبية وانتشار الفلم الأمريكي في العالم.
مرة أخرى، وعلى أية حال، ينبغي ان نتذكر ان السينما الهوليودية لم تكن على الإطلاق سينما أمريكية فحسب. فالمخرجون الإميريكيون، في كل العصور، كانوا ينافسون الفنانين الأجانب وصناع السينما من خلال الاهتمام بأسلوب الفلم ومواصفاته الشكلية، والحاجة إلى طرح قصة حقيقية. لقد أراد رساموا بدايات القرن العشرين الأوربيين من المشاهدين إدراك أنهم يعتنون بالخطوط والألوان على قماشة الرسم أكثر مما يعتنون باستنساخ العالم الحقيقي. وهذا ما فعله العديد من الأفلام الأميريكية .. ابتداءً من رواة متعددون في فلم (المواطن كين)، في رسم صورة على الشاشة الناعمة تتعلق بكيف ان عاشقين تخيلا علاقتهم في قصر آني، ومشاهد استرجاع الماضي واستشراف المستقبل في قصص الإثارة، إلى الزهور المتبرعمة من فكر فتاة (كيفن سبايسي) الخيالية الحالمة بالجمال الأمريكي .. وبشكل مقصود يبقى الجمهور يشاهد فلماً بدلاً من مشاهدة مسرحية أو نسخة مصورة من الحقيقة. ان صناع الفلم الأمريكي ( ليس الذين يعملون في صناعة السينما فقط بل والتلفاز أيضاً) يرغبون باستخدام كل الأساليب المعقدة في التحرير والإعداد لعمل الكاميرا، تلك الأساليب التي كان الكثير منها مستلهم من أعمال المخرجين الأوربيين، في خلق جدارية حداثوية عن الصور التي تزيين التفوق والأغراء بالحياة في العالم المعاصر.ان إدمان هوليود للمشاهد الحقيقية الحداثوية التي تثير المشاعر كان واضحاً لاسيما في الأسلوب الذي تنقصه البراعة اللفظية بشكل واسع لدى عدد من مؤديها المعاصرين. والميل الى الهمهمة لم يكن دائماً بشكل غامض. في الثلاثينيات والأربعينيات، كان لفظ ومعنى الكلمة مهماً ليس فقط في السينما بل في المسجل والراديو أيضاً. لقد كان بعض النجوم الوطنيين أمثال (جون وايين وغاري كوبر)، من الممثلين الذين صقلت موهبتهم بشكل معروف إذ يستطيع المشاهد على الأقل سماع أو فهم ما يقولونه بوضوح. لكن مركزية اللغة في الأفلام في الثلاثينيات أدت، في الغالب، إلى الاعتماد في هوليود على الممثلين البريطانيين ( مثل، كاري غرانت) أو على الأمريكان الذين يتلفظ البريطانية بشكل واضح ( مثل، كاثرين هيبورن وبيت ديفز).انها صورة توضيحية لكيف كانت الموهبة الأجنبية مهمة (لاسيما البريطانية) بالنسبة لهوليود في العصور المبكرة، إذ كان سكارليت أوهارا وبلانتش بوبويز من أشهر فنانوا الجنوب في الرواية والمسرحية الأمريكية، فقد مثلوا في أفلام أخرجتها فيفين ليف .
لقد ظهرت البلاغة الحقيقية في تمثيل ما قبل الحرب العالمية الثانية، في كل من السينما والمسرح، ولكنها اختفت بعد عام 1945. بعد الأداء المثير للفنان مارلون براندو في فلم (قطار يسمى الرغبة) ، في عروض مسرح عام 1947 وعروض تلفزيون عام 1951 أصبح النموذج الأمريكي للتمثيل عاجز عن الإفصاح عن ما يريد .. مما أدى الى إيقاف تأمل الذات وإطالة أمد التفكير التي لا توجد لدى الأبطال الأذكياء والبطلات في المشاهد الكوميدية الحمقاء وأفلام العصابات في الثلاثينيات. لقد تدرب براندوا بطرق منهجية وتطور أسلوب التمثيل لديه أساساً في مسرح الفن في موسكو لستاسلافسكي فيما قبل الثورة الروسية، بعدها أرسل إلى نيويورك من قبل عدد من جماعة المسرح خلال الثلاثينيات. حيث ان الممثلين البريطانيون الذين تدربوا على إعمال شكسبير، تعلموا تحمل مسؤولياتهم تجاه الدور كما مكتوب. شجعت الطريقة المنهجية الممثلين على الارتجال واستدعاء ذكريات الطفولة، والكشف عن مشاعرهم الداخلية، على حساب ما كان يقصده كاتب المسرحية او كاتب السيناريوغالباً.
غير القابلة
بعد الحرب العالمية الثانية، كان التأثير الوجداني في التمثيل يعود كثيراً إلى ما لم يقال، وإلى ما لم يكن مرتبطاً بالكلمات. فقد اعتمد الممثل المنهجي على الأساليب المادية، فحتى الصمت في تفسير دور ما قد يكون مناسباً جداً لسينما تضع جائزة للأشياء غير القابلة للأفصاح والتوضيح. في الواقع، لم يكن تأثير المنهجية في الولايات المتحدة فقط بل في الخارج أيضاً (حيث انعكست في اساليب التمثيل لدى جين بول بيلموندو و مارسيلو ماستروياني)، فهي مثال كلاسيكي على أهمية الأفكار الأجنبية في المسرح، والتي تبنتها الأفلام السينمائية بُعيد الحرب الأمريكية، ثم نقلت الى باقي انحاء العالم كمخطط للسلوك السينمائي والأجتماعي. من المهم جداً القول ، ان تغاضي الطريقة المنهجية عن اللغة سمحت لمشاهدي العالم ـ حتى أولئك الذي لا يجيدون اللغة الأنكليزية بصورة جيدة ـ فهم وتقييم ما كانوا يشاهدونه في الأفلام الأمريكية.أخيراً، لقد قلدت الثقافة الأمريكية ليس التوهج المفعم بالحيوية للحداثويين فقط بل تأكيدهم على حرية التعبير الشخصية وميلهم لمعاداة الفكر السياسي والأيديولوجي. ان رفض ارهاق المشاهد برسالة اجتماعية محسوباً أكثر من اي عامل أخر، بالنسبة للأنتشار العالمي في وسائل الترفيه الأمريكية. كانت الأفلام الأمريكية بشكل خاص تركز أساساً على العلاقات الأنسانية والمشاعر الذاتية، وليس على المشاكل التي تتعلق بزمان أو مكان محدد. فهي تقدم الحكايات عن الحب والأستقامة والنجاح والفشل والخلافات الأخلاقية والنضال من أجل الحياة. ان معظم الأفلام التي بقيت في الذاكرة في الثلاثينات (بأستثناء عناقيد الغضب) كانت أفلام كوميدية وموسيقية عن الناس الذين وقعوا في الحب دون ان يكونوا متكافئون مع بعضهم بعضاً، ولم تكن أفلاماً واعية اجتماعياً، تتناول قضايا الفقر والبطالة. وبالمقابل، بقيت الأفلام الجيدة التي تتحدث عن الحرب العالمية الثانية (مثل فلم كازابلانكا) أو (الحرب الفيتنامية) أو (صائد الغزال) في الذاكرة طويلاً بعد ان انتهت تلك الحروب لأنها عرضت مشاعر صادقة للشخصيات بقيت خالدة أكثر مما بقيت في عناوين الأحداث الرئيسة.
ان مثل هذه المشكلات الشخصية العاطفية، مشكلات يعاني منها الناس في كل مكان. لقد احتشد المشاهدون الأوربيون والآسيويون والأمريكيون ـ اللاتينيون لمشاهدة فلم تايتانك (كما فعلوا ذلك مع فلم (ذهب مع الريح) ليس لأن هذه الأفلام تمجد القيم الأمريكية، بل لأن الناس في كل انحاء العالم يمكنهم مشاهدة جزءاً من حياتهم الخاصة منعكساً في قصة الحب والضياع. لقد كانت الثقافة الجماهيرية في امريكا غالباً غير مصقولة وتطفلية، كما يقول نقادها من الأكادميين الأمريكين أمثال بنيامين باربر، وحتى المخرجين الألمان أمثال (فيم فيندرس) الذين كانوا مستاؤون منها دائماً. وفي نظرهم ان الثقافة الأمريكية ثقافة استعمارية دون ان يعي لأخر بذلك، لأنها حولتنا جميعاً الى مواطنين سلبيين في “نظر العالم”.
لكن الثقافة الأمريكية لم تشعر ابداً بتلك الغرابة اتجاه الغرباء. وفي أفضل حالاتها، انها حولت ما تلقته من الأخرين الى ثقافة يمكن ان يتقبلها كل شخص، في كل مكان، ثقافة وجدانية وفنية، في متناول الملايين من الناس في كل أنحاء العالم.
على الرغم من العداء الحالي للسياسات والقيم الأمريكية، في أوربا وأمريكا اللاتينية وكذلك في الشرق الأوسط واسيا من المهم ملاحظة كيف ان الكثير المألوف من الثقافة الأمريكية يبدو للناس أنه دخيل عليها. على أية حال، ان عروضنا السينمائية والتلفازية أقل إمبريالية منها كوزموبوليتانية ( متحررة من الأحقاد القومية والمحلية). في النهاية، لم تحول الثقافة الجماهيرية الأمريكية العالم الى نسخها طبق الأصل منها، وعوضاً عن ذلك، ان اعتماد امريكا على الثقافة الأجنبية جعل منها نسخة مطابقة للعالم.
عن مجلة كرونكل Chronicle Review/ نيسان، 2002
ريتشارد بيلز : بروفيسور في التاريخ في جامعة تكساس في أوستن. صدر له كتاب(1997 ، عن مجموعة الكتب الأساسية) بعنوان (لا يحبوننا) يتحدث عن حب وكره الأوربيين للثقافة الأمريكية وما نقلوه منها منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.