علي المندلاوي يفتح ألبوم الرسوم
وجوه.. أم سماء مرصعة بالنجوم؟
أحمد عبد المجيد
بغداد
اواخر السبعينات، التقطت اولى الاشارات من خطوط رسام استثنائي عرفت، فيما بعد، ان اسمه علي المندلاوي . كان خارج القالب السائد في مناهج فن الكاركاتير. هو مزيج من ضربات سياط هذا الفن المتمرد، ولمسات الفنان التشكيلي الباذخ. ولم يكن صعبا على موهبة كالتي يتحلى بها المندلاوي ان تقتحم اسوار كثير من المنابر الموصدة وان تعتليها، لتكتب على اجنحة النشر قصتها وتسافر بالفرشاة واللون الى المجاهل والاصقاع. هناك ترسم وتوثق وتطرز في الذاكرة بعض المحطات وتحتفظ بصورها لكي تطلقها بين دفتي كتاب او تنشرها على صدر صفحات جريدة.
وصادف اني تعرفت، عن قرب، على المندلاوي في حقبة الثمانينات، وتحديداً بعد منتصف العقد، عندما عمل في مجلة حراس الوطن. كان يتنكب ريشته على كتفيه، مثيراً جدلاً واسئلة وباعثا على تأويلات وكشوفات، فهو من النوع الذي يصعب عليك اختراق صمته برغم انفتاح رسومه على الحياة. هي واضحة تحمل هوية خاصة، وهي ساطعة لا تركن الى الدهاليز او تقيم في المناطق الرمادية.
وربما من النادر ان تتطابق صورة رسام مع رسومه، مثلما تتوافق صور المندلاوي مع منتجه الابداعي. رقيق وهي رشيقة، تنطوي على تفاصيل وتضاريس مثلما يبدو هو للناظرين. كما انها تعنى بالجوهر برغم ما تظهره من معالم صارمة. وهو ينطوي على سريرة تكشف ذاتا انسانية خلاقة. كما يملك وجهاً واحداً رافضاً مبدأ تعدد الالوان السلوكية او ما يعرف بالنفاق الاجتماعي. فيما تكشف سحنات وجوه اعماله عن اتجاه روحي يغوص في الاعماق عبر التماع العيون او استدارات الطلعة او سمات النوع التي لا تتشابه حتى لدى شخص واحد.
مرت عقود وانا اتابع مسارات المندلاوي. في رحيله وترحاله ، في بقائه وتنقلاته. وصادف اني التقطت من خطوطه اشارات جديدة، فانطلقت لاتشبث بها باحثا عن هذا الفنان الذي لا يماثله فنان تشكيلي آخر على وجه الارض. ورأيت ان الطبيعة نادرا ما تنعم على مجتمع بشري بريشة من طراز المندلاوي. لقد وضعت ثقتها به وامطرته بسلسلة من الامتيازات والمواهب. جمعتها من حقول ومزارع وسماوات وشوارع وعواصم ومزارات وشواغل. واميل الى الاعتقاد بان المندلاوي وريث شرعي لامجاد اولئك الرواد الاوائل الذين طرزوا الكهوف والجدران بالثيران المجنحة والمسلات والاسود والخيول ونقلوا ارث العراقيين البناة في حضارات سومر واكد وآشور وبابل وسواها. ربما هو احد الكهنة او حافظي اسرار الملوك او مستحضري الجان ومطلقي الارواح الى عنان السماوات العليا او مصممي رفع المياه الى الجنائن المعلقة او مقدمي القرابين في حضرة عشتار تحديداً.
في المحطة الاخيرة من شغفي بالتقاط اخبار الفنان الصديق، صادفت وجوه المندلاوي. عشرات من شخصياته الخالدة التي غادرت تاريخها ومصائرها، ماثلة امامنا بالحضور اللوني الذي قدمته ريشة المندلاوي. وجوه جمعها في البوم، واصر على اعتباره البوما وليس كتابا يحمل غلافه صورة نصفية للمندلاوي وثلاث كلمات حسب، عنوان الالبوم واسم الرسام. وخيل لي انه يخفي شيئاً بهذه النصفية الرمزية التي قدم بها نفسه الى الجمهور. وجه ممتلئ وشارب صغير يهيمن على شفتين كبيرتين مضموتين فضلا عن النظارات الطبية باطارها الدائري الذي استعاد صورة المندلاوي في لقاءاتي الاولى به. كانت واحدة من اختياراته التمييزية اللافتة، كأنه لا يكتفي بان يخرق قواعد اللون والخطوط في لعبة مطاردة الموضوعات والمفارقات حسب، بل ينوي تشكيل اطار مستقبلي لمشروع مارثون النشر الصحفي المعقد والصاخب والطويل.
لقد أسرني المندلاوي في وجوهه المختارة. وبرغم اني رأيتها أو صادفت بعضها في العمل وتابعت اداءها ونشاطها في كثير من محطات حياتي، الا انها بدت لي جديدة تماما، مثل شخص يتعرف على كائنات غير مسبوق النظر اليها، فاضطررت الى التحديق في تقاطيعها وما يجوش وراء تفاصيلها وسماتها العامة، لاسيما وان المندلاوي لم يقدم وجوهاً بالمعنى الحرفي تشريحيا، بقدر ما قدم نوايا ومشاريع، بعضها سياسي وبعضها ابداعي صرف. كما قدم ما يعتمل في نفوس اصحاب هذه الوجوه من آمال وتطلعات وهموم وما يتوارى خلفها من غيوم وظلال واحلام ومشاريع مرجأة. هو لا يكتفي بتعريفنا بها كأسماء تم تركيبها على اجساد أناس معروفين او تركوا بصمة او جرحاً غائرا في النفوس، بل يخترق عيوننا ليصل الى تلافيف ادمغتنا وامخاخنا لكي يأخذ منها رواسب الماضي وتذكراته واشباحه ثم يشرع بمد اسلاك الدياكتيك بينها وبين تلك الوجوه الماثلة في الحاضر او الضاربة في عمق التاريخ.
هذا الالبوم مشروع حضاري يتعين ان تتولاه جهات اكثر ثباتا واجتهاداً وصلة رحم، من اجل ليس تخليد عطاء فنان بمستوى قامة علي المندلاوي حسب، بل توثيق تاريخ مازال نابضا ومشاكسا ومثيراً للجدل، ان تلك الثلاثية قد تدفع الى تزويره، وهنا تبرز اهمية شهادة الفنان على محطات التاريخ ورموزه ودلالاته ومعطياته سواء كانت ايجابية ام سلبية. ومن هنا يكتسب الالبوم الصادر عن مؤسسة سبيريز للطباعة والنشر باقليم كردستان اهميته ومعناه ووظيفته الثقافية والابداعية.
فهو يختصر لنا رحلة شاقة قطعتها ريشة فنان يرسم بأدوات ليست تقليدية. ذلك اني اعرف حساسية المندلاوي ورهافة مشاعره وأدرك عظمة موقفه الرافض لكل ما يسيء الى الانسان او يتعمد التضحية بقدراته او اهدار آدميته. فقد رأيته مالكا مشروعه الذاتي بكل ثقة وصبر، ومنضبطا في طرح نظرته او نظريته ازاء الحياة والكون والعلاقات الانسانية. ربما يتعذر احيانا كشف مكونات هذه النظرية، ولكن جلستي الاخيرة مع المندلاوي، في قاعة حوار، وهو اللقاء الصدفة الذي تم ترتيبه معه، كشف لي معالم اجدها تطورية لمشروع سابق التقطته في اعماله ايام كان الفنان يتقصد المناورة، اما خوفا او تمسكا بالسلامة وايثار الابتعاد عن الصخب واخفاء النوايا الكامنة بين زوايا اللوحة.. تلك هواجس مررنا بها وصادفناها حتى ونحن ننام على الاسرة في منازلنا، او نتطلع الى السماء المرصعة لنصطاد نجومها المتلألئة.