والي ومخمور بغداد
إستلهام التراث في واقع متحول
معتصم السنوي
بغداد
تحدثنا روايات التراث بأن (ولاة بغداد) وفي مختلف العصور التي حكموا بها، كانوا يمارسون إدارة شؤون الرعية نهاراً من خلال دواوينهم ومجالسهم التي عادة ما تضم نخب من أعيان وعلماء وفقهاء المدينة للإفادة من خبراتهم كل في مجاله واختصاصه عند حاجة (الوالي) إلى أخذ المشورة من أحدهم وخاصة في القضايا المتعلقة بشؤون الرعية وفي حالة توقع حدوث ما يعرض المدينة للخطر من داخلها أو خارجها..! أما في الليل وبعد سدول الظلام يمارس (الوالي) بنفسه متابعة أحوال المدينة وعلى طريقته والأسلوب الذي يراه مناسباً للتجوال في أحياء المدينة ليكتشف بنفسه الكيفية التي يعتاش بها الناس وما يرونه في (واليهم) من حسنات وسيئات، ولكي يتمكن من التوغل في الأحياء الشعبية والدخول للبيوت ليس بصفته الرسمية كوالي (بغداد)، كان (يتنكر) بزي يبعد معرفته من أقرب الناس إليه. ويستخدم اللغة والطريقة التي يتحدث بها عامة الناس، (كيلا) تكشف حقيقته وبالتالي لم يحقق الهدف الذي يريد الوصول إليه، وهو أن يكون عارفاً ومطلعاً على ظواهر الأمور وخفاياها، ليضمن أن تكون أحكامه وقراراته عادلة ومنسجمة مع الشرع ومرضاة الله ولضميره وكسب أحترام وحب رعيته، وتحكي أحدى الروايات أن (الوالي) في أحدى جولاته الليلية التنكرية في حي يسكنه ناس من الذين يكسبون رزقهم اليومي من سوق المدينة، سمع غناء نشازاً ونقر عشوائي صادر من أدوات ليس لها علاقة بأدوات الفن المتعارف عليها حينذاك (كالعود أو الربابة أو الدنبك)، من دار خربه بلا باب وتحتوي على حجرة واحدة، وشاهد رجل يجلس على بساط متهرئ (ينقر على تنكه) ويغني مقاطع من أغانٍ متداولة بين الناس ويضف لها بعض العبارات من ذاكرته المخمورة كيفما يرغب بعد أن يأخذ الخمر منه توازنه ووقاره ويحوله إلى حيوان بشري يهذي بغناء غير مفهوم وبصوت مبحوح متخيلاً نفسه مطرب زمانه (زرياب) تحض به الجواري الحسان والغلمان الخصيان!! وإذا بالوالي (المتنكر) يدخل عليه ويفاجئه بالسلام ويستأذنه بالسماح لمشاركته جلسة (سمره) فرحب به وأجلسه بقربه وعلى بساطه المتهرئ وكأنه قد وجَدَ ضالته بهذا الزائر الليلي ليستمتع إلى غناؤه ويشاركه خمره (المعتق) ويساعده على (نقر التنكه) والليل في أوله، فلم يمانع (الوالي المتخفي) ولكنه أراد أن يعرف العمل الذي يكسب منه رزقه، الذي يجعله مخموراً ومغنياً من دون الآخرين الذين يغطون بالنوم..! وعن أسباب عزوبته وأمور أخرى، تتعلق بعدالة الوالي ورأي الناس به!! فأعلمه بأنه يكسب رزقه من بيع (الحب) وأن زوجته تركته لأنه لا يستطيع أن يعيلها مع أطفالها، وكان عليه أن يختار بين زوجته وأطفاله والخمر، فأختار (الخمر والغناء) وأنه طبق قول الشاعر أمرؤ القيس (اليوم خمر وغداً أمر)..! ويخرج (الوالي المتخفي) بعد أن شاركه جلسته الصاخبة وغناءه النشار المصاحب للنقر على (التنكة)، وفي الصباح يأمر الوالي (الجندرمة) بمنع كل من يبيع (الحب) في السوق والمخالف يسجن، ثم يأتي الليل وإذا بالوالي (المتخفي) يدخل على ساكن الخربة ليرى نفس جلسة السمر والخمر والنقر على (التنكة)، وبعد أن سأله عن حاله، قال له الوالي لا يخاف الله قطع رزقه ومنع بيع (الحب) ولكنه لم يترك للوالي سطوته عليه ويحرمه من حفلته الليلية، وقد أستبدل (الحب) بـ(الزبيب) والحمد لله كسبت أكثر مما كنت أكسب من (الحب) وها أنت تشاهد الحفلة عامرة بالخمر والمطيبات وأكثر استعداداً للغناء والنقر حتى الصباح وموجهاً كلامه الغاضب (للشيخ) والمقصود الوالي (المتنكر) لماذا يترك والي (بغداد) الحرامية يسرقون ما يريدون سرقته وهم معروفون من قبله وجندرمته ولم يقبض عليهم ويودعهم السجن أو يزور الأرامل والأيتام الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وهم يتضورن جوعاً ويتسكعون في الطرقات لجمع الصدقات وفضلات الطعام من بيوت الأغنياء..! وهل يستحق واحد (مثلي) من الصعاليك كل اهتمام الوالي ليطاردني في قطع رزقي اليومي، وطلب من (الشيخ) الزائر أن يشاركه (خمره) ويدوخ (جمجمته) حتى ينس مضايقات الوالي وبطانته من الحرامية الذين يلتفون حول رقاب الناس الفقراء كالعنكبوت!! وقبل أن يخرج الشيخ-الوالي (المتنكر) من صومعة المخمور ألتفت إليه وقال ألم تخف سماع والي بغداد شتمك له ولحاشيته وجندرمته، أجابه (المخمور) وهو في نشوة الخمر: ما عندي شيء بعد أخسره غير هذه (الخرابة) فليأخذها..! وبعد أن شاركه الوالي (المتخفي) جزءاً من سهرته الصاخبة خرج وهو مستغرباً من هذا المخمور الذي يتحدى الوالي، وفي الصباح يأمر الوالي (جندرمته) يمنع كل من يبيع (الزبيب) في السوق ويأتي الليل ليزور الوالي صاحبه المخمور، وإذا به على نفس الطقوس والخمر والنقر، وكأن لا شيء قد تغير في أسلوب سمره الليلي، وهكذا بقيت لعبة القط والفأر الوالي (المتنكر) والرجل المخمور، إلى أن وصل الأمر أنه لا يستطيع أن يعمل وقد سددت بوجه كل أبواب الرزق وإذا به يصحو من غفوته التي كان يراجع فيها ذاكرته لإيجاد وسيلة أو طريق آخر غير البيع في السوق فيصيح كمكتشف حقق إنجازاً يخدم البشرية وجدتها بأعلى صوته. ويقصد وجد العمل الذي سيجعله مستمراً في حفلاته الليلية الصاخبة وبعيداً عن مضايقات (أوامر الوالي الجائرة) الذي يطارده في قطع رزقه عبر دخوله سلك (الجندرمة) ويكون كغيره (حاميها حرامية) كما يرده الناس حينما يرون (الجندرمة) يتجولون بينهم متسلطين على رقاب وأرزاق فقراء الناس من الكسبة وهم يمارسون البيع والشراء في الأسواق. وبنفس اليوم أستطاع أن يصبح (جندرمة) بعد أجتاز امتحان المقابلة مع رئبس الجندرمة حيث وجد فيه أندفاع وإخلاص لخدمة الوالي ومستعد لتنفيذ الأوامر الصادرة منه بدون تردد والطاعة العمياء حتى لو كانت ضده، وتم تزويده (بدلة الجندرمة والسيف) ليمارس عمله في نفس اليوم وكبقية الجندرمة المكلفين بحماية الوالي والمدنية..! وقبل غروب الشمس تذكر أن الليل قادم بعد ساعات قليلة ويتطلب منه التحضير لشراء (عدة السهرة) ليدوخ (الجمجمة) وينطلق في الغناء كالعادة حتى الفجر!وتحسس (جيبه) فلم يجد درهماً واحداً، وبعد تفكير وضرب الأخماس في الأسداس لم يتوصل إلى غير أن يبيع (السيف) الذي سلم إليه ليكون أداة لتخويف الناس ويعد رمزاً لقوة دولة (الوالي) وبثمنه يشتري (العدّة) وإن بإستطاعته وخلال ساعات الليل الطويلة ونشوة الخمرة المعتقة أن يصنع (سيفاً من الخشب) يكون مشابهاً لسيف جندرمة الوالي، بحيث لا أحد يستطيع أن يميزه عن السيف الحقيقي الذي سيبيعه بثمن يكفي لشراء قارورة الخمر ومتطلبات السهرة ونفذ ما دار في رأسه حرفياً ليجلس كالعادة في صومعته ويبدأ سهرته بالغناء والنقكر على (التنكة) وبصوت أعلى من الليالي الماضية وإذا بالوالي (المتنكر) يدخل عليه بعد أن أستأذنه وجلس معه ليتحدث عن أحواله وعن العمل الجديد الذي كسب به رزقه اليوم..! فيخبره بما قام به من بيع (سيفه) ليشتري الخمر وطعام السهرة، وعندما سأله الوالي (المتنكر) كيف سيمارس عمله في الغد صباحاً وقد باع سيفه، أجابه أن بإمكانه أن يصنع سيفاً مشابهاً من الخشب ليعوض عن السيف الحقيقي ولم يستطع أحد أن يميزه حتى لو كان صانع السيف نفسه!! وقد أثنى الوالي (المتنكر) على تصرفه الذي ينم عن الذكاء والدهاء والتحدي، واستأذن منه بالخروج من حجرته التي تفوح منها رائحة عرق مغشوش يجعل شاربه يفقد توازنه من أول جُرعة!! وفي اليوم التالي وفي الصباح الباكر يستدعيه الوالي ويختاره من بين مئات الجندرمة وأمام جمع من الناس في ساحة عامة مخصصة لإعدام المجرمين ويطلب منه قطع رأس المجرم الذي حكم عليه من قبل قاضي الولاية وصادق على الحكم!!
وأصيب بالخوف والهلع لمباغته بأمر الوالي شخصياً لتنفيذ حكم الإعدام وقطع رأس المجرم وهناك جندرمة قدماء متخصصون بالإعدام!! وبعد أن وضع رأس المجرم على الطاولة ليقوم بالتنفيذ أمام جمع الناس، يرفع سيفه الخشبي إلى الأعلى وهو يصيح الله أكبر: اللهم صل على محمد وآل محمد، لقد تحول سيفي (البتار) إلى (خشب) بقدرة آلهية وأن الله جلت قدرته لا يريد أن يقطع رأس هذا الإنسان بسيفي!!
وما أن سمع الوالي وحاشيته والناس المتجمعين في ساحة الإعدام هذا القول من الجندرمة تبللت ملابسهم وسراويلهم من الضحك وإعجابهم بذكاء إنسان بسيط من عامة الناس وهو يحاول العيش على طريقته الخاصة دون أن يتدخل بشؤونه أحد وحتى ولو كان والي بغداد..!
وهذه الحكاية تذكرني بمقال كتبته في عام2008 بعنوان (حينما يخلع الوزير بدلته) وهو استذكار لأحد الوزراء الذي كان يتجول في المؤسسات والدوائر التابعة لوزارته (متنكراً) نهاراً وليلاً ليكتشف السلبيات ويقيم أداء العاملين ويطلع بنفسه على معاملات الناس وخاصة في المؤسسات الخدمية، لتصبح الوزارة المكلف بإدارتها من أفضل الوزارات في تنفيذ المشاريع وتقديم الخدمات على أكمل وجه!! وقد شاهد الناس من خلال الفضائيات قبل فترة قصيرة كيف أن رئيس وزراء حكومة في أوربا (تنكر) ليصبح سائق تكسي ليتحدث مع الناس في شؤونهم والوقوف على احتياجاتهم ويأخذ آرائهم في الحكومة المكلفة بإدارة شؤونهم لكي يتمكن من القيام بواجبه بما يرضي الله والناس وضميره!! ودعوة مخلصة للوزراء والنواب الذين يجلسون في مكاتبهم أو في المنطقة الخضراء ويتنقلون بحماية (رتل) من الحراسات وبقطع الشوارع لتسهيل مرورهم بسلاسة وأمان، فكثير من هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن المؤسسات التابعة لوزاراتهم وهموم الناس الذين يراجعونها أو عن المناطق والأحياء التي رشحوا أنفسهم عليها كنواب يمثلونهم في (قبة البرلمان) التي تحولت إلى (كافتريا) لتقاسم المغانم والمكاسب بين المكونات المتنفذة. ونشر (البعض) منهم غسيل الفساد في الفضائيات ليبرأ ذمته أمام الناس والتاريخ، ليترك الناس في دوامة المشاكل ونقص في مجمل الخدمات التي تعدُ من أوليات الحياة في كل مكان وزمان ليحل (الفساد) بكل أشكاله وصوره المخيفة في المؤسسات والأجهزة وكأنه سلعة متعارف عليها وثقافة ثابتة متداولة لا يطالها القانون أو محاسبة الضمير لتزكم النفوس والأنوف برائحة لم يعتادها الناس منذ تأسيس الدولة العراقية عام1921 وليتهم يقلدوا والي بغداد (المتنكر) والوزير الذي خلع بدلته ليتعرف عن قرب بما تقوم به مؤسساته والعاملين فيها وأحوال المواطنين الذين (يشتلون) لأيام في مراجعات مارثونية لإنجاز معاملة لا يستغرق أنجازها (ساعة واحدة)..! وليتهم يتبعوا أسلوب رئيس الوزراء حينما جعل من نفسه (سائق سيارة أجرة) لكي يتحاور مع المواطنين ويتعرف على أحوالهم ومشاكلهم..! ولنا في الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم مؤسس جمهورية العراق قدوة حسنة وسجل ناصح في الإخلاص والتضحية لخدمة الشعب بتفقده اليومي للأحياء الفقيرة للاطلاع على أحوالهم وتحقيق ما يطمحون إليه، وما زالت في ذاكرة العراقيين صور وذكريات مشرقة عما أنجز في عهده من مشاريع صناعية وزراعية وعمرانية لا زالت ماثلة للعيان بل وأصبحت وجهاً للمقارنة مع الحكومات التي حكمت بعده ولم تنجر غير الخراب والدمار..! فهل بإمكان هؤلاء السادة أن يتنازلوا لأيام عن مراكزهم (المحصنة) وينزلوا مع الناس في الشوارع والأحياء والمدن للوقوف على احتياجات الناس والتحاور معهم في مجمل القضايا التي تخدم الوطن وتطور البلاد ليأخذ المواطن دوره في عجلة التغيير التي أصبحت سمة العصر وهدف الشعوب الحرة!!