هوامش على مسلسل سليمة باشا 2
ذكريات ووثائق في دراما دافئة
مهدي شاكر العبيدي
تمنيْتُ لو حاول كاتب المسلسل الرجوع إلى التسجيل التلفزيوني القديم للقاء الذي أجراه الأستاذ إبراهيم الزبيدي مع الفنانة سليمة مراد قبل أربعينَ سنة ضمن برنامجه المُقدَّم من على شاشة التلفزيون مع رهطٍ من أعلام الثقافة والفنِّ، وذلك في أمسيات رمضان الذي تصادف سنة 1972م، أذكر منهم المرحومينَ شفيق الكمالي وفيصل السامر ؛ حيث جلتْ بنفسها أسرارا ً عن الظروف التي ساقتها لاحتراف الفنِّ غير آبهة ولا مبالية بالمحظورات والنواهي، بلْ بالعكس فقد غالبَتْ ما يسود المحيط الاجتماعي من جمود وتزمُّت، وتطرقتْ إلى شعورها بالحراجة التي انتابتها غداة نشوء دولة إسرائيل في فلسطين لأنـَّها يهوديَّة عراقيَّة وتدين بالولاء لهذه البلاد التي تربَّتْ فيها واحتضنتها، وهي ترى قومها مزمعينَ على هجرانها ومنصاعينَ لمراسيم إسقاط الجنسية ومتخلينَ عن أملاكهم بين مقسور على ذلك وراغبٍ متحمِّس له وفيه.
وهذا عينُ ما انصبَّ جهد الكاتب لتبريزه، وحشَّد المخرج باسم القهار نخبة من الممثلينَ بين محترفٍ للصنعة الفنية بطول الممارسة التي راضته على العفوية وعصمته من أيِّما تكلفٍ وتعمل، و بينَ مَن توافرَتْ له المؤهلات الفنية وأصول التمثيل وقواعده بالتعلم والدراسة والتدريب، دونَ أنْ يدع المشاهدينَ ينغمرونَ وسط مناكفات أبناء الطائفة اليهوديَّة وخلافاتهم حول تفضيل الهجرة وقطع أواصرهم بأبناء وطنهم الأصلي أو إيثار بقائهم فيه محتملينَ سائر ما يعنو له العراقيونَ ويخضعونَ له صيف عام 1948م، يوم صُفيِّت مكاسب الوثبة الوطنية بإعلان الأحكام العرفية، باسم حماية مؤخرة الجيش المقاتل في الديار المقدَّسة بزعم تحريرها وطرد الصهاينة الطارئينَ منها، ممَّا لمْ يمرَّ به المسلسل ويقف عليه، بلْ وجد المَخرَج أو الانفراج منه بمشاهد الطرب والغناء الذي تناهى إلى مسمعيَّ منه زمن الطفولة
ـ خدري الجاي خدري، عيوني إلمن أخدرة .
ـ كلبك صخر جلمود ما حن علية .
ـ هذا مو إنصاف منك غيبتك هلكد تطول .
وأتى المسلسل على شخصية يهوديَّة معروفة وقتذاك في الوسط الثقافي العراقي هي أنور شاؤول المحامي الأديب والصحافي والقاص والشاعر ومن المتولدين في مدينة الحلة العراقية، ربَّما في أوليات القرن العشرين، ويعرضه المسلسل بصفته صاحب دار نشر للدوريات والكتب، وهذا ما لمْ أسمع به يوما ً ، وما أعرفه عنه إنـَّه صاحب مجلة الحاصد التي كانتْ تصدر عام 1928م، وإنـَّه كانَ عضوا ً في الوفد العراقي الوفير العدد لمؤتمر الأدباء العرب السابع والمنعقد في ببغداد في وادي نيسان عام 1969م، وأنشد في المهرجان الشعري السابع والملتئم بعد انفضاض المؤتمر ذاك، قصيدته في استذكار مؤامرات الصهيونية واستنكارها، ومعلنا ً فيها ولاءه لوطنه العراق وارتباطه بالعرب وثقافتهم وتاريخهم، غير أنـَّه بعد مدَّة حنث بما ادَّعاه وهاجر من البلاد، ميمما ً وجهته صوب إسرائيل، ومهديا ً مذكراته في العراق لرئيسها، وقد مثل دوره بالاستئناس بشعر حسين مردان والثناء عليه والبدار لطبعه ونشره في ديوان قصائد عارية ، الفنان طلال هادي.
كما يعيد المسلسل لأفهامنا ذكريات ما وعيناه من الأحداث السياسية التي وقعَتْ في غضون عام 1950م، منها حادثة الانقلاب المجهض الذي قام به مدير الشرطة العام علي حجازي، استبانَ كاتبُ المسلسل دوافعه لأسباب شخصيَّة، منها رفضه واعتراضه على استيزار صالح جبر لوزارة الداخلية في حكومة توفيق السويدي الثانية، لكنَّ فشل الانقلاب وحظي وزير الداخلية برضى بعض الجهات والمحافل لمحاولته إغلاق المباغي العامة باسم مكافحة الرذيلة، وفي عهد هذه الوزارة شُرِّع قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود العراقيين وتسفيرهم إلى إسرائيل، وسط مباركة عضو حزب الاستقلال سلمان الصفواني صاحب جريدة اليقظة وتهليله، متجافيا ً عن أنَّ جريدته هي الوحيدة التي تحتفي بذكرى وثبة كانون وفي ظلِّ الأحكام العرفية، أ هو جنوح إلى المصافاة والمصالحة مع وزير الداخلية ، وقد مثل دوره الفنان غسان العزاوي.
وأجدني مُكبرا ً غاية الإكبار إلمامَ الكاتب وحسن توثيقه ووقوفه التام على مثل هذه الوقائع التي قد تكون مجهولة بالنسبة للجيل الجديد، ومنسيَّة بالنسبة لمعايشيها من كبار السنِّ، ومن الحتم أنـَّه رجع إلى موسوعة الأستاذ المرحوم عبد الرزاق الحسني تاريخ الوزارات العراقية ، واستند إليها مستوحيا ً أمانتها ودقتها التاريخيَّة.
وَدَدْتُ لو تريَّثتُ في تسجيل هذه الانطباعات والخواطر بخصوص حلقات هذا المسلسل الذي حفل ببعض المبالغة في وصلاته، وبصدد تفصيله في المدهشات والأمور الغرائب في نوازع حسين مردان وتصرُّفاته، حتى كادَتْ تعدُّ كونها مكرَّسة ومعنية باستعراض جوانب من حياته لا غير، ريثما يشرع الأستاذ الناقد ناطق خلوصي بشرح ما قد يعنُّ له من آراء ومؤاخذات على فنِّ الإخراج والإضاءة، وطريقة التمثيل ومدى تفهُّم كلٍّ من الممثلينَ لأدوارهم، وما تقتضيه منهم وتلزمهم به من تقمُّص لطبائع أشخاص من يجسدونهم في التمثيل، وذلك لأتعلم منه، فما تزال ملحوظته عن الحلقة الأخيرة من مسلسل تحت موس الحلاق التي توَّج بها الفنان سليم البصري نشاطه الفني وإسهامه الفاعل في إشاعة روح المرح والفكاهة والبهجة والتظرف، ولفتِ أنظار المسؤولينَ والمجتمع بكليَّته إلى ما يكتنف حياتنا وما تزخر به من مفارقات وملابسات، فقد جهر الناقد ناطق خلوصي يومها أنَّ الزمن قد تجاوز عرض هذه الموضوعات والقضايا بعد أنْ ظفر شعبنا بشيءٍ ممَّا يتمناه ويهجس به ضميره، فلم تعد غالبيَّته على قدر من السذاجة ومحدوديَّة التفكير أو لا تعي قيم العصر، وتغرى بهذا التمثيل الهازل، إنْ لم تدرك طلائع أجيالها المتأخِّرة طور الرصانة والجدِّ، فما كان مستساغا ً عرضه في العام 1965م، لمْ يعد مقبولا ً في العام 1985 بنفس رتابتهِ من ناحية التمثيل، وبعين محتواه من ناحية المضمون، بينا اختلف الكاتب السوري الراحل شريف الراس، المقيم في العراق حينها، في رأيه الزاعم أنَّ سليم البصري في تمثيله الهادف وتوخيه الهمَّ الاجتماعي وابتغائه تشخيصه وتجسيده، هو أعظم من الممثل العالمي شارلي شابلن ، وتنوسيَتْ هذه القولة المحمَّلة بشيءٍ من الانحياز والتسرُّع والاندفاع الذي لا داعي له، وتبقتْ في الأفهام ملحوظة الناقد الأوَّل ــ الأستاذ ناطق خلوصي ــ والمتسمة بالحرص على ازدهار الفنِّ التمثيلي في بلدنا، وبالاعتزاز والحبِّ حيال المرحوم الحاج راضي وعبوسي وبقية الجماعة.
قلت بعد طول استطراد لو تريثتُ في الكتابة إلى أنْ أطلِع على ما سيسطره الأستاذ ناطق خلوصي , لولا أنَّ اشتداد الرغبة في تسطير ما يخامر البال وتجيش به النفس من ادِّكاراتٍ واستذكاراتٍ، وما يعنُّ للمخيِّلة من انطباعات ومآخذٍ على قدِّ الحال بشأن مسلسل سليمة باشا، لمْ ينجدني بشيءٍ من الإستئناء أو المغالبة.
أجل، على قدِّ الحال، ذلك أنَّ حياتي ونفسي شابهما في الآونة الأخيرة ضرب من الحيرة، واستولى عليهما الذهول، وأنا أهمُّ بمغادرة دمشق الفيحاء للظروف المعروفة
وَخِلتُ نـَفسِي مِـن ذِكـرَى مفارقةٍ كأنـَّنِي مِن جنان الخلدِ مَطرُودُ
/9/2012 Issue 4306 – Date 17 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4306 التاريخ 17»9»2012
AZP09















