هناء مهدي صوت أرخ مبكراً للأمل في الأغنية العراقية
لا طريق أمام الأغاني غير سواقي الحنين
حسين سرمك حسن
الصوت العراقي الملائكي الساحر الذي أرخ لتاريخ من الحنين هو صوت المطربة “هناء مهدي”.. عرفها العراقيون في أغنيتها الشهيرة جدا “إلعب يا حبيبي تمرّن” التي لم تتكرر مثلها أغنية رياضية بـ “هدوئها” ورياديتها وروحها العراقية الأصيلة ، والتي كتبها ولحنها الملحن والشاعر الفطري “خزعل مهدي” »لم يكن يعرف عزف العود مثلي« . ثم عرفها العراقيون في واحدة – وقد تكون الوحيدة – من أجمل الأغاني الرمضانية التراثية “ماجينه يا ما جينه.. يا أهل السطوح.. تنطونه لو نروح”..وأهالينا في بغداد لم يكتفوا بعدم حل الكيس ومنع العطاء عنا فقط ، لكنهم رمونا – ورموا أنفسهم – بالحجارة وبكل قسوة!! كان قلبي يتقطع وأنا أري هناء بصيرة – وهذا تلطيف بلاغي عظيم فهي أعظم من ملايين “المفتشين” – يقودها طفلان في الأغنية ، وتتعثر في مشيتها . كنت أتصورها في أحلامي المراهقة صاحبة عينين أجمل وأنفذ من عيني شادية وصباح ووردة.. ومشية واثقة كملاك مدعوم من الله.. تصوري هذا كان مرتبطا بقوة صوتها وسحره الذي يشبه صوت أمي وأختيها – والجنوب كله يغني – اللائي كن يندبن بأصوات جارحة تفوق أعظم صوت عربي وبصورة لا تصدق وبلا تدريب أكاديمي.
من ينسي مثلا اغنيتها “صارت شمعاتك عشرين” لمقدمة المسلسل الاذاعي “فتاة في العشرين” الذي بث من اذاعة بغداد نهاية السبعينات قبل ان يتحول الي مسلسل تلفزيوني تقوم ببطولته شذي سالم وعبد المطلب السنيد “احب حبك علمني أحب الناس كل الناس/ أحبك حب خلاني أفيض احساس فوق احساس
الغناء والموت
في الجبهة وأنا منزو في الملجأ، خصوصا في منطقة “المنقطعة”، وهي منقطعة من اسمها وتبعد ستين كيلومترا جنوبي البصرة، وتقع علي شط العرب، ولا يفصلك عن العدو سوي 300 مترا هي عرض شط العرب، ولا مجال لديك للحركة أبدا.. حصلت علي جهاز تسجيل يشتغل بالبطاريات.. لم أكن اسمع بعد عشقي لشذا سوي أغنيتين لهناء لحنهما العظيم الذي اسس البنيان الموسيقي الوجداني في الشخصية العراقية “طالب القره غولي” وهما: “يا حبيبي” و “يكلون باجر تمر”. الأولي كتبها “كاظم عبد الجبار” صاحب “إحنه طليعة”، ولا أعرف أين صارت الطليعة، والذي مات مكمودا في حي رث بمدينتنا الديوانية، بعد أن هجر بغداد القاسية عليه:
»يا حبيبي بس إلك وحدك كلتها.. وإنت من شعري وعذابي تحسستها..«.. فيها “ميانة” لا يمكن أن يصنعها إلا ملحن عظيم مثل طالب عندما تقول: »وإنت عمري ويا عمر بيه ابتليت.. وإنت عمري وغير ضيمي اشحصليت.. يا حبيبي«.
أما “باجر تمر” فهي من شعر الحبيب “زامل سعيد فتاح”، الذي مات في حادث سيارة في تقاطع القصر الجمهوري علي يدي مخرج متهور، بعد أن رفض أن أوصله كعادتي من البرج الفضي إلي بيته كل ليلة!!:
»يكلون باجر تمر ضحكة فجر عالليل.. يكلون باجر تمر ضحكة وقصيدة وهيل.. يكلون باجر تمر وجهك طفل وازهر.. وبوجنتك شمس الضحي وبشفافك العنبر.. واطبعت حنة فرح بجفوفي عالحيطان.. واندهت ندهة فرح هلهولة يا جيران.. يا درب سبّة وكت ما كطعتك رجله.. بهيده ويا مشي الولف لا تحصد الكذله.. يا باب لو داعبج بسكوت اندهيني.. مالي؟لب عالفرح لو شافته عيني.. مرّ العمر والوكت ما مر علي سنيني«
كانت دموعي تسيح وسط قصف القنابل والصواريخ، وأنا أنظر إلي صورة ولدي الجميل »علي« ثم أخرج متماسكا إلي جنودي.. فتحية لهناء “ضابطة” المشاعر ومفرجة الأوجاع ومخففة الشدائد.. الآن وفي الغربة أستمع فجرا إلي “أذان” فني.. إلي صوت هناء، وهي تهتف منجرحة:
“العشرة اللي بينه خليلها نهاية.. وابعد عن طريقي يا ناسي هوايه.. خلّيني أحاسبك.. وبكلمة أعاتبك ”
ثم يقفز قلبي وجسدي إلي الأعالي مع نغمات أغنية لا أعرف من هو ملحنها العبقري الذي وظف لحن “الرومبا” في العراق بهذه الصورة ، وبصورة مبكرة ، حيث تهتف المجموعة جا جا جا جا جا
وترد هناء الحبيبة:
»تتندم عالفات وراح.. تتندم..«
وأنا والله نادم ليس علي الفات وراح حسب.. بل علي انتظاري ما هو آت لن يروح، إلا وقد خلفه جراحا باهضة في الروح لن تندمل أبدا.. فإلي متي ؟ تقول الحكيمة هناء:
»عفت الأهل والأحباب.. وفتحت للعاذل باب..«
وهذا صحيح، فأتذكر أن هذا تشخيص صحيح جدا، وأنني مخطيء بسبب طيبتي العراقية التي تصل حد السذاجة..
فتردد المجموعة، وكانت بدايات هناء عضو كورس مهمل:
جا جا جا
بصورة تفوق أغنيات عربية عديدة وظفت لحن الرومبا من حيث انجراحاتها العراقية المديدة والعميقة المؤسسة علي إيقاع مفرح.. واستمعوا إلي عنوان الأغنية الشعري “ندم”.. إنها نص مستقل:
»الله شكد شفنه عذاب يا قلبي.. الله شكد شفنه عذاب ياقلبي
وآني أصبر
وأجرع مر«
لكن إلي متي ؟ والله روحي خلصت..
/2/2012 Issue 4124 – Date 17- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4124 – التاريخ 17/2/2012
AZP09