هناء البياتي أنموذجاً.. الومضة الشعرية بين القلق والتعجب
وجدان عبدالعزيز
لانشك ان الاصالة الابداعية ، قد تكون كامنة بخاصية الايجاز والتخطيط ، اي اختيار الشكل الخاص ، كي يستوعب تجربة المبدع .. والومضة الشعرية احد الاشكال المهمة ولها جذور تأريخية ، تؤكد ان التراث الأدبي العريق للعرب ، قائم على مرونة الشعر العربي القديم من خلال الحركة على التغيير حتي في الشكل ولعلّ في المقطّعات والرّباعيات و الموشحات و القوما و الكان كان و الدوبيت وغير ذلك مِن الأشكال الشعريّة العربية القديمة ، ما يؤكّدُ قدرة الشعر العربي علي الحركة. و إنّ الفتح الجديد في العصر العباسّي المتمثّل في المزدوجات مهّدَ أرضية لظهور أنماط جديدة من الصياغة الشعريّة ، تعدّدت مسمياتها كالمثلثات والمربّعات والمخمّسات و المسمّطات و أخيراً الموشّحات .. بجانب هذا الموقف، موقف آخر يعتقد أن شعر الومضة تأثر بمؤثرات أجنبية معاصرة) منها الشعر الانجليزي القصير والقصة القصيرة وقصيدة (الهايكو) اليابانية .. وان الومضة الشعرية ، قد امتازت بانها إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ. وهي وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، معبرة عن هموم الشاعر وآلامه، مناسبة في شكلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحكم حياة العصر الآن ، و الإيحاء وعدم المباشرة وتنفرد بالاقتصاد في الايقاع والصورة واللغة والفكرة ، فالومضة الشعرية العربية الحديثة لم تكن مقطوعة الجذور كما اسلفنا ، انما هي شكل تعبيري اختلط بين التراث والحداثة ، وامتدت قامته بشكل اكثر حداثة ، ليكون مقطعيا مرقما ، لـ(ان نمط البناء المقطعي في القصيدة الجديدة يعتمد في بنيته الاساس على تعدد مراكز الحدث الشعري ..) عضوية الاداة الشعرية ص33 ، من هنا قرأت ومضات للدكتورة هناء البياتي تفاوتت في قوة حضورها الشعري ، وغلبت عليها النثرية الواضحة ، اعتقادي تأثر الدكتورة بعوالم ترجمتها للشعر باللغة الانكليزية ، جعلها تكون هكذا ، غير انها اعتمدت على المفارقة (وكثيراً ما تعد المفارقة على أنها لغة العقل والفطنة، وليست لغة الروح والخيال والشعر، وأنها عمل فكري وليس عاطفياً أوأثراً شعرياً خلاقا. إلا أن المتتبع للمفارقة وأنماطها البلاغية في الآثار الشعرية العظيمة، يجدها أنها لغته الحتمية وسلاح الشعراء الكبار في سجل الشعرية الكونية. فهي التي تحقق أعلى درجات التوتر في القصيدة، وبها نبلغ الحقيقة ونصل إلى لذة النص ودهشته. لذا يقول الناقد كلينسثا بروكس “أن الحقيقة التي يسعى الشاعر إلى كشفها لا تأتي إلا عبر أسلوب المفارقة” .) ، من هنا جاءت ومضات الدكتورة البياتي ترتكز على المفارقة .. وقسمتها على شكل مجاميع كل مجموعة اخذت ترقيم متسلسل من 1 الى 2 او اكثر .. يقول الدكتور رضوان قضماني استاذ في علم اللسانيات: (إن الترقيم في الكتابة هو وضع رموز اصطلاحية معينة بين الجمل او الكلمات لتحقيق اغراض تتصل بتيسير عملية الفهم والايصال والتلقي ومن هذه الاغراض تحديد مواضع الوقف، حيث ينتهي المعنى او جزء منه والفصل بين اجزاء الكلام والاشارة الى انفعال الكاتب في سياق الاستفهام او التعجب، وفي معارج الابتهاج والاكتئاب او الدهشة او نحو ذلك وبيان ما يلجأ اليه الكاتب من تفصيل امر عام او توضيح شيء مبهم او التمثيل لحكم مطلق وكذلك بيان وجوه العلاقات بين الجمل ، فيساعد ادراكها على فهم المعنى وتصور الافكار وهي علامات تمتن الكلام وتزينه وتعين على التنويع الصوتي اثناء القراءة فيكتسب الكلام دقة في التعبير وصدقا في الدلالة واجادة في نقل ما يريد المرسل ارساله الى المتلقى فيحقق الكلام الغايات المرجوة منه.) ، ولهذا كانت ومضات الدكتورة البياتي ، تبحث في مسارات المعنى مع اثارة الاسئلة التي تحاول تلمس الحقيقة المختفية في امارات التعجب وذلك الزمن الذي تختلط فيه حدود الخير والشر ، لولا ان هناك وعي يبحث بين الاسطر .. تقول البياتي :
((1)
عجبت لزمان
كل خير
فيه يهوى
كل شر
فيه يقوى.
(2)
عجبت لزمان
فيه المحب عن الحب يعتذر
والصفح من الحبيب ينتظر.
(3)
عجبت لزمان
فيه الحاقد يفتخر
بأن له قلب
لا يعرف
للخير درب
لا يميز
بين الكره والحب.)
طروحات بلغة بسيطة ، بيد انها تحمل معاني السهل الممتنع في رجحان حقيقة الخير وصراعها الوجودي .. وهكذا تستمر البياتي في خلق اشكاليات المغايرة بقولها :
(عرفتك، ياوطني
في زمنين:
في الزمن الأول
أراك
ولا أتحدث إليك.
في الزمن الثاني
أتحدث إليك
ولا أراك.
وفي الزمنين
قصور وأحلام تنتحر.)
هذه الحيرة والقلق المصبوغة بالزمن الحالي ، جعل من الشاعرة قلقة ، غير انها تردد عن الحب ، مؤكدة على البؤس والحرمان .. (كل الطيور/على الأغصان/في عيد الحب تغرد،/إلا طيورك،/ في عشها تبقى في بؤس شديد.) ، فيبدو ان الشاعرة البياتي عاشت المأساة بتفاصيلها ، لكنها تبقى في بودقة الانتظار … (الجسور خالية/إلا من أوراق الخريف/تنام تحتها جذوع لا حراك بها/وآخر ى/تنتظر الربيع) ، وكرست الانتظار في فصل الربيع .. وهذا امل غير منقطع ، دلالة على نموه ، كما تنمو اشجار الربيع ، وهنا ثبتت الدكتورة البياتي تأويلها لمحنة القلق والحيرة وعلامات التعجب المختفية بين السطور .. ليبقى الشعر أكثر أصالة للتعبير عن براءة الإنسان وفطرته ووسيلة حوار بين الأنا والآخر .. يقول ادونيس : (الشكل الشعري حركة وتغير : ولادة مستمرة .. الشكل الشعري الحي هو الذي يظل في تشكل دائم)، وتواصل قصيدة الومضة على انها (قصيدة الدفقة الشعورية الواحدة التي تقوم على فكرة واحدة أو حالة واحدة يقوم عليها النص، تتكون من مفردات قليلة، و تتسم بالاختزالية، و لا يتعدى طول هذه القصيدة الجمل القليلة التي تتشكل بطريقة لمّاحة واضحة سريعة)، ومن سماتها الاختزال الحكائي العالي واحكام التشكيل الشعري، ثم انها ترتكز على التكثيف والحذف والاعتماد على ما قل ودل من الكلام، الغاية من هذا اللون الشعري .. التعبير عن الذات الباحثة في هذا الكون المتلاطم في بحر من المتناقضات، (ولابد ايضا من ادراك حقيقة ان “كتابة الشعر من اجل الذات ليست أنانية”، بقدرما هي السبيل الفني الامثل لأنجاز قصيدة جديدة تقوم على انفعالية التجربة في شكلها الذاتي الخاص، كما تقوم على تسخير كل امكانات التشكيل المتاحة للارتفاع بحداثة رؤياها المحرضة وتطوير شكلها واسلوبها على دخول منطقة الاخر ونقل حساسية اللعبة اليها)ص51 تمهرات القصيدة، بدليل نزوع الانسان الطبيعي نحو الاخر الذي يرتكز على بنية تكوينية نازعة الى عدم الانفصال مهما كانت المسافة الكونية الممتدة لافاق غير مرئية، وبهذا (تشتغل الذات الابداعية عبر انجاز نوعها الفني بتقديم شهادتها الحضارية المعبرة عن موقف اصيل من العصر، وعن فلسفة مكثفة، مركزة، نوعية، تعيد انتاج جوهر الذات والوانها انتاجا ابداعيا. وتتنوع اسلوبيات تقديم الشهادة بتنوع ثقافة الذات وخصوبة مكامنها وعمق خبرتها، اذ كلما اتسعت ثقافتها وتعددت مكامنها وتجذرت خبرتها في الميدان الابداعي، اسهم ذلك في الارتفاع بقيمة الشهادة الى مصاف الشهادات الخالدة التي تفوج الزمن وتترك بصماتها في دوائره ومحطاته.)ص58، وهكذا تواصلت الدكتورة البياتي في طرح رؤاها من خلال ومضاتها المتعددة في (ثلاث ومضات عن “الخيط”/ثلاث ومضات مهداة إلى ” صديقة العمر” باللغتين العربية والانجليزية/أربع ومضات عن “زهرة وأشواك” باللغتين العربية والانجليزية/ومضتان عن” الوطن”/أربع ومضات عن “فالانتاين غريب الأطوار”/ثلاث ومضات عن “زمن العجب”)
هوامش :
كتاب (عضوية الأداة الشعرية) أ.د.محمد صابر عبيد سلسلة كتاب جريدة الصباح الثقافي رقم 14 2008م ص33
كتاب (تمظهرات القصيدة الجديدة) أ.د.محمد صابر عبيد عالم الكتب الحديث ـ اربد ـ الاردن الطبعة الاولى 2013 م ص51 و58