هل يعود يونس إلى نينوى؟
معتصم السنوي
كان الفساد قد أستشرى في المدينة القديمة “نينوى” فلم يعد يربط الناس بعضهم ببعض روابط العدل والرحمة، فقسا على الضعيف من استطاع أن يقسو، وخدع الخادع، ونهب الناهب، واستبد المستبد؟ فأوحى الله إلى نبي “يونس” أن قم في أهل “نينوى” منادياً بتقويم ما أعوج من أمرهم، وبإصلاح ما فسد، فما ينبغي لمدينة عظيمة كنينوى، يعمر أهلوها أثنتي عشرة ربوة، ويفيض فيها من نعيم الله ما ملأ بقاعها بالماشية والغنم، ما ينبغي لمدينة عامرة غنية كهذه، أن يسلك أهلها سبل الضلال، وأن يختلط في أعينهم الحق بالباطل، لكن (يونس) قد هاله هذا العبء الجسيم يلقى على كاهله، فلم يجد بداً من الفرار من أمر الله فترك ” نينوى” إذ لو بقي فيها لأرق جينه لذع ضميره كلما شهد في المدينة فساداً، وهو الذي أمره الله ينهض بتطهيرها من فسادها… غادر (يونس) المدينة الفاسدة، وقصد إلى شاطئ البحر عند مدينة (يافا) ، وهناك وجد في المرفأ سفينة أوشكت أن تقلع ذاهبة إلى أقصى الطرف الغربي من البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك هو آخر الدنيا كما يعرفها الناس يومئذ، وأن في ذلك لرمزاً واضح المعنى، وهو أن (يونس) قد أراد أن يباعد بينه وبين (نينوى) بأطول مسافة تمكنه منها الأرض والبحر، كأنما هو قد أراد بذلك أن يبعد قدر المستطاع عن نداء ضميره له بأن يضطلع بواجبه المقدس في إصلاح الفساد..! وكان (يونس) كلما أصطنع الجرأة والثقة بالنفس ليزيل عن الناس الذين يشاركونه السفينة ريبتهم به، أزداد ربكة فأزداد الناس من حوله أرتياباً… اقلعت السفينة، ولم تكد تضرب في عرض البحر حتى هبت ريح عاتية، فأمتلأت قلوب ركابها فزعاً، وأخذوا يتصايحون في هلع ويتخاطبون في رعب وانفعال، وجثا جميع ركابها ضارعين إلى ربهم أن يزيل عنهم الكرب ويكتب لهم الأمن..! إلا (يونس)، فقد كان في نومه العميق، لم توقظه كل هذه الأحداث، نزل إليه القبطان وأيقظه في غضب شديد، إذ كيف يطيب له نوم والدنيا من حوله هائجة صاخبة؟ وكان ركاب السفينة على يقين بأن النكبة إنما قصد بها واحد منهم أغضب الله بعصيانه، فمن ذا يكون؟ فاتفقوا على رمي القرعة، ومن وقعت عليه كان هو المسؤول عما حل بهم من كوارث؟ وألقوا بالقرعة فوقعت على (يونس)…! أحاطوا جميعاً به، كل يسأله سؤالاً: من أنت؟ ما صناعتك؟ من أي بلد أتيت؟ إلى أي شعب تنتمي ؟ ماذا فعلت لتغضب الله؟ فلم يطلب (يونس) منهم الرحمة بل حثهم على أن يلقوا به في البحر ، لقد فطن إلى أن الخطيئة التي حملتها السفينة فيما حملت، والتي أثارت غضب الله، وإنما تتجسد في شخصه، وقال لمن وقفوا حوله: لقد أمرني الله بأمر فلم أطعه، وفررت من وجهه أبتغي النجاة مما كلفني به، وجئت إلى مركبكم هذا ليذهب بي إلى حيث الأمان والسكينة، فلا يعرفني أحد ولا أعرف أحداً، أطرحوني في البحر يسكن لكم البحر ويهدأ، فهذه الرياح العاتية وهذا الموج الثائر إنما يصيحان في طلبي، أشفق أصحاب السفينة من فعل ما أذن لهم (يونس) أن يفعلوا به، وآثروا أن يعودوا بالسفينة إلى البر، لكن موج البحر قد أستعصى على مجاديفهم، فالتمسوا من الله عفواً ورحمة، ثم حملوا (يونس) وألقوه في البحر، فسكن البحر من فوره، وكان الله قد أعد (ليونس) حوتاً ضخماً، فابتلعه الحوت ليستقر (يونس) في جوفه ثلاثة أيام فريدة في نوعها هذه الوحدة العجيبة التي فرضت على (يونس) إذ هو في جوف الحوت، لقد أرادها الله وحدة يغيب فيها عن حمل التبعات، فهيأ له الله وحدة تبلغ به الحد الأقصى ليشبع وحدة إذا أراد..! أنه ليسير على خيالنا ان يتصور الوحدة في مختلف صنوفها، أما هذه الصومعة الفريدة التي أوى إليها (يونس) فأمرها عجيب، أن ظلامها دامس طامس، ومع ذلك فليست غرابتها في ظلامها، فلم تكن معدة الحوت بالفراش الوثير، بل كانت ملأى بما يحدث الغثيان بإفرازاته الزلقة وجدرانه الرخوة..! إنها محنة أن تقع القطيعة بين الإنسان والعالم، ترى كيف أحس أولئك الذين ضلت بهم سبيل البر أو سبيل البحر، في يباب قفر، أو أغرقوا في يم لا يسمع أناتهم سامع؟ ومع ذلك فأولئك جميعاً كان يؤنسهم ضوء الشمس، أما هذا المصير في هذا الجوف الأعتم فأمره عجيب!! كان الله قد هيأ (ليونس) – وهو وفي طريق فراره من (نينوي) قاصداً إلى شاطئ البحر – ما كان قميناً أن يعلمه الدرس لكنه لم يتعلم، ذلك أنه كان أنبت عليه شجرة من يقطين (نبات القرع)، لتقيه لفحة الشمس، فاستظل (يونس) باليقطينة نهاراً كاملاً، وحسب أن (سيدوم له ظلها)، لكن فجر اليوم التالي لم يبزغ حتى أعد الله لشجرة اليقطين دوداً أتى عليها، وتعرض (يونس) لوقدة الشمس من جديد، وهبت عليه ريح شرقية حارة، حتى أخذ منه اليأس مأخذاً آثر معه الموت على الحياة، فهتف به هاتف: أرأيت كم بلغت حسرتك على يقطينة لم تكن أنت منبتها؟ إنك لم تنعم بها أكثر من يوم واحد، أفلا يكون أولى بالحسرة أن ترى مدينة مثل (نينوى) يدب فيها (الفساد) فتتهاوى بعد أن تعاونت القرن المتعاقبة على بنائها؟ لكن (يونس) لم يستمع بوعيه الكامل إلى صوت الهاتف، ومضى في (طريق الهرب من أداء واجبه المقدس نحو مدينته، فكان ما كان من أمر السفينة وهياج البحر والحوت، وهاهنا فقط استيقظ وعيه لصوت ضميره، فدعا ربه من ذلك الجوف العجيب قائلاً: اللهم أني أدعوك من ضيقي فاستجب دعائي، وأصرخ من جوف الهاوية فاستمع إلى صراخي، اللهم افتح أمامي هذا الجب المغلق أطعك فيما أمرتني به… ?وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ? [الأنبياء : 87]واستجاب الله، فأمر الحوت أن يقذف حمله على الشاطئ ، ولفظ الحوت (يونس) على البر عليلاً سقيماً، فما أن أرتدت إليه قواه، حتى عاد الله فأمره بأداء الرسالة نفسها، وهي أن يذهب إلى (نينوى) فيصلح من أمرها ما فسد، ففعل هذه المرة كما أمر وصلحت (نينوى) ما شاء لها الله أن تصلح، هكذا تاب الهارب من وجه الواجب نحو مدينته فعاد، فكم (يونساً)، يحتاجه عراقنا في هذا الزمن الصعب ليقِّوم الأعوجاج الذي أصاب العمود الفقري للمجتمع ويطهر النفوس من رجس الشيطان والقلوب من أطماع الدنيا وشرورها . إلا تدعونا هذه المعجزة الإلهية في ان نعيد النظر في مجمل القضايا التي لها مساس بحياة الناس وأن نتوقف عن الهروب من أداء المسؤولية الوطنية والعودة للعمل بإخلاص لعراقنا كما عادة (يونس) إلى نينوى؟ وللظروف الصعبة التي تعيشها (نينوى) بعد احتلالها من قبل (داعش) وتهجير وقتل معظم سكانها وهدم رموزها الدينية والثقافية وبيع السبايا في سوق (النخاسة) وإذا ما عاد (يونس) للحياة، هل سيعود إلى نينوى أم أنه سيكون أحد المهاجرين الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وفي داخل خيام منظمات تدافع عن (حقوق الإنسان) الذي أصبح سلعة رخيصة في هذا الزمن اللعين..!