هل مهّدت للأصولية الدينية ومقاومة التنوير ؟ – حسين عبد القادر المؤيد

مدرسة فرانكفورت

هل مهّدت للأصولية الدينية ومقاومة التنوير ؟ – حسين عبد القادر المؤيد

يرى الدكتور مراد وهبة ، و هو من أبرز الفلاسفة العرب المعاصرين ، أن مدرسة فرانكفورت مهدت للأصولية الدينية في الغرب و لمقاومة التنوير ، و استشهد بكتاب (ديالكتيك التنوير ) الذي ألفه كل من تيودور أدورنو وماكس هورگهايمر و هما من مؤسسي مدرسة فرانكفورت و جيلها الأول . ويقول الدكتور وهبة في كتاب جرثومة التخلف ، إن الفكرة المحورية في ذلك الكتاب هي أن الأسطورة في صميم تكوين العقل الإنساني ، و يضيف بأن الفلسفة في المنظور الخاص بمدرسة فرانكفورت ، لا يسمح لها ببث روح التنوير .

مع تبجيلي لمكانة الدكتور مراد وهبة الفلسفية ، فإنني أرى أنه في فهمه و حكمه هذا على مدرسة فرانكفورت على خطأ جسيم . و يمكنني تلخيص ذلك فيما يلي :

أولا : لقد انطلقت مدرسة فرانكفورت كرد فعل على الدوغماطيقية التي أصابت المنتمين للماركسية والمعجبين بها ، فاتخذت مسارا نقديا يرفض الجمود و التعامل مع الفلسفة الماركسية كنصوص مقدسة ، و اتجه بها هذا المسار الى تناول الفكر التنويري نفسه بعد أن لاحظت تحول العقلانية الى آيديولوجيا شمولية ذات نزعة وثوقية ، و تحول التوجه التنويري الى سلطة فكرية قمعية تقر الواقع باعتقاد أنه ليس هناك أفضل مما هو كائن فلا نبحث عما ينبغي أن يكون .لقد اعترضت مدرسة فرانكفورت على تحول الماركسية و العقلانية الحديثة و تنوير عصر النهضة الى حقيقة مطلقة ، الأمر الذي يعني أن المنهج الذي انتهجته مدرسة فرانكفورت ، يتنافى تماما مع منهج الأصولية الدينية الذي يقوم على الحقيقة المطلقة ، و يتفق مع منهج التنوير الذي يؤمن بنسبية الأفكار و القيم ، فكيف يمكن أن تعتبر مدرسة فرانكفورت ممهدة للأصولية الدينية و مقاومة التنوير ؟

واقع جديد

 ثانيا : إن مدرسة فرانكفورت ، وجدت أن الواقع الجديد بعد إخفاقات الحقبة اللينينية و قمعية الحقبة الستالينية ، و بعد الحرب العالمية الأولى و صعود النازية في ألمانيا و الفاشية في إيطاليا ، ثم الحرب العالمية الثانية ، و الأزمات التي شهدتها أوروبا ، يتطلب دراسة ما ترسب من ذلك و كشف الإشكاليات التي تعيق التقدم . و هذا يعني أن مدرسة فرانكفورت اتجهت لتكوين رؤية مستقبلية للانتقال من واقع قائم الى واقع قادم ، و هذا النهج لا يمكن أن يعتبر تمهيدا للأصولية الدينية التي تتمحور في التراث وتلجأ للماضي .  ثالثا : لقد اعترضت مدرسة فرانكفورت على فلسفة هيغل للتاريخ ، و رأت أنها مثالية ، و أنها لم تعد قادرة على تحليل المجتمعات الرأسمالية الحديثة ، و معالجة التحديات التي تواجهها المجتمعات الغربية ، لذا نادت بضرورة جعل الفلسفة أكثر علمية بإيجاد الربط الوثيق بين الفلسفة و العلوم التجريبية ، و هذا ما لا يتسق مع اللاهوتية التي تتمسك بها الأصولية الدينية ، فكيف يمكن اعتبار مدرسة فرانكفورت ممهدة لها ؟ . رابعا : لاحظت مدرسة فرانكفورت ، أن عصر التنوير أنتج ثقافة هاجمت التأمل الفلسفي التجريدي و اعتمدت العقل البراغماتي ، و اختزلت الإنسان ببعد واحد هو البعد المادي ، و أنها صارت سببا في سيطرة الرأسمالية التي أوجدت الطبقية و ظلمت الطبقة العاملة ، و السبب في بروز الفاشية والنازية ، و أن ذلك كله هو نتاج العقل البراغماتي الأداتي الذي أودى بالعقل المعاصر الى السقوط في اللا عقل . وهي بهذا سواء أ كانت مصيبة في نقدها أو مخطئة ، لم تهاجم التنوير نفسه ، و إنما نقدت سلبيات ثقافة أنتجها عصر التنوير ، و هذا هو السياق الطبيعي الذي يجب أن تنتهجه المدرسة الفكرية التي تؤمن بالفكر النقدي و أثره في الإبداع الفكري .

 إن تمييز مدرسة فرانكفورت بين العقل الأداتي و العقل الموضوعي الذي رأت أن له قيمة معرفية ، لا يستلزم أن لا تسمح هذه المدرسة للفلسفة في بث روح التنوير ، لا سيما و أنها أكدت على ضرورة الربط الوثيق بين الفلسفة و العلوم التجريبية ، بل بين الفلسفة و العلم و التكنولوجيا ، مضافا الى رفضها تحويل النسبي الى حقيقة مطلقة .

خامسا : لقد أصرت مدرسة فرانكفورت على موقفها المناهض للرأسمالية حتى بعد نقدها للماركسية ، و نقدها للرأسمالية ليس لتقويض الرأسمالية ، وإنما لإصلاحها ، فهي في نقدها للرسمالية تقترب من الديمقراطية الاجتماعية . ومن الواضح أن الرأسمالية في المجمل هي حليفة للأصولية الدينية ، فكيف تعتبر مدرسة فرانكفورت ممهدة للأصولية الدينية ؟

اطار زمني

سادسا : إن تقييم مدرسة فرانكفورت ، لا يمكن أن يبتني على كتاب ( ديالكتيك التنوير ) لوحده ، و الذي يجب أن يقرأ في إطاره الزمني ، و إنما يتم تقييم مدرسة فرانكفورت من خلال مجموع منجزها الفكري قبل هذا الكتاب و بعده ، لا سيما و أن هذه المدرسة ، ما تزال ممتدة من جيلها الأول ثم جيلها الثاني و أبرز مفكريه يورغن هابرماس صاحب نظرية الفعل التواصلي ، ثم جيلها الثالث ، و من أبرز قاماته أكسل هونِث الذي يلعب دورا فاعلا في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر .إن مقالتي البحثية المنشورة بعنوان (مدرسة فرانكفورت ) تلقي ضوء على هذه المدرسة الرائدة التي لعبت دورا رئيسا في كسر الجمود الذي منيت به الماركسية ، و كان قد آل اليه عصر التنوير في مطلع القرن العشرين .

{ مفكر و سياسي عراقي مستقل

مشاركة