هذه القصيدة – شكر حاجم الصالحي
في قصيدته التي حملت عنوان ( الملا محمد علي القصاب ) يكشف شاعرها الكبير حميد سعيد عن معرفة تفصيلية بحياة الملا بما فيها من إشكالات وتناقضات وإدهاشات , فهما حميد و الملا من مدينة واحدة لها من العراقة ما يميزها , وكلاهما مبدعان في مشروعه مختلفان في الرؤية للأشياء المحيطة , ولكل واحد فهما فلسفته في الحياة وفي الشعر , الحياة عندهما وجود نابض بالحركة والابداع والجمال والسيرة الحميدة , وكثيراً ما كان الشاعر حميد سعيد يأنس لحضور الملا و يستمتع بأشعاره و طرائفه وبغنائه العذب , وكنت شاهداً على بعض تلك الأماسي الممتعة اللذيذة التي نلتقي فيها معاً في خميسات الأيام الغابرة , و نحن ــ الحضور ــ تأخذنا لحظات الفتنة والسهر بعيداً عن المناكدات العابرة , لكن حياة الملا محمد علي القصاب و شؤونه الشخصية كانت مثار دهشتنا وإستغرابنا وتعاطفنا , فلا زوجة ولا ثروة ولا مورد عيش يقيه ذل الدنيا و نكد الظروف , ومع مأساوية الحال هذا , فأنك تجد الملا لا يكف عن إبتكار المرح و الفرح و كأنه يمتلك أموال قارون , ولذا فقد نال حظوة خاصة في قلوب محبيه واستأثر برعايتهم واهتمامهم في أوجه متعددة , ولكي لا نستغرق في نبش ما هو مسكوت عنه في حياة الملا , أدعوكم للاستمتاع بهذه القصيدة التي تلخص بعض ما يكتنف هذه الحياة ,والتي رسم ملامحها و كشف عن خفاياها الشاعر الكبير حميد سعيد في قصيدته الوافية الشافية عن ( الملا ) والتي يقول فيها :
يضحك حيث كان
ثم يبكي
حين تنتهي السهرة إذ ينصرف الأصحاب
يضحك في بكائه و في الغناء
ثم يبكي بعد أن يعود من غربته .. إليها
ثملاً ……. و يغلق الأبـــواب.
لا شك أن هذا المفتتح يمنحنا صورة واضحة وجلية عن الحياة التي يعيشها الملا بمراراتها وانكساراتها و جموحها , فهو لا يكف عن الضحك ممتلئاً بنشوة الأحبة ولحظات السمر والمتعة ,لكنه حين يصحو من تلك النشوة يسترجع تفاصيل واقعة الموحش , فيختلط الضحك في البكاء بعد ان يعود من غربته وحيداً … ثملاً ولا أنيس يملأ ليلته فيغلق أبواب الأمل والإنتظار والفرح وهكذا تكرر أيامه بغنائياته الموجعة وأنينه الشجي , ومن هنا أدركت القصيدة سرّ الوجع العراقي المتوارث و جاءت معبرة بصدق عن حياة حافلة بالألم والهواجس المخيفة والتكهنات الصادمة ,فالملا محمد علي القصاب كما يقول قصيدة الشاعر حميد سعيد:
الساحـــر الساخر والمهذب الحيّ
يـــخشـــــــــــــى المـــــــــــوت
حاول أن يشغله بإلفه ناعمة ونكتة
و ســـــكره صاخبة , ورقصــة
و بالــغــنــاء …
شاعر مبدع
نعم هو الملا الساحر الساخر المهذب و تلك صفات أوجزتها القصيدة و كرستها وأشاعت مزايا هذه الصفات بين من لا يعرف الملا القصاب عن قرب , لكن شاعرنا المبدع الكبير نجح في توصيفه الدقيق وجعلنا نعيش في ملاذات القصاب ونمضي معه في حياة موجعة يخشى صاحبها الموت ــ ومن من البشر أحبه ــ ولكنه المصير المحتوم , الذي يحاول الملا التغلب عليه ــ رمزياً ــ ويشاغله بالمحبة ومتع الحياة التي لا تنقطع عن الهطول في أيامنا المجدبة , نكته هي الحياة وما علينا أن نراوغها ونهرب من نهايتها بالغناء , كما يرى حميد سعيد في هذه القصيدة المتألقة بتوصيفاتها الدقيقة , فهو يضيف :
رأيته هناك ــ ذات يوم في مسارب القبور
ينسل وحيـــــداً .. مثل خلســـة المختلس
بين المريدين الذين يسبقونه الى المقاهي
حيث عاش فـــي ضجيجـــها…………
كان وحـــيــداً
يصخـــبون بإســــمه ….. و يضحكون
نعم يقول الشاعر حميد سعيد : رأيته هناك .. ذات يوم في مسارب القبور , نعم أنه تعبير رمزي عن تماثل البيوت والقبور , فالبيوت هنا قبور موحشة , والملا القصاب هو من يعيش في مساربها , يقضي يومه في المقاهي الموغلة بالصدأ والخوف من الآتي , رغم ما فيها من ضجيج لكن الملا ظل وحيداً متألماً يرى الأشياء بعين المبدع الذي أكله الفقر والحرمان , مع أن القطيع لا يأبه لواقعه الأليم إلا انه فاكهة المريدين الذين يصخبون رغم مواجعهم … ويضحكون على أحوالهم المتردية في وقت يتوجب عليهم الإنتباه و السعي لتغيير نمط الحياة التي يضحكون منها وهو الذي :
كان عزلته بعيداً
ليس هذا الكفن الممتد بين المهد واللحد
ســـــــــوى قصيدة منتحلة
وليس عمر العاشق الصوفي
غير لحظـــة مؤجـــــــــلة
ما عرف الســـــــــــــفر
أقام في أســـئلة مقفلة …
لِمَ و لماذا ؟ من و ماذا ؟
وهكذا هو الملا القصاب كما تشير قصيدة الشاعر حميد سعيد . فقد ظل الشاعر في عزلته بعيداً يج أيامه وليس له في هذه الحياة غير كفن يشبه القصيدة المؤجلة التي تنتظر الولادة على يد قابلة الأيام فهي لحظة مؤجلة , والملا القصاب فوق كل هذا الخراب ظل حبيس هذه العزلة المقلقة الموشاة بجحيم الليالي الباردة التي دوختها الأسئلة الباحثة عن إجابات شافية عن هذا الواقع المتناقض والمتردي رغم كل مساحيق الألفة والتجميل الفاقعة الألوان , وبعد … من هو النلا محمد علي القصاب كما عرفته هذه القصيدة الفخمة بدوالها و معانيها و جمال صورها :
بــــــلا ضجــيـــــج
هو الذي رأى قوافل الظلامِ
فــي رحيلـــها الســــــري
مــــن ليــل الــى ليــــــــل
هــــو الــــذي غــــــــــنّى
هو الذي استجار بالنار من الرمضاء
هــــــــــــو الــــــــــــذي
أقام ظامئاً على ضفاف الماء
ولابد في نهاية المطاف من القول ان قصيدة ( الملا محمد علي القصاب ) صورة حية عن حياة شاعر أكتنفها الأسى رغم مرحها وطرافتها , حياة استطاع الشاعر الكبير حميد سعيد أن يستحضر لنا منها مقطعاً معبراً بأمانة و صدق عن سنوات من الحب والشعر والمأساة … وتلك فضيلة نغبطها علـــــيه