هجرة العقول وضياع المستقبل – ماهر نصرت

هجرة العقول وضياع المستقبل – ماهر نصرت

في تاريخ العراق الحديث تبرز مفارقة تتمثل في تحول العراق الى بيئة طاردة لعلمائه ومثقفيه وكفاءاته حتى اصبح هروب العقول ظاهرة عامة لا استثناء فيها فمنذ بداية ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم اضطر عدد كبيرمن الاطباء والمهندسين والباحثين والطيارين والاساتذة الجامعيين الى مغادرة البلاد والعمل في دول الخليج واوربا وامريكا حيث وجدوا هناك التقدير والاستقرار وبيئة العمل المهنية التي افتقدوها في وطنهم  ، لقد شهد العراق في نهاية السبعينات فترة قصيرة من الرفاه كانت تبشر بمستقبل علمي وصناعي واعد غير انها سرعان ما تبخرت مع الحروب والعقوبات والاضطرابات السياسية والادارية التي حطمت البيئة الحاضنة للعلم والابداع ودفعت النخب الى الهجرة بحثاً عن الأمن والامان والكرامة المهنية فقد سيطر على البلاد نخبة من الحكام والمسؤولين الذين لا يعيرون للعلم والعلماء والمثقفين اهمية تذكر وهمهم الاول والاخير هو الظهور بمظهر القادة المنتصرين في حروب عبثية دفع الشعب ثروته وحياته بسببها لينتهي الامر بنا اخيراً الى الصراع على السلطة من قبل الاحزاب وتقسيم ثروات البلد .

نزيف بشري

وتكشف بعض الامثلة حجم هذا النزيف البشري حيث يعمل عراقيون في مواقع متقدمة ضمن قطاعات الطيران والطب والهندسة والبحث العلمي في دول متقدمة بينما يفتقدهم بلدهم الام فهل تعلمون ان 20بالمئة من الطيارين في اوربا هم عراقيين وان 40بالمئة من اطباء العالم في مستشفيات الدول الغربية ومنها بريطانيا وامريكا وكذلك دول الخليج هم عراقيين والمشكلة الاكبر ان من يكمل دراسته الاكاديمية اليوم في الجامعات العالمية لايفكر بالعودة الى بلده  بسبب فوضى البلد وغياب التخطيط وانعدام العدالة ورفض الاحتضان الحقيقي للكفاءة.

 كما ان مشاريع الدولة التي يفترض ان تعتمد على الخبرة المحلية باتت تنفذ في الغالب عبر شركات تستدعى من الخارج بسبب عدم وجود الكفاءات الوطنية من جانب وانتشار الفساد المالي من جانب اخر فقد راحوا  يستوردون الخبرة بثمن باهظ بينما عقول ابنائه تعمل في الخارج .

ويزداد المشهد فوضوية  مع الخلل الاداري وسوء توزيع الاختصاصات حيث يعمل مهندسون مدنييون في وظائف عسكرية او ادارية بعيدة عن تخصصهم بينما يشغل غير المؤهلين وغير المختصين مواقع حساسة في مشاريع مصيرية ويضاف الى ذلك فوضى الادارة العامة التي انعكست على الرواتب وعدم تناسبها مع الشهادات والخبرة حتى في الدرجات الوظيفية الدنيا مما خلق شعوراً عاماً بالظلم وفقدان الحافز ودفع المزيد من الكفاءات الى الهجرة وعدم العودة الى العراق او التوقف عن العطاء داخل البلاد  .

ان ما يمر به العراق اليوم يمكن وصفه بمرحلة الانحطاط الحضاري ليس بسبب فقر الموارد بل بسبب سوء ادارتها والفساد الذي يسري في جسد البلاد كالأرضة وغياب الايمان بقيمة الانسان المتعلم فالدول لا تبنى بالمال وحده بل بالعقل وحين يهاجر العقل يبقى الوطن جسدا بلا روح .