هالة من رماد

نصّ سردي    -3-

 

 هالة من رماد

 

مهدي علي ازبيِّن

 

يتوّقف استرسال قهقهاتها

 

   – ما هو ؟

 

– أنا من يدفع حساب الفنجانين !!

 

   تترى الهاءات تجلجل بصمت . أسايرها ، أو تنتقل لي العدوى ؛ فيفقد صوتي وقاره . أخرج من شرودي . أصدّ العيون وهي تأسرني بنظرات الإستغراب حين تلتقط ذبذبات ضاحكة من غير قصد . ألملم بعضي على بعضي ، أتلفّع بعباءة الوقار . أعود للفنجان ، وقد فرّت كل خيوط الدفء منه ، و شغل محلّها البرد . أرشف حسوة من القهوة ، و أطلق بصري عبر زجاج البوابة ؛ فأجد السائق خلف المقود ينتظر ، وساعات الفندق تثيرني ؛ لأن الجلسة أزف وقتها . أنفض رأسي . أفكّ شراك احتدام الأفكار ، فينزاح عني هلام البعثرة .

 

   انتظريني . سأضع عينيّ بعينيك ، و نتواجه من غير وسائط اصطناعية . ساقول لك “هذا أنا ..”

 

   أستقرّ في صدر السيارة .. تتهادى . أطالع ساعتي  ؛ فأعاتب نفسي بهمس “تأخرتُ ، و أنا  السبب” .. يصلني صوت السائق وهو يتابع الطريق

 

   – سنصل بسرعة ..

 

   أرى المباني أخيلةً ، والبشر أشباحًا ملوّنة .. أن أصل متأخرًا أفضل من أن لا أصل نهائيًا . في التأخير خير . كي لا أضعها في حرج المفاجأة ، و أقودها إلى متاهة الإرتباك . سأدلف القاعة وقد انسجمت مع جوّ الاحتفالية ، واتّسق مزاجها في تفاعله مع الحضور . يصدح صوتها من خلال أجهزة ال D J , ليبلغ  الأسماع .

 

في المرة الثانية ؛ كتبت تخبرني

 

“تمّ اختياري للمشاركة في أمسية مع مجموعة من الكتاب ، يقدّم كلّ واحد نصًّا بمساحة خمس دقائق ، وسيحضر نقاد معروفون في السرد ، وجمهور نخبوي ، أمامي بضعة أيام لاختيار النص . إني مرتبكة إلى حدّ الضياع . لا أستطيع تصوّر لحظة اعتلاء المنصة ، و كيفية اجتياز حاجز الخجل ، فأنا لا أبحر في عين محدّثي ، سأفرّ فوق الرؤوس . أتحاشى تراشق النظرات لأني أحتار في تحليلها ..”

 

تعرض عليّ نصًّا . أستحسنه .

 

   – لكنه منسوج من حزن .

 

   – أعرف هذا .

 

   – أنتِ بالكاد ينفذ صوتك من ستارات الخجل . ماذا سيبقى منه و النصّ مغرق بالأسى ، وتنغيم عباراته منخفض ؟!

 

   – إنه قريب إلى نفسي .

 

   – ستعانين ، و ترهقين قلبك المتعب ، حين تنزعين إلى كسر أغلفة الحياء ، والتمكن من رهبة الامتحان .

 

   – إنها فرصة لإثبات قدراتي ، و لأنبّه الآخرين لموهبتي

 

   – وقلبك ؟!

 

   – عليّ نسيانه مؤقتًا

 

   – .. عليك أن تسترخي ، و تأخذي شهيقًا عميقًا قبل البدء بالقراءة ، و أن تشكّلي الحروف بدقة ، وتهتمّي بعلامات الترقيم .

 

   – أنا مرتعبة .

 

   – لا تخافي . لا تفقدي ثقتك بنفسك . و أكثر الحضور هم من المعارف و الأصدقاء . تخيّليني ، و اعتبري إلقاءك موجهًا إليّ …

 

   – لكن ؛ كيف أرفع صوتي ، سأختنق بالعبارة ؟

 

   – قرّبي المايك من فمك . إقرئي بهدوء يحاكي الهمس

 

   – سأحاول

 

   – و الآن خذي وقتك ، و ردّدي النصّ أمام المرآة ، وهذه الليلة لا تسهري .

 

تأسرها الحيرة

 

   – لن يأتيني النوم ، فأنا أتقلّب على سرير القلق .

 

   – عليك أن تأخذي كفايتك من الراحة ، و أن تسترخي ، و تذكّري أنا جالس بين الجمهور ؛ أستمع إليك  مغمض العينين .. تصبحين على خير .

 

   تودّعني وهي قلقة ، و أنا أكثر قلقًا عليها ، و على الأسير في صدرها . إنها تقسو عليه كثيرًا . كم تبدو طيّبة و رقيقة ، لكنها تفتقد الرحمة مع وديعتها ؛ مضخّة الدم في شرايينها التي تبهج الحياة في أعضائها ، و تشحذ ذهنها ليتوقد بدرر الكلام ، فهي امرأة لا تتبرّج بعبارتها ؛ لدقّة فكرتها ، و سحر إيحاء حروفها .. أراها تتوهّج بعطور بوحها و ألوان الجمال .

 

   تحين لحظة الاختبار عند رأس الساعة السابعة .. تمرّ ساعة .. ساعتان .. ثلاث . تظهر صور على (الفيس) عن الأمسية ، و واحدة لها وهي تعطي صفحة وجهها إلى الكاميرا ، وتجعل من يدها متّكأً لخدّها ، يهرب شعاع عينيها ، ينشد البعيد . نصحتها “لا تسهري” !! أنا لا أحبّ تلبّس دور الناصح ، و لا المنصوح .. لكن كيف أختزل حلقات التفاهم ، وها أنا أرى انتفاخًا تحت عينيها ، وهالةً من رماد توشم أجفانها رغم رتوش إخفائها . الخجل تآنس مع حزن داخن ؛ ليلوّن لوحة المحيّا .

 

لم تظهر إلا بعد انتصاف الليل . فأطلق لسان العتب

 

   – لِمَ تأخرتِ ؟

 

تغلّف إجابتها بزهو حاد

 

   – بسبب الاهتمام غير المتوقّع ، و احتفاء الأصدقاء . لقد عشت لحظات رائعة ..

 

أقاطعها

 

   – على رسلك . كيف حالك أولاً ، أقصد قلبك ؟

 

   – نسيته ..

 

   – كيف تلقّى الحضور أداءك ؟

 

   – باهتمام كبير … جدًا .

 

   ثم تكتب “قراتُ بانفعال ، وغبت مع الحروف ، حتى انتهيت و أنا ابكي . صفّق لي الحضور طويلاً . تميّزت بالأداء عن غيري ، وكذا لفت النصّ الانتباه ، وحظي بالإشادة من قبل كل المعقّبين على تحليل النصوص . لقد حصلت على تتويج لمجهودي في الكتابة ، أعتـــــــــبرتها شهادات على تمكّني من أدواتي ، و أن لي بصمة في السرد . أنا مغتبطة إلى حدّ الانتشاء ، و فرحة لعبــــــارات الإطراء . انفعلتُ ، و أخذتْ قطرات الخجـــــل تنزّ من مساماتي . اغرورقت عيناي بندى الإنشراح . و انشغل جسدي برعشة خفيفة ، حين دهمتني السخونة و هي تلسع صدري ، و شعرت بتوهّج خدّيّ من الحرارة … أريد أن أبوح لك بشيء ، قد تعتبرني مغالية .. ولكن متردّدة … هههههه” .

 

   وصلتني الفكرة . فقد أفقدها المديح توازنها . يبدو أن هناك إسرافًا ، و خروجًا للنقد عن طوره ، وتحوله إلى مجاملات ، أو انطباعات لا علاقة لها بالنقد و النصوص ..

 

   – عرفتُ . هل أقول أنا ، أم أنت .. يا مغروووورة !!

 

تضحك بتعب بائن

 

   – نعم لقد جعلوني أخرج عن نطاق حضوري ..

 

ابتدأ المتداخل الأول ورقته النقدية برسم أبعاد جمالي الجسمانية و أسبغ عليّ لقب ( أميرة ال….)

 

ينفعل لساني

 

   – وهل أنت في مسابقة ملكة الجمال أم قراءة قصصية ؟!

 

   – إنه رجل كهل ، و شاعر معروف ، يعتدّ برأيه كثيرًا . بعدها أبدى رؤية ثاقبة في قصتي ، و عدّها الأولى من بين القراءات . لقد أثنى على الفكرة ، و دقة اللغة ، و الأداء .

 

   – ثمّ ماذا ؟؟!!

 

   – و كل من تلاه .. يشيد بجمالي أولاً .. ثم يعرج على التحليل . اتفقوا على أنني سيدة الجلسة .

 

  – …………!!

 

   – و بعد الانتهاء من الرســـــــــميات و الصور ، انفتحنا على اللقاءات الجانبية ، وكانت العيون تحوم حولي ، وهناك شاعر عراقي وصف عيوني ب(الموصليات) ، وكذا شعري ، حتى أنه حسبني عراقية ..

 

   – هل نحن في احتفالية أدبية ، أم مماحكات تحسب على صريح الغزل ؟

 

   – ماذا أفعل .. هم يبادرونني . فهل أصدّ محدّثي و أقول له اسكت ؟

 

   – لا و لكننا تركنا متن النصّ ، و انصبّ الاهتمام على متون الناصّ .. لماذا لا يناقشك المتقرب الى طقوس الغزل في مجال الإبداع ، وينظر للنصّ ، أم ينظر إليك ثم لقصتك . هل استطعت أن تقدري المسكوت عنه ، و ما وراء العبارة ، و هل التصريحات اتسمت بالبراءة ؛ أم أن الـــــنوايا تصبّ في خانة الغزل ؟

 

تضحك … تضحك و تضحك

 

   – لقد سرقتُ الأضواء ، وشعـــرت أنني سيدة الجلسة .

 

   – الحمد لله على كل حال يا … مغرورة

 

تضحك مجدّدًا … ثمّ

 

   – لقد بدأ قلبي ينغزني ، وتختلّ ضرباته

 

   – سلامات .. ألم أقل لك : رفقًا به ؟

 

   – لم أخبرك بعد ظهوري الأول أمام الجمهور ؛ رقدت أسبوعًا في البيت ، و قد أشرفت على مغادرة الحياة .. سأتصل بالطبيب

 

   – ارتاحي و اعلميني .. قلبي معك .

 

تختفي . تنقطع عن زيارة صفحتي ، ثم تتصل بي بعد أيام تسأل عن حالي . أقاطعها

 

   – لا عليك بحالي . أصدقيني القول ، و أجيبي أولا .. كيف حالك ؟

 

   – أنا في البيت ، وحالي مستقرّ .

 

   – أجيبي بدقّة ؟

 

   – لقد لازمت السرير ، والطبيب في البيت منذ أربعة أيام .

 

    تظلمّ شاشة الحاسوب ، يسجرني كانون الغيظ ، تلسعني شواظّ بركان في داخلي . تتذبذب بوصلة إحساسي .

 

تضلّ خطى قلبي مسارها ، فيختلّ وقع أمانها . أحاول كبح دويّ ضرباته المنفلتة . أمدّ يدي متوسّلاً كي يهدأ . أقبض على موضعه “لماذا أوصلتِ نفسك إلى هذا الخانق .. لماذا ..” .

 

   أسمـــــع صوتًا صادرًا مني . فـــــــــــــأفزّ و أنا أمــسك قميــــــصي ، وقد تشـــــوّش بصري ، لأجـــــــدني في السيارة ، و هي متوقــــــــــــفة عند بوابة المنتدى .

 

يرنو إليّ السائق ، وعلامــــــــــــات التعجب و الخوف تزغلل عينيه .

 

   – أستاذ وصلنا منذ دقائق .. ولكني آثرت أن لا أوقظك ..

 

   – آسف لإزعاجك .. هل هلوست ؟

 

مشاركة