نهم شديد لإشباع غريزة مشروعة
بين كعكة بروست .. وبطّيخة الصائغ
حسين سرمك حسن
ولقد التقى بروست بهذه الصدفة السعيدة، صدفة انتشال ذكرى أيام الطفولة الغابرة ، حين عاد إلى بيته، ذات يوم ممطر، وكان قد تخطى الثلاثين من العمر، حزينا، رازحا تحت وطأة الهموم. فعرضت عليه أمه، التي رأت أنه بردان، أن يشرب، خلافا لعادته، قليلا من الشاي. وعندما رضخ لمشيئتها، بعد تردد، أرسلت من يشتري له نوعا من الكعك، قصيرا ومكتنزا اسمه مادلين الصغيرة غمس قطعة منه في الفنجان ثم رفعها بالملعقة، آليا، إلى شفاهه، لكن في اللحظة ذاتها التي مست فيها الجرعة الممزوجة بفتات الكعك سقف حلقه، انتفض، منتبها إلى التحوّل العجيب الجاري في أعماقه. لقد اجتاحته … نشوة لذيذة، منعزلة، دون معرفة سببها. أحالتني فجأة لا مباليا أمام تقلبات الحياة، محصّنا ضد كوارثها، وأحالت قصرها وهميا بنفس الطريقة التي يفعل بها الحب، مالئة إياي بجوهر نادر، أو بالأحرى هذا الجوهر لم يكن فيّ، لقد كان أنا . لم أعد اشعر بنفسي تافها، عرضيا، فانيا…
فاحتار في أمره وراح يسأل عن مصدر هذه الغبطة المذهلة، التي أعتقته فجأة من نيره الثقيل، وأوهمته أنه خالد لا يخشى زوالا؟ لاشك أن هذا الفرح مرتبط بنكهة الشاي والكعك. لكنه يتعدى نطاقها، ويغاير طبيعتها. من أين يأتي؟ كيف يعثر له على معنى؟
ذكريات الماضي
وها هو يهتدي بعد تفكير طويل إلى هذه النتيجة إن ما يرتعش هكذا في أعماقه، هو الذكرى المرئية، التي جاء المذاق يفك عقالها بيده السحرية، ويطلقها من قمقم النسيان، الذي كانت محتجزة فيه. لكنها تصطرع بعيدا جدا، وبغموض كبير، جاهدة للخروج إلى النور، عاكسة ظلالا من الألوان المختلطة، والأشكال غير المتميزة، عاجزة عن الإفصاح عن الظرف الخاص الذي تعبر عنه، وعن الفترة من الماضي التي تعاصرها راجع كتاب لحظة الأبدية لسمير الحاج شاهين .
ولكن طعم كعكة الماندلين الصغيرة الممتلئة هذه هو مثير في الحاضر استدعى ذكرى عميقة غائصة في ظلمة اللاوعي. فهي نفسها التي كانت تقدمها له عمّته ليوني مغموسة بالشاي عندما كان يدخل غرفتها. ومن هنا سحب مذاق الكعكة صورة مسقط رأسه ومأساة رقاده حينما كانت أمّه ترفض الصعود إلى غرفته لتطبع قبلة المساء على جبينه. وهكذا نستطيع الإمساك بالزمن الضائع واستعادته عبر ذكريات تثيرها الأحاسيس الصغيرة الذوقية والشمية والسمعية والبصرية وغيرها. فتنهض مراحلٌ لفّها صندوق الذاكرة الأسود وهشمتها مخالب الزمن كممثل للموت؛ تنهض كوسيلة لمقاومة الفناء وتأمين الشعور بالديمومة. وعبر هذه الوقائع الصغيرة المستثارة بالمحفزات الناعمة والمبتذلة أحيانا تتأسس عوالم كاملة معقدة تُشاد من جديد بحجارة مواد ذكريات زمننا الماضي الذي اعتقدنا خطأ أنه ضاع مرة واحدة وإلى الأبد؛ تُشاد بعملية لاواعية وفي لحظات صوفية فائقة مصحوبة بالفرح والشعور الغامر بالسعادة. وفي مثل هذه اللحظات يبيح لنا العالم كنوزه الدفينة فإذا به حافل بالمادة الشعرية جدير بالوصف. عندئذ فقط يجب أن نكون على استعداد لتلقي عطاياه، وتدوين المفاتن المحظورة التي أسفر عنها فجأة، إذا كنا نريد بالفعل، أن نبدع عملا فنيا.. فنحن حسب بروست لسنا شعراء دائما. لكننا نصبح كذلك خلال تلك اللحظات الخاطفة، إذا نجحنا أثناءها في التقاط كل ما يمر على شاشة وعينا ص 101 و102 لحظة الأبدية .
من ذلك الموقف اليومي العادي غمس قطعة الكيك وتذوّقها فتح بروست أبواب استثمار اللاوعي في الرواية الغربية الحديثة. لم تعد كعكة بروست حالة فردية عادية بل أنموذجا ومفتاحا معرفيا ونفسيا وجماليا هائلا فتح كوة فريدة على علاقة المبدع بالكون والحياة والزمان والأهم بمحتويات لاشعوره هو نفسه.
وفي الجزء الثاني من سيرة المبدع الراحل يوسف الصائغ الذاتية الإعتراف الأخير لمالك بن الريب هناك حالة مقابلة وتحمل،بطبيعة الحال، سمات ومعاني مغايرة برغم أنها في المآل الأخير تصب في المسار نفسه علاقة المبدع بمكنونات لاوعيه خصوصا المكبوت منها والتي تفتح أبوابها المغلقة حادثة يومية عادية جدا تكون مفتاحا للخبيء الملغز والمعنّد هناك، والذي تتفجر سلسلة من مكوناته الذاكراتية اللائذة اللائبة ساحبة معها الإنفعالات المصاحبة الحبيسة التي يشعرنا انطلاق طاقتها بانفراج وبهجة لا توصف.
كان أطغى ما فيها شذاها. ذلك الشذا النباتي المبهم الذي ينبعث عادة من بطيخ آخر الصيف، وقد اختزنته على مهل من رطوبة رمل الشاطىء الحار وقد نقعه الماء.
إنني أكتب هذه السطور، وفي كياني يفوح شذا تلك البطيخة إلي. كان أبي قد وضعها قرب النافورة في السرداب لتبرد في ذلك الظل الرطب عند الظهيرة.
ولقد كنت أتناول طعام الغداء، وأنا ممتلىء بمحض النداء الصادر من رائحتها الأنثوية الفاغمة . ولقد تخيلتها مقدما. واستطعت أن أتذوقها وأنا بعيد عنها.
بل لقد زدت على ذلك، ورحت أراقب تلذذي وهو يتورم في جسدي، ويتصلب من فرط الرغبة، واستطيب لعابي، وعصارات معدتي وأتاني.
كنت أعرف أنها تنتظرني، وأنها لابد تعاني ذلك التشوق الصعب، الذي تعانيه كل الاشياء المشتهاة، فلونها البرتقالي، بسبب ضراوة عصيرها، وغضارة لحمها، يزداد احتراقا. ومخاط بذورها اللامعة، يتلوى على نفسه، بغطرسة فعله الجنسي المبتذل.
اقتربت منها.. وحين رأيتها تحت عيني. قريبة من أنفي، عرفت تماما، أنها كفّت عن مجرد أن تكون مجرد ثمرة. أو محض كائن نباتي مذبوح. بل هي حيوان، تام الحيوانية. وأن لها لحما مليئا بالعصارة والألياف يغري بالبهجة والموت.
ما كنت للوهلة الأولى، أطمع بسوى أن أقف عندها وأتأملها بحواسي. مستدرّا كل ما في جسدي من طاقة على صنع عصاراتي الحارقة.
وحين أوجعتني يدي وهي تتجه على غير إرادة منها إلى السكّين، ما خطر لي أكثر من أنني سأحتز منها قطعة، هلالية، أعض عليها باسناني، وأريح في نسيجها حرارة لثتي التي كانت قد تورّمت تماما. ولقد صنعت الهلال الأول من جسد ذاك الحيوان النباتي الفذ … ثم نسيتُ نفسي. وحين انتبهت، لم يكن قد بقي من القبّة البرتقالية المشطورة، سوى قطعة بحجم كفّي، عليها آثار أسناني، وشهوتي. في حين كنتُ أنا نفسي، ملطّخا بشراهتي، ودم الضحية النباتي الذي راح بسبب ما ينطوي عليه من كبريت سرّي يحرقني على منابت شاربي.
ما كان معقولا أن أترك تلك القطعة الذليلة لأنها، في ابسط الأحوال، يمكن أن تشهد علي، فاستعنت بتوتري على أن أزدردها، وتكوّنت دوني، قشور قبيحة، هي جلد حيوان مقتول بقسوة. رحتُ أجمعها بتقزز وأنا مشغول بإخفائها، بقدر انشغالي مقدّما، بانتظار نتائج فعلتي . إعترافات مالك بن الريب ج 2 ص 129و 130 .
كم مرّة أكلنا البطيخ؟ مرّة، مرّتين ألف.. ألفين؟ أكلناه بلذّة ونهم وبمعان لم نستطع اكتشافها إلا على يدي المبدع الصائغ. بروحه ولهفته وأنامله الذهبية وبالكيفية التي تتحول فيها تلك الثمرة الجامدة البليدة إلى قطعة من جسد أنثوي حي ملتهب ومعذّب. إن هذا الحدث العابر واليومي الذي يؤدّى بصورة ميكانيكية لا حسّ فيها ولا موجّه إلا للأستجابة المعديّة الحيوانية يتحوّل إلى موقف شعري مفعم بالحسّية الباهرة والتوتر النفسي المتعالي الذي يكشف أعمق نوازعنا ليس نحو قطعة البطيخ وإشباع غريزة الجوع المُفرط حسب بل نحو مفردات الحياة في دلالاتها المعلنة والمستترة بأكملها
حين انتهيت من ذلك، رحتُ إلى مكاني فاستلقيت، متدبرا، شكل البراءة التي لابدّ أن أحتاجها، لكي لا تتجه إليّ الشكوك. وكنتُ أسلّي نفسي، بأنني رغم سوء سمعتي باعتباري أكثر أهل هذه الدار شراهة، لا يمكن أن أجتذب الإنتباه، إلى أنني، مؤهّل لارتكاب موبقة فاضحة كهذه ص 131 .
عظمة الفن
إن فعلا طافحا بالنهم والبحث المنسعر عن إشباع غريزة مشروعة بحدود تتعدى حدودها الطبيعية يمكن أن تكون مؤشّرا لما سيصبح دافعا خفيّا يلوّن الحياة كلّها وقد يخرّبها. وهكذا كان حال يوسف في حياته الطويلة المتناقضة المزحومة بالإندفاعية واستثارة المخاطر واقتراف الآثام اللذيذة وما يترتب عليها من أحاسيس شديدة بالإثم نفسيا واجتماعيا وسياسيا وإبداعيا
ولقد كبرت معي شراهتي، وإلى حين راحت تكلّفني الكثير من المهانة والعذاب بسبب ما اعتادت عمّتي تسميته بـ العين الجوعانة . ولعلّ الله استجاب صلواتي، بعد أن اكتشفتُ أن هناك خطيئة بين الخطايا اسمها الشراهة ، فرحتُ اضمّها إلى خطاياي المعدودة التي أعترف بها للكاهن. إذ سرعان ما راحت هذه الشراهة، تتخذ أشكالا عديدة تلبس أحيانا لبوس الهوس أو اللجاجة، متنقلة بين جانب وآخر ص 131 . إن تقمص دور الضحية المصلوب على صليب الآثام المحكوم جزئيا بثقافة يوسف الدينية، كان ديدن يوسف في سلوكه الحياتي الإجتماعي والسياسي. ويتكفل الفن بجعل ذلك جزءا مستترا من مكونات بنيتنا اللاشعورية
ولعل أعمق ما في فتنة الموز عندي، ترجع أساسا، وستبقى منسوبة دائما، إلى طعم الموزة الأولى الذي فاجأني، وأنا في أول شراهتي.
فأنا مازلت أذكر، تلك الدهشة، التي اعترت حواسي جميعا حين تذوقت هذه الفاكهة المخنّثة. لم يكن لساني وحده هو السعيد بالإتصال بذلك الطعم الفريد الذي لا تشبهه الطعوم. بل فمي المملوء بالأعصاب والاسنان والدم الطفولي، يتذوق الرائحة، والصوت الناجمين عن استسلام الفاكهة لشهوتي، وهي ترتكب انسجامها المذهل، ورغبتها الأكيدة والمعلنة بوضوح كاف في أن تصبح جزءا من فمي ولساني وأسناني. فكأني بعد وهلة آكل نفسي.
ولقد بقي فمي، معطرا بالدم والشهوة حتى بعد أن ذابت الفاكهة فيّ، وظل ذاك العطر يفوح مني سنوات. ولقد كان ذلك لذيذا، بقدر ما كان معذّبا، بسبب قوّة التوق، وجيشان الشهوة في الذاكرة.
كنت أستحي من ارتعاش جسدي الخفي، وأنا أتخيّل ما سيحدث بعد قليل، وأخاف طغيان شراهتي. وهو ما أعرف جيدا أنني موشك على ارتكابه.
من ذلك التصميم الإنتحاري الذي ما كان يمكن التخلص منه إلا بالإستسلام له، والتردّي فيه، بأكبر قدر من الدعارة والهوان، اكتشفتُ بقليل من الأسى، وبكثير من اللامبالاة، أنني لا أملك، ولن أملك وسيلة أتحرر بها من شراهتي، إلا بالإستسلام لها حدّ الإنتحار ص 136 .
من المؤكد أن هناك اختلافات كثيرة بين كعكة بروست وبطيخة الصائغ من ناحية الوظيفة والجدوى والموقع البنائي السردي وغيرها، ولكنهما تشتركان في تأكيد عظمة الفن ودوره في الحياة البشرية كرد فعل مقاوم بوجه الفناء يؤمن إحساسا ثرا بالإمتداد الخلودي مع الدين والجنس الإنجاب والجانب المتعلق بحفظ الصحة من العلم. وهو أيضا قادر بصورة فريدة على تأكيد وحدة الزمان ووحدة وجودنا فيه. إنه هذا الفعل الخلاق الذي يربط الأزل بالأبد لينتج الشعور السرمدي الدفاعي بوجه المثكل. وهو الذي يوفّر لنا واقعا موازيا أكثر جمالا حتى لو كان مؤلما يسمو على الواقع المعيش البليد الذي فقد القدرة على الإدهاش وضاع منه بهاء صدمة البراءة الأولى التي نبحث عنها عبثا بين طياته. وبمجموع أدواره هذه وغيرها يتحقق فعل علاجي وجودي ونفسي باهر. ثم هذا الكشف الدقيق لمعانى دور الإبداع في حياتنا. ففي الإبداع وحده يتجلى الله وروح الإنسان الفذّة الأصيلة وكون الإنسان ثغرة في نظام الطبيعة وليس حجرا استمراريا في بنائها كما تؤكد الفلسفة المادية الغربية الحديثة. فـ العلم يعطينا صورة فوتوغرافية دقيقة للعالم، وإن كانت تفتقر إلى بعد جوهري للواقع حيث يتميز العلم بفهم طبيعي خاطىء لكل ما هو حي وكل ما هو إنساني. إنه بمنطقه التحليلي المجرد يجعل الحياة خلوّا من الحياة، ويجعل الإنسان خلوا من الإنسانية. إن العلم في علاقته بالإنسان ممكن فقط، إذا كان الإنسان حقا جزءا من العالم أو نتاجا له بمعنى آخر، أن يكون شيئا . وعلى عكس ذلك، الفن ممكن فقط إذا كان الإنسان مختلقا عن الطبيعة. إذا كان غريبا فيها، إذا كان هوية متميزة. فكل الفنون تحكي قصة متصلة لغربة الإنسان في الطبيعة … العلم يُحصي الحقائق التي تؤدي بصورة عنيدة إلى الإستنتاج بأن الإنسان قد تطوّر تدريجيا من حيوان إلى إنسان. أما الفن، فإنه يرينا الإنسان في صورة مثيرة قادما من عالم مجهول الإسلام بين الشرق والغرب علي عزت بيجوفتش .
وأروع ما يكشفه الفن عن مجهولية الإنسان ولغزه هو ما يفجّره تعامله مع الأشياء البسيطة وحتى التافهة من معان مكتومة. تلك المعاني التي لا يعرض منها سوى سطحها الجمالي تاركا عمقها الدلالي يضطرب في اذهاننا ويستثير الإنفعالات في أعماقنا. وشرط هذا التحقق الجمالي الخارق الأول هو استعادته لتأكيد حقيقة أن الإنسان حيوان يتذكر . ولكنه يتذكر مستكشفا دلالات جديدة في كل حركة وموقف. في حين ان الفأرة تصطاد بقطعة الجبن نفسها كل مرّة. إن الإنسان عندما استخدم لأول مرة حجرا لكسر ثمرة جافة أو لضرب حيوان فقد فعل شيئا هاما جدا، ولكنه ليس جدبدا كل الجدة لأن آباءه الأوائل من فصيلته الحيوانية قد حاولوا فعل الشىء نفسه. ولكنه عندما وضع الحجر أمام عينيه ونظر إليه باعتباره رمزا لروح، فإنه بذلك قد قام بعمل أصبح السمة العامة التي لازمت الإنسان في العالم كله. وهو أمر جديد تماما في مجرى تطوره. وكذلك عندما قام الإنسان لأول مرة برسم خط حول ظلّه على الرمال، فإنه بهذا العمل قد رسم أول صورة، ومن ثمّ بدأ نشاطا متفرّدا اختص به دون سائر الكائنات. فمن البديهي، أن اي حيوان غير قادر على فعل هذا، بصرف النظر عن درجته في سلم التطوّر، حاضرا أو مستقبلا المصدر نفسه . والفن كما يرينا بروست والصائغ هو الذي يبحث عن أرواح الأشياء ويكتشفها بل يمسك بها ويعرض استجاباتها بحصرها ورهاوتها أمام اعين نفوسنا.
إن اي ألف حيوان أو مليون إنسان جائع يأكل الكعكة أو البطيخة بالطريقة نفسها، إلا الفنان فهو ياكل كعكته وبطيخته بطريقة مخالفة تماما. إنه يؤنسنها و يحييها ، ويتعامل مع روحها الكامن خلف عجينة الكعكة أو قشرة البطيخة. روح عصية على التحديد ومستحيلة التصوّر لدينا نحن البشر العاديين الفانين.
ولو رجعت إلى الكيفية التي كشف فيها بروست معاني كعكته والصائغ دلالات بطيخته لوجدت أنها تعود أصلا إلى العودة الراشدة إلى تأمل واقعة حصلت في الصغر. وفي التأمل يكمن مفتاح الثقافة . فالفارق بين الثقافة وهي امتياز الإنسان في انبثاقة مكنون جانبه الإلهي، والحضارة التي هي قشرته المادية وامتياز الجانب الحيواني فيه، هو الفارق بين التأمل والتعلّم. والفرق بين العقل والتأمل عند أرسطو هو الفرق بين الإنساني والإلهي. إن دعوة الإنسان للتأمل في هذا العالم المحكوم بنقمة الإنطباعات السريعة هي من نعم الفن الكبرى علينا. فبالعقل يتحقق خراب حياتنا الشامل كما فعل بنا الآن حيث بتنا نخشى العلم ودمارنا المتحقق والمنتظر على يديه في حين نحن الذين خلقنا منجزاته الدموية من قنابل نووية وهيدروجينية واستنساخ وراثي وغيرها. أما بالتأمل فإن الفن يعيدنا إلى إنسانيتنا المفقودة والمهددة.. يعيدنا إلى الله. فشكرا لمارسيل بروست وليوسف الصائغ.
AZP09