نمورٌ وقطط
استوقفني، قبل أيام، تصريح أدلت به عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومسؤولة ملف الإعلام فيها الدكتورة حنان عشراوي، وفيه ثمَّنت الموقف الأوربي الأخير إزاء القدس وخاصة ما رصده تقرير أوربي رسمي من انتهاكات وخروقات إسرائيلية خطيرة علي مدي سنين طويلة، وطالبت الدكتورة حنان الدول الأوربية بتبني خطط ملموسة لمساءلة إسرائيل ومعالجة الخروقات والتصدي لها بوسائل عملية علي الأرض.
التقرير الأوربي يعد تقريرًا مهمًّا، لكنّه سيبقي مجرَّد كومةِ أوراق قد يلجأ إليها لاحقًا مفسرو الأحلام الخائبة أو خبراء التنبيش عن الكنوز الضائعة. فأوربا ستحمي قدسها هي ولن تحمي قدس الفلسطينيين وأوربا ستتصدي لخروقات إسرائيل بما سيكفل، ربما، عدم المساس بما حصّلته من امتيازات ابتزَّتها أوربا تلك من ذلك الرجل المريض في نهاية القرن التاسع عشر.
أوربا لن تقاتل إلا من أجل قبر ودرب آلام وبعض قيم تتذكرها لمامًا، قيم ورثتها من زمن غابر، يوم كان الاسم “روسو” مفخرة لفرنسا وقدوة في أوربا، وأوربا لن تتصدي إذا نام أصحابُ السور والقلعة. وهي لن ترفع المشاعل إذا استمرَّ زعماء وقادة و”مناضلون” فلسطينيون يلعنون الظلام ويأكلون الكعك وقد عزّ النوم والخبز والسلوي عند أبناء “القفص”.
لا لومَ علي قادة ما زالوا يتغنّون بقدس عرفوها قبل ما حملت علي دين رب لا يتكلّم العربيّة، ولا لوم علي قيادة تشتهي القدس بهيّة، كما كانت قبلما نفخت بها شهوة ذلك الربّ وحوّلتها مسخًا صقلته شفرات البولدوزر الإسرائيلي، فصار ككماشة وأقرب إلي كسارة بندق عملاقة تتلوّي ببراعة “أناكوندا” وتعصف بما كان حلمًا وصلاة أمّة، تبخّره، تهشّمه وتبلعه بلذة وبضراوةِ مَن خِبر أن البقاء للمثابر الحكيم الأقوي.
لا أعرف لماذا كلّما تُصرع سنونوة في باحة حوش مقدسيّ “أمشي إلي حلمي فتسبقني الخناجر، آه من حلمي ومن روما..”، أمشي إليك يا فيصل، يا حلمي ويا جرح القدس المفتوح، يوم كنت الوعدَ وكنت كذلك الخنجر. فأنت لم تنم وبقيت سيّد الأسوار تشرّع أبواب الشمس في القلعة.
ويوم حاول سلطان ذلك الزمن، بيبي نتياهو، غمزَ جانبِك، مستقويًا علي صرح حوّلته بيتًا للعزة والكرامة للشرق وجميع جهات الريح، هزمتَه، لأنك وقتها عرفت، كما كل الأحرار الكبار، أن لا طعم لحياة مع المذلة، فكنتَ الصدر والترس والرمح. بيبي وحاشيته يتوعّدون ويتعهدون أن البيت سيغلق، وأنت، بيقين قائد مؤمن، حوّلت الموقع إلي مزار وكأن في أكنافه جميع القديسين والصديقين يباركون. في الليل أصبح مأوي لكل من كانت القدس أغلي لديهم من عشيقة وأنفس من مهجة وبؤبؤ عين. عندها، تيّقنت أوربا أنّك الفيصل ابن هذا التراب، صادق كالنبع، حالم كطفل جائع، صلب كعاشق. وخبِرت كذلك أنّك تناضل من أجل بقاء وليس من أجل موقع و”بطاقة بَراك الدين”. ولأجل انعتاق من نير ظلمة وظلم محتلّ وقريب. شهدوا علي حبّك للصباح وحنانك علي حارات القدس وشوارعها، “هوسك” علي أهلها: فقرائها، بسطائها، نسائها، عمالها، مسيحييها وشبابها. اقتربوا منك فتكشّفتَ لهم قائدًا يعطي كما الشمس ويقاوم كأم تصد ضاريًا يهاجم صغارها، يقارع يراوغ يهادن ولا يساوم. قائد فرضَ علي “روما” الحياء، فجاءته وأعلنت: نحن معك، يا صاحبَ الحق والدار، في بيت الشرق سنبقي وما سيقع عليكم سنتقبله معًا.
فيا كلَّ من نسي أو يتناسي، هذا هو النهج وهذا هو الطريق فقبل عقد وأكثر، حكومات أوربيّة تأمر قناصلها أن تشارك وتتصدّي بأجسادها لمشاريع إسرائيلية في القدس، لكنّهم ما كانوا ليفعلوا لولا ما سجّلته دولهم وتيقنت منه، فأهل البيت في الساحات ينامون علي حد نصل، نخب وأصحاب مال وسياسيون يتمثلون بقدوة فيلتحقون مدركين أن الحرية والكرامة أثمن وأبقي من مال وسيجار وساعة روليكس. والأهم كان ويبقي ابن البلد، عاشق هوائها، لا يخشي غازهم المسيِّل للدموع وللشقاء. بيارقه تشمخ في الميادين، ففيها دائمًا هو الأول ودومًا في المقدمة يصارع مستعدًا لظلام زنزانة مستغبطًا جنات خلد.
فأين منّي اليوم تلك القدس؟ وأين من عينيَّ ذيّاك العاشق الفريد؟ وكيف لنا مطالبة أوربا “الفرنجة” بالتأهب ومساءلة إسرائيل وكل يوم تداس فيها كوفيّات وتئن حرائر وحاجب الأبواب غائب؟
لماذا نستصرخ أوربا “الغازية ومرتع الفواحش” وكل يوم تتمايل نجمة داود من علي شرفة، تبكي زمن النفاق وتصفيق العاجزين والصمت القاتل؟
وكيف لأوربا أن تتصدي لإسرائيل ولم تشهد، منذ غاب ابن القدس فيصل، حشدًا حقيقيًا واحدًا لسواعد تطال الغيم تحلبه دموعاً ومطرًا؟
لن تتصدي أوربا لإسرائيل إلّا إذا عادت ديوك القدس تصيح كل صباح وتطرد ما ادلهمَّ من ليلٍ وشظايا تاريخ وليد ليالي الخوف وسفاح العبيد. ولن تكون هنالك حاجة للاستصراخ، إذا عادت نمور القدس تزمجر لا تموء.
فكيف لأوربا أن تتصدي لإسرائيل والقدس تبكي فوارسها الذين تركوها صيدًا مريئًا ورحلوا إلي حيث الراحة والسلام خلف الضباب واستقرّوا في عدسة كاميرا أو تصريح عنيف سخيف، أو حلّقوا علي كتف صلاة وأدعية الولائم.
القدس تنتظركم، أن تستتيبوا وتصحوا لأنها، قبل أوربا، هي بحاجة لأبنائها ولأهلها وبحاجة لحراس أمينين لمعابدها وحجّاب أشدّاء لا يُقهرون وإن قضوا فعلي أبوابها.
القدس دُجِّنت فمن يشفيها من خدر؟ القدس أدمنت فكيف يكون فطامها؟، القدس رُوِّضت وصار القفص مدينة والنمور أصبحت مواطنين. فهل من سيّاط وقفص؟.
[email protected]
جواد بولس
/2/2012 Issue 4119 – Date 11- Azzaman International Newspape
جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4119 – التاريخ 11/2/2012
AZPPPL