نقد الشعر لدى إبن المعتز

تفسير الطلامس والأحاجي

نقد الشعر لدى إبن المعتز

مهدي شاكر العبيدي

   صبراً على الذل والصغار           يا خالق الليل والنهار

   كـم حمارٍ علــــى جوادٍ             ومــن جواد بلا حمار

   وهكذا هي الدنيا ، تعج منذ أزل الآزال بما لا يفلح في تصويره أو الإفضاء به والتعبير عنه ، أبرع الكتاب المتفننين ، من اضطراب المقاييس وضيعة الحق وغلبة الإجحاف والهضيمة النازلة بالناس ، فيستسلمون لها ويذعنون في غاية من الاِحباط واليأس والشعور بالانخذال ،

والبيتان المتضمنان معاني جيدة تروق الأنفس وتخلب الألباب وتنفذ إلى شغاف القلب بلا استئذان بحسب ما وصف أحوال المتلقي المشغوف بها ومتذوقها المفتون غير ناقد من القدامى والمحدثين ليسترسل منها في أدائه وبوحه بما يصطرع في نفسه من اللواعج والشجون ، أو يراود مخيلته وذهنه من الخطرات والأفكار، وكذلك المتوسل لصوغها بألفاظ تتسم بالعذوبة والسهولة وإمكان نطقها بلا مشقة على اللسان ، وذلك لخلوها من النبو والتقعير ، وتجردها من الاِعضال والتعسير ، بغية الايفاء على ما تتوق له الشعرية العربية وترغب فيه من أعصار متطاولة ، وتتمنى لو تشرف عليه من هذه السهولة الممتنعة في الصوغ الأدبي والبيان الشعري ، مما اقترب منه بل أدركه شاعر عباسي مغمور وغير مشهور وحتى انه حي مجهول الاسم ، واحتفظ له المستقرون والمدونون بكنيته فقط آلا وهي ابن الينبغي ، قرأت ذلك مؤخراً بكتاب الدكتور فائز طه عمر والمعنون : نقد الشعر لدى ابن المعتز، وعلى كثرة ما ألممت به من قبل من أخبار تحيط بسيرة هذا الأمير أو الخليفة العباسي ليوم واحد فقط وبليله ونهاره ، ليقتل على يد الأزلام النصراء لسلفه الخليفة المقتدر بالله والمعزول لتوه من سلطانه ، ثم يعاد إليه ، ولك أن تعجب ، كيف تسمى صاحب النفوذ بالمقتدر وهو عرضة لسلبه وانتزاعه منه كل آن وبمجرد أن يعترك أرقاؤهم من الأتراك بينهم وهو عاجز عن أن يضع حداً لتدخلهم في جميع الشؤون ، ويقسرهم على تهيبه والوقوف منه على مسافة ؟ وذلك من خلال تفرسي بمؤلفات معنية بتواريخ عصور الأدب العربي ، وأخرى مكرسة للتفصيل في حركة النقد للنصوص الأدبية شعراً ونثراً بعد أن شهدت مزيداً من النضج والازدهار والتألق بنتيجة انفتاح الأدبية العربية وتأثرها بثقافات العالم واتصالها بالحضارة التي بلغتها البشرية وإن لم تتعد طور البداية ، أمثال ما فرغ منه وتولى عنه طه أحمد ابراهيم ، ومحمد مندور ، وعائشة عبد الرحمن وشوقي ضيف وغيرهم من المؤلفين والمصنفين ، فاِني لم أجتلِ في هذه الأسفار جميعاً ، أو استبن تعريفاً ولو موجزاً في أي واحد منها ، بخصوص هذا الشاعر ابن الينبغي ، والمسلم قياده لسجيته والذي لا يعهد من نفسه تحذلقاً وتنطقاً في تعامله هو والمفردات اللغوية التي ينهد لاستخدامها في التأدية الشعرية والتعبير عن برمه وتذمره واستيائه من شيوع المفارقات في الحياة. وعهدي بالدكتور فايز طه عمر يرجع إلى سني تسعينيات القرن الفائت ، ولدى مباشرته الكتابة والنشر بجريدة العراق المحتجبة ، وإشهار مقالاته الرصينة لقرائها في موضوعات متنوعة تمس شؤون الحياة وأغراضها يوم كان يجوز مرحلة تحصيله العلمي الفائق أو قبلها والمؤهلة له للانتظام في رعيل الأكاديميين ، فتلمست فيها أولاً فكراً ثاقباً وحصيلة من المعرفة والثقافة والالمام الوافي المناسب لعناصر الموضوع الذي يعنى بشرحه وتبسيطه إن كان محوجاً لإزالة ما قد يشوبه من غموض ، ولفت نظري له ثانياً فرط عنايته بالأسلوب المتوسل به لتأدية ما يهجس وجدانه به منن معانٍ وآراء شتى أيلة بالمقالة المكتملة لأن تستوفي شروطها وعناصرها ، وأهمها هذا الصدق الخالص والموحي بجدية الكاتب وأنه ما انتوى الكتابة إلا عن رغبة حقيقية تجانب التعمل والحمل على النفس بما يشق من التكلف وقسرها على ما تمقته وتَنفر منه ، لذا ألفيتها مستجمعة عموماً في نمطها وصورتها للبيان الآسر واللغة الصافية من شوائب السفسافية والعجمة ، فهي دالة من هذا الوجه على استزادة مما تشتمل عليه مأثورات الثقافة العربية في قديمها العافي من علوم وآداب وفلسفات ، قد يفيد منها الكاتب الأديب الذي يعيش في الحاضر ويستند إليه في تحبيره ما يدور في باله ويخامر تفكيره من خطرات ، أو يعن لوجدانه من أنظار وانطباعات عن مشكلات الحياة المستعصية وهمومها الصعبة الاحتمال ، حتى لا يتوهمه الآخرون من حوله انه مفتقر إلى المادة ، والمادة الثقافية ما نعني بأوجز عبارة ، والتي إن عدمها فسوف لا يسلم من أن يعدو عليه متغرض ، أو غيران مشفق على النتاجات الأدبية أن تمنى بالتهافت، فيزريان بطريقته في الكتابة ، وأن الأخيرة تعدم المضمونات الهادفة والمعاني الباقية لأمد يطول ، ويعدوانها إلى وسم أدواته وألفاظه بالفهاهة وقاصرة عن الإحاطة بمعانيه ، وما شئت من دواعي التخرص والاِفتيات والتلفيق وموجباتها جمعاء . وحسبي أني اكتنهت يومها انه قارئ مأسور وشديد الكلف بأثار ابي حيان التوحيدي ، أو متأثر بدرجة وأخرى بما تولى عنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء كما ينعته الباحث المصري الراحل زكريا ابراهيم ، رحمه الله ، والذي درج على إحلال اللفظة محلها في سياق ما ينشئه ويقيمه من بيان ، موفياً بذلك على شأو الدقة ، ومتوخياً مناسبتها بقدر ما ، كان ذلك قبل أن يطالعني سفره في أدب التوحيدي قبل سنوات آخذاً موضعه في رفوف مكتبات الباب الشرقي ! . واليوم انتهى الي مطبوعه الجديد عن نقد الشعر لدى ابن المعتز، فاجتليت فيه رصانة أهل العلم وأرباب المعرفة وحصافة ذوي العقول الراجحة والمتزنين في تصرفاتهم ومسالكهم في زحام الحياة الأدبية والعلمية ، ولا يعنيهم أصلاً ويهمهم أن لا يستدل بمجهوداتهم أحد ، ويبخس متعسفاً ما دللوا به من سابقة في تذكير نابتة الجيل بما لسلفهم من إسهام في هدي البشرية واستحثاثها لانتهاج دروب الاستقامة والخير والحق ، ومجانبة سبل المراء والمخاتلة وتضليل أذهان بني النوع وتهيئتها للتسليم بالخرافات والشعوذات ، وذلك صرفاً لذويها عن الاستمساك بحقوقهم المشروعة ، ومنعاً لهم من أن يصدموا بما يوغل فيه الموسومون بهذه الخصائص من قبيح الفعال والتصرفات ، وذا هو بالضبط واكد الأستاذ فائز عمر وغيره من مشاكليه ومماثليه في اهتماماته من الاِنصراف الكلي لإحياء موروثات الذين غبروا وطوتهم صحائف التاريخ ، وكانوا رادة الوعي وطلاب الاستنارة ومبتغي تواصل الوعي بكنه الحضارة بين الأمم والشعوب ، غير آبه ومكترث هو ولداته بمن يحمِلون نفوسهم فوق وسعها تصيداً للرغائب والأوطار المعنوية ، وتتمثل في الاشتهار الفضفاض الذي سرعان ما يخفت صوتُ دويه لأنه غير مستند إلى قدر من التأصيل الحقيقي وينماز بالخواء والمحول ، ولا يشفع لاستدامته تكشف عن تعالٍ واغترار والنظر للناس من فوق (الخشوم) والآناف . بينا يبقى كتاب نقد الشعر لدى ابن المعتز والمهدى إلى الشارقة المدينة الخليجية التي عمل حيناً في جامعتها ، وذلك عرفاناً وذكرى وشيئاً مضمراً في نفس المؤلف لا نفقهه ونحيط به علماً ، قلت يبقى ذلك السفر عنواناً على التمعن والصبر في تفلية محتويات كتب سبقه بها مؤلفون حول امتهان أبي العباس عبد الله بن المعتز صنعة النقد قبل أن يتوفى أو يُقتل سنة 296 هـ ، في احتراب بصدد ما نكبت به دولة بني العباس من اضطراب وتنازع بين مختلف الطامعين والتائقين للتسلط والعنجهية والتحكم بتمشية المصالح العامة ، وجلهم من العناصر المجنبة والمستأثرة بكل شيء في الدولة الآخذة تدريجياً بالتدهور والانحلال بفعل طغاوتهم وجهلهم بالإدارة وسوء تعاملهم مع الملأ ، وبلغوا من الطيش والرعونة حد الاستخفاف بمقام الخليفة وخالوه مجرد ألعوبة بأيديهم ينصبونه ويعزلونه متى شاءوا ، فاستشعر الناس حاجتهم إلى الأمن والاستقرار ، وسئموا حياتهم هذه المحفوفة بصنوف القلاقل والمفازع والأهوال ، بينا كان هذا الأمير بمعزل عن الناس ويمضي يومه في مراجعة كتبه ، والتنقيب في أخرى تواتت إليه عن الحقائق الثابتة واليقينية في أصول الموجودات على صعيد الحياة الإنسانية ، أو يزجي أوقاته منهكاً في إملاء استنباطاته وتخريجاته بشأن النقد الأدبي ، أي تفسير النصوص النثرية والشعرية وتحليلها هذا في معناه العام ، والا فالنثر رغم ما أصاب من انتعاش وازدهار ، ونضا عنه ما اعتوره في غير فترة من تكلف ينأى به عن المطبوعية والسلاسة ويجانبها بعيداً ، كان أبعد من أن تنصب عليه موضوعات النقد ، أو يتناوله النقاد الحديثو العهد بالظهور حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، وكذا رامه أولاء الرعناء البغاة بنبال كيدهم هو المنصرف لتذوق أطايب كذا رامه أولاء الرعناء البغاة بنبال كيدهم هو المنصرف لتذوق أطايب العيش واجتناء لذاذاته لأنه كان ممتلكاً للوفرة من مزيد المال الكافل له دواماً النعماء والرغادة ، فليس له إلا تأمل سحر الطبيعة تاركاً للناس من حوله دنياهم وضجتهم ، وما بنوا لنظامات العيش أو رسموا لها من خطط، علهم يصلون لما ينشدونه من سعادة وصفاء بال ، تقدمهم هو للظفر بها قبلهم ، أليس يحسد التجار والمرابون ومدخرو الكنوز والثروات من جامعي المال الحرام ،في كل عصر وزمن ، أديباً بائساً يعاني من الاعسار والاِقلال ، وينفرد هو من دونهم محبواً براحة الضمير والوجدان ، لتعففه عن الختل والمين والكذب والدهان والغش ، ويظلون هم رهناء هذه الخصائص والأطوار لمعاونتها إياهم على التدليس لمضاعفة عوائدهم وأرباحهم ؟ . لسنا بسبيل تقديم خلاصة لفصول هذا الكتاب الأثير الملم بمن حفظ لذوي السابقة فضلهم في ميدان النقد الأدبي وسيرورته في الثقافة العربية وصيّر من نفسه مثلاً يحتذى في ترسمه الموضوعية والحياد ، وحرصه على إعطاء كل ذي حق حقه ، وتوخيه المعدلة والنصفة في أحكامه ، رغم ما رمي به من العدول عن هذه الوجهة واتهم ببعض الانحياز لصالح البحتري آونة ، حين وازن بين شعره وشعر صنوه أبي تمام ، وكلاهما من قبيلة طي ، وأسمى كتابه الذي أعده عنهما الموازنة بين الطائيين ، واستكنه للأخير منهما أنه غواص وراء المعاني العقلية والفلسفية والحكمية بسبب يمت إلى تشبعه بثقافة عصره وعرفانه بحوادث التاريخ ، فأهتدى إلى الشعر المطبوع والمتكلف والحسن والجيد ، واستدل على السرقات الشعرية التي تنفي عن الشاعر المتورط فيها أي ميزة ومكنة من الإبداع والابتكار ، وتحكمُ له بأن شواهده ما داخلتها الصناعة ولا شابها الانتحال والتعمل ، ولزم الأول البحتري عمود الشعر وسار غرار سابقيه في جعل شعره مكتسياً شيئاً من الطلاوة ، ومفرغاً بقوالب فنية تجعله أهلاً للقبول وسوغ معانيه قبل أن تستنبط فنون التحسينات من الجناس والتورية والمطابقة ورد الصدور على الاعجاز في أبيات شعر العرب ، وذلك بشكل عفوي ندر أن يفطن له أحد في اي القرآن المجيد والأشعار القديمة ، فأقبل عليها في صياغته ونسجه بشكل مغالٍ في كلفه بها ، وأتعب جراءها قراء شعره في تفسير طلاسمه وأحاجيه ، ولعل هذا هو السر في لفت نظر الناس لطريقته المسرفة في استخدام هذه المحسنات والزخارف، قبل أن يعنى بمستجدات عصره وتصوير أخلاق الناس والتمثيل لسليقة الحكام وديدنهم في التعامل مع الآخرين إن في أخذهم بالعنف والتجبر والقسر بلا هوادة ولا رحمة ، أو في إيثار ما بوسعهم من الاسماح والمرونة وحتى غض الطرف عن تجاوزاتهم لكن بدون تضاعف واستسهال للتنازل عند كل مأثمة وجريرة ، بينا خمل شأن غيره وذهبوا جفاء لخلو شعرهم وتجرده من ذلك الطابع الذي يضمن بقاءه وخلوده ، أعنى استلهامه مضامينه من الصراع المجتمعي . ورغم اني ألفيت بعض التداخل في فصول الكتاب الثلاثة وتكرر الاستدلال والمعاودة على نفس الشواهد الشعرية ، ومنها شاهد ابن الينبغي ، فحسبه أن ساق لنا مجاني معرفية مستخرجة من عشرات المصادر والمراجع المدونة في نهاية الكتاب ، وهي بمثابة محصلة ثقافية ، خاصةً إذا تحرى القارئ مسمياتها وأحايين وفياتهم، واستطرد منها إلى نفرٍ لم يُكتب لنتاجه نصيبه من الذيوع ، ولم يؤثر عنه عدا أبيات قليلة صادرة عن تأثر وجداني مع موحٍ وملهم بمعانٍ مبتدعة كمثل ما تجلى ذلك في مرثية محمد بن مناذر لربيبه عبد المجيد الثقفي الذي سارت قصيدته في الدنيا كما وصفها ابن المعتز وحكمَ عليها انها فحلة وفصيحة جداً ، بينا نفى الدكتور علي جواد الطاهر أن يكون في صلب العربية مثل هذه اللفظة ، ذلك في أحد مؤلفاته وأظنه فوات المحققين ، على حين سبق اليها سليل الخلفاء .