نظرية الألوان على طاولة غوته

نظرية الألوان على طاولة غوته
اللون والعقل معضلتان في مختبر التشكيل
ساطع هاشم
هناك معضلتان اساسيتان في ظاهرة اللون لم يستطيع الفنان الحديث المصالحة بينهما، وغالبا ما تذهب الجهود إلى القبول باحداها والتضحية بالأخرى.
وهذه الحيرة في قبول الأولى ورفض الأخرى سمة واضحة عند غالبية الفنانين الذين يشكل اللون مشكلتهم الرئيسية في التعبير الفني الابداعي.
وهاتان المشكلتان هما
أولا الوجود الفيزيائي للألوان بالضوء، ومن ثم انعكاسها في الأشياء التي نراها عبر البصر.
ثانيا التأثير النفسي» السيكولوجي ومن ثم الاجتماعي للألوان معنى اللون وقيمته الرمزية في حياة البشر.
ولكل من هتين المعضلتين نظريات وأفكار متعددة. فمن جهة يتعامل العلم الحديث مع الضوء على انه ظاهرة فيزيائية قابلة للبحث والتشريح وشغله الشاغل في الضوء انعكاسه وتكسره وكيف تستقبله العين وما شابه، ومن جهة ثانية يتعامل علم النفس وعلم المجتمع والفلسفة مع التأثير النفسي والاجتماعي للألوان، ومن هذه المدارس أخذ الكثير من الفنانين المحدثين وجهات نظر أعادوا صياغتها فنيا عبر أعمالهم الفنية وتجاربهم الخاصة.
هاتان الظاهرتان كانتا مصدر قلق وصداع دائم للفنانين والعلماء على حد سواء.
ففي عام 1811 اصدر شاعر ألمانيا الشهير غوته كتابا بعنوان نظرية الألوان وفيه حاول دحض نظرية نيوتن في تحليل الضوء إلى ألوان توصل نيوتن إليها سنة 1666 ونشرها بالتفصيل سنة 1704ــ وقد قام غوتة باجراء العديد من التجارب التي تستند اساسا الى طرق الرسامين في التعامل مع الالوان واساليب استعمالها في بناء العمل الفني وتحليل ومزج الألوان وهي طريقة تختلف تماماً عن طريقة العلماء حيث يتعامل الرسام مع مواد كيميائية هي الأصباغ بينما علم الفيزياء يتعامل مع الضوء وتحليله إلى موجات أو ذبذبات . وقد تجاهل علماء القرن التاسع عشر أراء غوته واعتبروها منافية للعلم وأنها أفكار أدبية وفنية تربط بين الفلسفة وعلم الجمال، ومع ذلك ظل غوته مصرا على رأيه وأعاد طباعة كتابه هذا كل سنتين مرة إلى أن مات سنة 1832. لكن بعض شعراء وفلاسفة ألمانيا قد أخذ بأفكاره ومنهم هيغل وشلر مثلا لأنهم كانوا مثله في الموقف والإيمان من العلم ذلك الزمان، وكلما قارنت آراء هيغل باللون بما قاله غوته فاني أتعجب من هذا التشابه والتأثر.
ولع الألمان بالفلسفة
على حسب علمي فان كتاب غوته هذا لم يترجم إلى الآن إلى اللغة العربية وهذا هو السبب في أن الكثير من المثقفين العراقيين والعرب لم يتنبه اليه، فهو وثيقة أدبية جذابة مكتوب بلغة شاعرية، ورغم عدم صحتها علميا سواءا من وجهة نظر العلماء قبل مئتين سنة أو الآن، إلا إنها بدأت تلعب دورا مميزا في الثقافة الأوربية بعد خمسين سنة على وفاة غوته، بالتزامن مع ظهور علم النفس والسيكولوجي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وتأثيره في مدارس الفن الحديث لاحقا، حيث ساهم هذا العلم في تكوين أفكار ونظريات كبار منظري الفن في القرن العشرين، ومن اشهر من تأثر بنظرية غوته من خلال علم النفس الفنان الروسي كاندنسكي وبعض الفنانين في مدرسة الباوهاوس.
يبدو أن ولع الألمان بالفلسفة والألوان ومعانيها الذي ازدهر مع نشوء وتطور الرومانتيكية عندهم هو الذي قادهم لان يكونوا في طليعة البلدان المنتجة للاصباغ في العالم، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا تنتج حوالي ثمانون بالمئة من الأصباغ في العالم وهي اول دولة تستعمل وتنتج الأفلام الفوتوغرافية الملونة، وفي الفترة بين الحربين كان تلوين العمارات والمباني أمرا عاديا في ألمانيا، أما الفرنسيون فقد اتجهوا باللون نحو وظيفة تطبيقية أخرى أكثر عملية وعلمية باعتباره إدراك لما هو بصري، فقد ساهمت الأبحاث الهامة للعالم الكيميائي والنساج شفرول الذي تأثر جداً بنظرية نيوتن في دفع صناعة النسيج الفرنسية إلى مستويات عالية، وقد نشر شفرول أولى أبحاثه فيما اصبح مشهورا لاحقا باسم التزامن والتضاد في الألوان سنة 1839ــ، وقد أعاد إصداره بمجلد ضخم سنة 1862. وقد اصبح انجيل الرسامين الانطباعين في العمل الفني. وكان شفرول هذا يقدم محاضرات عامة عن الألوان في المؤسسات الثقافية وكان يزور الفنانين في مراسمهم، ومن اول من تأثر به وطبق أفكاره عمليا الرسام الرومانتيكي الشهير يوجين ديلاكروا الذي اعتبره بعض النقاد الفرنسين انذاك عالم وفنان.
أما عندنا فلا يبدو ان هذا التاريخ ممكنا لان محاولات وجهود الرسامين انصبت على الطابع التزيني للعمل الفني، وأفراغه من محتواه العلمي والاجتماعي والسيكولوجي خاصة بعد ظهور ما يسمى بجماعة البعد الواحد أو الفن يستلهم الحرف سنة 1970 ــ التي اسسها ونظر لها شاكر حسن ال سعيد، واستأثارها بالفن العراقي ووسائل الدعاية.
فكرة ذهنية مجردة
لقد انتشرت بين هؤلاء مقولة لاتستند الى اي اساس او دليل تاريخي حقيقي عن دور الفن والفنان بالمجتمع، وانما هي مجرد فكرة ذهنية تقول بأن الفنان شاهد على عالم سبق تكوينه وبأن وظيفة الفنان بالمجتمع لا تعدوا كونها التأمل فقط وبهذا المعنى فالفنان ليس باكثر من مشاهد سلبي كما لفلم في سينما، انسان سلبي تماما، ليس له اي دور فاعل في المجتمع، مما يعني ايضا نفي دور الفن عامة بالمجتمع في ايقاظ الفكر والضمير الانساني، والرغبة في معرفة العالم، وكونه وسيلة من وسائل الجنس البشري ساعدته ومنذ ان وجد على هذه الارض للبقاء واستمرار النوع، وايضا لتغيير حياته نحو الافضل.
ومن جهة اخرى فقد شوهوا التصوف نفسه، الذي وجد اصلا باعتباره ثورة روحية عميقة ضد فقهاء السلاطين وادواتهم الفكرية في استعباد الناس، فتم على سبيل المثال تشويه صورة الحلاج الذي سقط شهيدا بسبب نضاله ضد الاضطهاد والتعسف والمخازي التي كان يتعرض لها الفقراء والمعذبين، وتحول في تفسيراتهم الى مجرد حالم سلبي لايهمه سوى انتاج مقولات لغوية غريبة وملغزة. مثل هذا التضليل وغيره الكثير كان جزءا من اساليب الحرب الباردة في الخمسينات والستينات وماتلاها ليس في العراق فقط بل في كل مكان بالعالم.
والتصوف ممارسة دينية منتشرة في الاديان قاطبة، يصفها مؤرخي الاديان عادة بلغتنا الحديثة كونها ممارسة ذات ابعاد او اهداف انسانية نبيلة، حيث يشترك المتصوفون من عامة الاديان في تعاطفهم الروحي مع الانسان الضعيف والفقير والمعدم، لذلك فهم يكرهون التملك كما يكرهون السم، لان الحياة عندهم ليست الا محطة عبور لاتستحق كل هذا التكالب على جمع المال وتكديس الثروات والحروب، وقد كان ابرز عمالقة الفن العالمي في العصور الزراعية من النساك في المعابد والاديرة والجوامع، وتاريخهم الشخصي في الحياة عبارة عن سلسلة عميقة من المعاناة والالام وقد تجسد عمقهم الروحي وصدقهم مع انفسهم ومع فنهم ومع الناس في اعمالهم بشكل بارز يستطيع اي زائر الى المتاحف حتى ولو كان مبتدأ بالفن ان يلمسها ويحسها على الفور، لكن هراطقة التصوف بالفن عندنا، هؤلاء الصوفيون المزيفون، لاتجد في كل سلوكهم الشخصي او الجماعي اية علاقة حقيقية بهذا المبدأ الاساسي بالتصوف الحياة محطة فلم تحيلنا عقائدهم الا الى ما وراء الوراء، فهي ليست الا كذب وتزوير فاضح، وتطبيق سياسي رجعي عنصري لفكرة العودة الى التراث، ونبش ماضي ليس له وجود اصلا الا في مقولات وتخيلات لكتاب ومستشرقين وفقهاء ومؤرخين نعرف غاياتهم بالكامل، وغالبية من تاثر بهؤلاء متصوفة الفن»الحروفيون ليسوا الان اكثر من تجار صور ولوحات مزخرفة بردائة، باحثين عن الشهرة والمال، في تناغم مع موقف احزاب السطة العدواني والسلبي من الفنان ومن عموم الثقافة والفنون.
AZP09