نظرة متأنية على نتيجة الإنتخابات المصرية
سمير درويش
1- متابعة ما يكتب وما يذاع في الأيام الفائتة يكشف أن “الثوار”، أو من يمكن أن نطلق عليهم “القوى المدنية”، منقسمون إلى فريقين، أحدهما يؤيد السيسي لأنه سيقضي على “أنصار الدولة الدينية” بالقوة التي يملكها، والآخر يؤيد حمدين الذي سيقضي على انصار الدولتين المدنية والعسكرية بالقانون. والحقيقة أن الفريقين معًا لا وجود مؤثر لهما، وإنما يمكن رصد الساحة على النحو الآتي:
غالبية مستريحة لأنصار النظام (أي نظام)، هؤلاء الذين أيدوا الملوك، ثم محمد نجيب ثم عبد الناصر، ثم السادات، ثم مبارك، دون أن يشعروا أن ثمة تناقض فيما يفعلون، فهم أنصار الدولة المستقرة الهادئة أيًّا كان شكلها. هؤلاء انخرطوا في جماعات تؤيد ترشح جمال مبارك والمشير طنطاوي وعدلي منصور، وكل من يرون أنه يمكن أن يستمر بهدوء.
أقلية معتبرة لا يستهان بها لأنصار تيار الإسلام السياسي، وهم يعيشون تحت ضغط النظام (أي نظام)، يبيعون الوهم للناس استنادًا إلى فهم محرف للقرآن وأحكامه، ويتلقون الضربات الأمنية والمساعدات الخارجية على السواء، يهدفون إلى لعب دور المراقب الرئيسي للنظام بامتيازات معتبرة، وينتظرون لحظة التمكين ليتحولوا من مراقبين إلى جسد النظام نفسه في عملية إحلال وتبديل، وعندما جاءتهم فشلوا لأنهم لا يمتلكون مشروعًا.أنصار النظام كانوا في قمة سعادتهم في الفترة السابقة لأنهم عثروا على السيسي، نموذج الرجل الذي تستطيع القول إنه نظيف، لا يسرق، وثوري، ساند 30 يونيو، ووطني لا يفرط في الحدود ويرفض مشروعات التمدد الإسرائيلي والتفتيت الأمريكية، لهذا صوتوا له بكثافة، ولهذا أيضًا يتغاضون عن نواقصه قياسًا إلى مميزاته، ولا يريدون أن يسمعوا كلامًا مخالفًا.
***
2- بعض المنظمات والجمعيات المصرية والعربية والأجنبية التي راقبت الانتخابات تشير إلى خروقات مؤثرة أثرت سلبًا على النتيجة النهائية بشكل جلي وواضح لصالح المرشح عبد الفتاح السيسي، منها التدخلات الحكومية الواضحة، مثل اعتبار يوم الثلاثاء إجازة رسمية، وإغلاق المحال التجارية الكبرى في هذا اليوم، ثم مد عملية التصويت ليوم ثالث، والتهديد بتطبيق الغرامة على المقاطعين في سابقة لم تحدث بهذه الغشامة حتى في أشد أيام الفساد والقهر.
كما أشارت إلى خرق الصمت الانتخابي داخل وخارج لجان الاقتراع، والاعتداء على مندوبي حملة حمدين صباحي واعتقال بعضهم، إضافة إلى حملات اعتقال موسعة لناشطين ومنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وتسيير مركبات عامة وخاصة لحمل الناخبين غصبًا عنهم للإدلاء بأصواتهم، فضلاً عن التدخل الإعلامي لحث الناس على التصويت باعتبار أن هذا سيصب في صالح السيسي. لكن الأهم أنها أشارت إلى عمليات تسويد بطاقات بشكل مكثف وتصويت جماعي، وعدم الاعتناء بالحبر الفوسفوري، خاصة في اليوم الإضافي، وبالمجمل قدرت هذه الجمعيات نسبة التصويت الحقيقية بـ11 : 12 بالمئة.
وإذا صح ما قالته تلك المنظمات، وهو أقرب للمنطق، فإن الدولة كانت تنافس وتزور النتيجة ضد جماعة الإخوان المسلمين، بهدف خلق نسبة مشاركة أكبر من انتخابات 2012 التي فاز فيها مرشحها محمد مرسي، ونسبة نجاح مبهرة تساهم في تمكين الإمبراطور الجديد، وفي كل الحالات لم يكن السيد حمدين صباحي مستهدفًا، ولا حملته ومؤيدوه، فهو- وهم- خارج المنافسة أصلاً من قبل الإعلان عن بدء الانتخابات الرئاسية، ويكفي القول إن الدولة فتحت مقار الشهر العقاري يوم الإجازة الرسمية- الجمعة- ليتمكن من إكمال التوكيلات اللازمة للترشح، الأمر الذي لا يجعله قادرًا على الاعتراض على نتيجة الانتخابات أو الحديث عن التزوير!
***
3- القطاع الأهم من الناصريين- وعلى رأسهم الأستاذ محمد حسنين هيكل وعبد الله السناوي وعبد الحليم قنديل وإبراهيم عيسى- انحاز إلى المشير عبد الفتاح السيسي ضد حمدين صباحي، أحد رموز الحركة الناصرية عبر تاريخها في مفارقة ثقيلة، وقد حاولوا- لتبرير ذلك- أن يظهروا السيسي كما لو كان ناصريًّا، وهو أبعد ما يكون عنها، مستغلين عداء الإخوان لعبد الناصر وله، متناسين أن الإخوان أعداء كل ممثلي النظام السائد في مصر منذ الأربعينيات حتى الآن، هؤلاء الذين انضموا للحرس الحديدي، ثم تنظيم الضباط الأحرار، فالاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني، باعتبار الإخوان نظام الظل الذي ينتظر الفرصة للقفز على الحكم.
بعض هؤلاء الناصريين لا يخفون عداءهم للرئيس الراحل أنور السادات لأنه- حسبهم- محا كل إنجازات عبد الناصر بـ”أستيكة”، وانحاز للأغنياء والفاسدين على حساب الفقراء الذين انحازت لهم الناصرية، وذلك بإصدار قانون الانفتاح الاقتصادي، كما لا يغفرون له مبادرته للصلح مع إسرائيل، حتى نصر أكتوبر يقولون إنه كان نصرًا عسكريًّا وهزيمة سياسية.. إلخ، ومع ذلك لا يلتفتون- عمدًا- إلى إعجاب السيسي، بالكلام وبالفعل، بشخصية السادات، حتى تهيأ لكثيرين أنه إنما أقصى الإخوان لأن محمد مرسي دعا قتلة السادات في الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر ولم يدع عائلته، لا يلتفتون لأنهم لا يريدون تشويه الصورة التي رسموها للسيسي في أذهان الآخرين، وفي أذهانهم أيضًا.ويبدو أن ذلك يرجع أساسًا إلى أن الناصرية- في جوهرها- تؤمن بالديكتاتور العادل الذي ينصف الفقراء ويقيم العدل، بديلاً عن الديمقراطية بمعناها الحديث التي تضمن اعتدال ميزان العدالة من تلقائه، نتيجة وعي الجماهير وضغطهم لمناصرة هذا ضد ذاك. عدم الإيمان بقدرة الجماهير المصرية على الحفاظ على مكتسباتها وحقوقها يدفع الناصريين إلى هذا الديكتاتور العادل- السيسي- الذي ليس مهمًّا عندهم أن يكون ناصريًّا أو ساداتيًّا، وليس مهمًّا ظهوره العلني المتكرر مع رموز الفساد من رجال حسني مبارك!
***
4- بصرف النظر عن وسائل التزوير العينية الظاهرة التي يمكن للمنظمات المراقبة أن تلتقطها وتشير إليها، فالمصريون يعرفون أن ثمة تزويرًا ممنهجًا وانحيازًا فاضحًا للمشير عبد الفتاح السيسي قد جرى، باعتبار أن العملية الانتخابية ليست عملية تصويت فقط، بل تلك الحالة المجتمعية التي تسبقها منذ نشوء الحالة الانتخابية وحتى انتهائها، وبهذا المقياس يمكن القول ببساطة إن كل جهاز الدولة كان يعمل بوضوح لمصلحة السيسي، من أول رئيس الوزراء والوزراء والمحافظين، حتى صغار الموظفين في الشهر العقاري الذي صعَّبوا عملية استخراج التوكيلات لحمدين صباحي، فليس خافيًا أن محمد إبراهيم وزير الداخلية منحاز بشكل فاضح للسيسي، وهو المسؤول عن تأمين الانتخابات والتدخل لمنع الخروقات، كما أن بعض المحافظين وكله في الشهر العقاري وتسرب ذلك لوسائل الإعلام، إضافة إلى صور أخرى كثيرة.
لكن الغريب في الأمر أن قطاعًا كبيرًا من المصريين- بينهم مثقفين وإعلاميين- يعرفون ذلك وأكثر منه، ويطرمخون عليه ولا يعارضونه لأنه يتسق مع توجههم العام، ويصب في خانة مرشحهم، بصرف النظر عن سلامة الإجراءات وعدالة الانتخابات وحياد الدولة، وقبل كل ذلك وبعده الضمير العام الذي يستحل الخطأ دون أن يشعر بالذنب، وهذا دليل قاطع على أن مصر لم تعد دولة بعد بالمفهوم الاجتماعي الفلسفي لماهية الدولة، وأن كل التكوينات التي تنتظم داخلها- وبينها المثقفين والإعلاميين- ليسوا سوى أدعياء، يتحدثون كثيرًا عن النزاهة والحرية والديمقراطية، ويلعنون الفساد والفاسدين، وعندما يوضعون في اختبار حقيقي يدهسون على حقوق الناس وحرياتهم، ويصيرون أكثر فسادًا من أعتى المفسدين، باعتبار أن الفساد الأخلاقي والثقافي اشد وطأة من الفساد المالي.
لقد أشارت النتائج الأولية للانتخابات عن فوز المرشح عبد الفتاح السيسي بنسبة حول 95 بالمئة، وحصوله على نحو 25 مليون صوت، ومع ذلك ستظل غصة مستقرة في حلوق كثيرين من الكتلة الفاعلة في المجتمع المصري، أولئك الذين لن يقتنعوا بأنه رئيس شرعي وفعلي، والأهم أنهم لن يقتنعوا أن ثمة فارقًا بينه وبين حسني مبارك، أو بين رجاله وأحمد عز، والأهم أنه هو نفسه لن يتصرف- من واقع ما يعلمه عما حدث- باعتباره رئيسًا حقيقيًّا.
{ شاعر مصري
رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة