نظام عالمي متعدد الأقطاب – قتيبة آل غصيبة

مجموعة دول بريكس

نظام عالمي متعدد الأقطاب – قتيبة آل غصيبة

القسم الثاني:

استكمالا للمقال المنشور في صحيفة الزمان الغراء بعددها الصادر في 5 آب /أغسطس 2023 وتزامنا مع قرب انعقاد قمة مجموعة دول بريكس الخامس عشر “الذي يضم كل من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا” للفترة من 22- 24 من هذا الشهر ؛ في جمهورية جنوب أفريقيا ؛ إذ من المرجح ان يشكل هذا الاجتماع منعطفا كبيرا في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي؛ فقد تم التطرق في القسم الاول من المقال ؛ الى مراحل خطة الولايات المتحدة لجعل الدولار الوسيلة الاساسية للسيطرة على الاقتصاد العالمي ؛ بغية فرض هيمنتها على العالم …

واستكمالا للمقال :

فإن الارقام والاحصائيات تشير الى تفوق تحالف بريكس اقتصاديا لأول مرة ؛ بوصول مساهمتها في الناتج المحلي العالمي حسب القوة الشرائية الى 31.5 مقابل 30.7 على دول مجموعة السبع الصناعية ؛ الذي يضم ( الولايات المتحدة؛ وبريطانيا والمانيا وفرنسا وايطاليا واليابان وكندا ) ؛ بالاضافة الى تفوقها الديموغرافي ؛ إذ يعيش 40 من سكان الكرة الارضية في دولها الخمسة ؛ وهي تشكل نحو 26 من مساحة الكرة الارضية ؛ وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والإنماء الاوربية ؛ تفوق هذه المجموعة بنصف الناتج المحلي العالمي ؛ كما ان الناتج المحلي الاجمالي المتوقع لاعضاء دول بريكس الحاليين ؛ او الراغبين بالانضمام اليها سيبلغ بحدود 32.66 تريليون دولار .

تحول بنيوي

ووفقا لتوقعات الخبير الاقتصادي الدولي البريطاني “جيم أونيل ” ؛ فقد تهيمن اقتصادات هذه الدول مجتمعة على الاقتصاد العالمي بحلول 2050.

ان هذا التحول البنيوي الذي يشهده العالم يفرض على كل الدول اعادة النظر في موقعها وموضوعاتها وطريقة تعاملها مع عالم اختلفت ملامحه ؛ ونتيجة لهذا ؛ فقد ظهر الان الاهتمام المتزايد لدول العالم وفي مقدمتها الدول الاعضاء في اوبك بمجموعة بريكس ؛ إذ يبلغ انتاج الدول التي تريد الانضمام الى دول بريكس مع انتاج دول بريكس مجتمعاً بحدود 47.8 من الانتاج العالمي ؛ مما يعطي مؤشرا واضحاً ؛ على ان اي عقوبات امريكية في قطاع الطاقة ستكون غير فعالة؛ فقد تمكنت روسيا بفضل علاقاتها و عضويتها في بريكس من مواصلة تصدير النفط الى عدد من الدول؛ حيث ارتفعت صادرات النفط الروسي الى الهند 22 ضعفا في 2022.

وكخطوة رئيسية ؛ فإن مجموعة بريكس أنشأت “بنك التنمية الجديد”؛ كأحد أهم مؤسسات هذا التحالف ؛ والذي تأسس في 2014 باحتياطي يبلغ 200  مليار دولار ؛ واعضاؤه الحاليون ؛ يشمل ؛ (دول بريكس اضافة الى بنغلاديش والامارات العربية المتحدة ومصر والاورغواي ؛ بالاضافة الى حصول الموافقة على انضمام السعودية والارجنتين وزمبابوي ) ؛ إذ يعتبر هذا البنك تحدياً منافساً “للبنك الدولي” الذي يمثل أحد الواجهات الرئيسية لسياسة الهيمنة الامريكية ؛ وقد وصف الرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا” بنك التنمية هذا : ” ان لدى بنك التنمية الجديد امكانات تحويلية كبيرة لأنه يحرر البلدان من الاقتراض من المؤسسات المالية التقليدية (البنك الدولي)التي تنوي حكمنا “.

مع توسع بريكس وزيادة حصتها من الناتج المحلي الاجمالي العالمي يكون النظام العالمي قد دخل فعليا حقبة جديدة مع تنامي نفوذ مجموعة تملك السلع الاكثر طلبا في العالم واكبر قاعدة استهلاكية ايضا ؛ من هنا سعت دول مجموعة بريكس الى إطلاق عملة موحدة فيما بينها ؛ لكي تنهي اعتمادها على الدولار الأمريكي ؛ ولم تحسم دول بريكس بعد شكل العملة الجديدة لكن الترجيحات تشير الى انها ستعتمد على سلة من العملات هي (اليوان الصيني والروبل الروسي والروبية الهندية والراند الجنوب افريقي والريل البرازيلي) ؛ مما يحد من طابعها المركزي ويجعلها تعتمد احتياطا اكثر استقرارا من الدولار الامريكي الذي شهد انخفاضا 8 من حصته من الاحتياطات العالمية عام 2022 بالاضافة الى ان هذه العملة ستكون مدعومة بالمعادن الثمينة ؛ على رأسها الذهب وهو ما يعزز عامل الثقة فيها؛ وقد يكون ذلك وراء ارتفاع مشتريات الذهب في المركزية في العالم من الذهب ووصولها حاليا الى اعلى مسستوياتها في 2022  تحديدا في بورصة وول ستريت ؛ حيث زادت احتياطات الذهب في اسرع وتيرة خلال الفترة الأخيرة ، في البنوك المركزية لدول بريكس ؛ وقد تضم سلة السلع التي تعتمد عليها عملة بريكس أيضا ( النفط والغاز الطبيعي والفحم والنحاس والبوكسايت والليثيوم الذي يدخل في صناعة كل شئ تقريبا) ؛ فإذا نجحت مجموعة بريكس في التوصل الى هذه العملة ؛ فإن هذا سيكون المرة الاولى في اكثر من نصف قرن التي تظهر فيها عملة مدعومة بالذهب ؛ مما يجعلها الاعلى قيمة في العالم ؛ وتسدد ضربة للدولار الامريكي ؛ لتنهي تحكمه في الاقتصاد العالمي وسط تذمر متزايد من الاعتماد عليه.

ومن الجدير بالذكر ؛ فإن الانضمام الى تجمع بريكس لم يعد يجذب الدول النامية فقط ؛ بل اصبح يغري ايضا قوى غربية كبرى ؛ فقد عبر “الرئيس الفرنسي ماكرون” عن اهتمامه في حضور قمة بريكس المقبلة ؛ في جنوب افريقيا من منطلق ان : “الحوار شئ ايجابي دائما حتى لو لم يكن هناك اتفاق على كل شيء ” ؛ وهو ما يشكل نقطة مفصلية كونها النقطة الاولى التي يطلب فيها رئيس دولة غربية حضور قمة بريكس حتى وان قوبل طلبه بفيتو روسي ؛ ومن يتابع مواقف الرئيس الفرنسي مؤخرا لن يكون متفاجئا من سعيه للخروج من العباءة الامريكية ؛ وهو ما انعكس ايضا في مواقفه خلال زيارته الاخيرة الى الصين في  5 نيسان / ابريل 2023 عندما قال : “ان اوربا لا ينبغي لها ان تتصرف تابعاً للولايات المتحدة ؛ ولا ينبغي ان تورط نفسها في أزمات لا تخصها.” ويبدو واضحا ان ماكرون يدرك اهمية بناء علاقات افضل مع دول مجموعة بريكس ومناصريها وان المستقبل يكمن معها ؛ وذلك بسبب ما تشهده فرنسا وأوربا من حالة ركود ؛ والنمو الاقتصادي فيها يتقلص بأسرع وتيرة وفق توقعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ؛ ووفقا للارقام ؛ فقد سَجَّل نمو الناتج المحلي الاجمالي الفرنسي في الربع الاول من هذا العام 0.2 فقط أي قريبا من الصفر ؛ وسجلت اوربا نموا سلبيا في الناتج المحلي الاجمالي في ربعين متتالين لعام 2022 وهو ما يعرف بالركود ، ووفقا لتصريحات وزيرة خارجية جنوب افريقيا : “فإن الحضور الفرنسي الى قمة بريكس قد يشكل تطورا غير مسبوق في نموذج تحالف بريكس ؛ ويمكن ان يعزز عمل المجموعة”؛ ان كل هذا يؤكد للعالم ان هناك بدائل خارج النظام المالي الغربي أصبحت قائمة ؛ فقد ابرمت فرنسا صفقة مع الصين “بعملة اليوان” لشراء سفن وحاويات بقيمة تجاوزت ثلاثة مليارات دولار وهي اكبر صفقة من نوعها في التاريخ تمت باليوان ؛ وذلك بناءا على رغبة فرنسا على التسديد باليوان الصيني ؛ كما ان شركة ايرباص الفرنسية تنوي مضاعفة انتاجها في الصين رغم الضغط الامريكي على الدول الاوربية لمغادرة الصين.

تغير واضح

ان هذا التحول البنيوي الذي يشهده العالم يعكس تغيرا واضحا في مواقع القوى المالية ، ومن خلال مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ؛ او فرض سياسية خارجية معينة عليها ؛ سيجعل مجموعة بريكس خيارا جذابا للدول التي تعطي الاولوية للحياد والنمو الاقتصادي ، ومع توسع تحالف دول بريكس؛ لن يكون بالامكان النظر الى ان من ينظم اليها على انه خصم للغرب ؛ بل انه يرى الامور على اساس ان صاحب العرض الافضل على الطاولة سيكون هو الفائز .

وبالتأكيد ؛ فان تحالف البريكس ومشروع عملته المرتقبة إذا نجح؛ فإنه سيحطم جدران الهيمنة الامريكية على العالم بسلاح الدولار ؛ وسيكون إيذاناً ببداية إيجابية لعالم متعدد الاقطاب …والايام دول .

مشاركة