ذاكرة الحضارات
نجوم براقة تتناثر في سدم الكون – ماهر نصرت
هناك صوب الشرق ، تنتصب جبال شاهقة ذات قمم مدببة تعانق السماء ، يخترق هدوء وديانها خرير مياه عذبـة تنحدر مسرعة من فوهات عيون أزلية تناثرت هنا وهناك ، غرست الطبيعة حولها باقات من زهورٍ رائعة ، تداعبها أجنحة فراشات تحلّق متموجـة في فضاء آتها المترامية بسعادةٍ لانظير لها ، وفي خطٍ متوازٍ من منخفضٍ بعيد ارتفعت بنسق أشجار النخيل تقف متراصة بطلعها النضيد تحاور بحفيفها الساحر طيورا” ملونـة تسر الناظرين ، بعضها يشدو مغردا” بلحنٍ متقطعٍ حزين ، والبعض الآخر يبدو فرحا” يتغازل بصوتٍ رقيق نبرته فيها كبرياء … وعلى مسافةٍ قريبةٍ من وادٍ عميق ، تلتقي الجداول متحدة لتصنع نهرا” كبيرا” يخترق مدينتنا الأثرية ويمضي مرتحلا” بين غاباتٍ كثيفة تمتد بمحاذاتـه على أمتدادِ البصر …. بعض أسراب الإوز تحلّق عاليا” ، تتراصف بنسقٍ منظمٍ يتقدمها قائد السرب ، تراه بين الفينةِ والأخرى يتفحص تشكيله بنظرةٍِ ثاقبة ليتمسك الجميع بنظامٍ صارمٍ عند الطيران ، فتعود الطيور مطيعة ، منضبطة ، صافات أجنحتها بسعادةٍ وغرور تطارد أحلامها نحو الغرب …. تجمعت خلف مدينتنا الأثرية في منطقة تسمى بــ ( وادي الجن ) مياه متسربة لتكوّن بحيرة صغيرة ذات منفذ واحد ، تحتل تلك البحيرة كائنات مخيفة ، بعض الضفادع تتحول في لحظات الخسوف أو عندما يصبح القمر محاقا” إلى نوعٍ من أنواع العقارب السوداء البشعة ! وأسماك تبدو بأشكالٍ مرعبة تحمل رؤوس خفافيش مشعرة ترهب الصيادين ، وكائنات برمائية لانعرف سلالاتها تتحول فجأة الى أفاعي طائرة تهاجم الناس بضراوة ، بعضها يتـقرفص بحركةٍ عجيبة ليظهر على شكل سلاحف متوحشة تفزع القلوب ! بعد ثلاثة أيام من رعشات زلزال خفيف ضرب شمال المدينة أخذت مياه تلك البحيرة تتسرب في شقوقٍ أرضية ظهرت فجأة ، أستطلعنا الأمر نحن ثلة من شباب مدينتنا ، ورحنا نغوص مع تلك الشقوق بفؤوسنا ومعاولنا بحذر شديد .. واصلنا لأيام عـدة توغلنا نحو المجهول وأذا بنا نعثر بين طبقات الوحل على آثارٍ وكتاباتٍ مسمارية تعود إلى عصورٍ بعيدة ، كنا لا نصدق مانرى ، فنحن نقف فوق أطلال حضارة خالدة برق منها شعاع العظمة والدهاء وتفاخرت الدنيا بعلمائها وشجعانها وروعة فنونها ..وصلنا بعد اختراق شبكة أنفاق مخيفة إلى غرفة صغيرة تفوح منها رائحة التاريخ ، هناك على مصطبة متآكلة ( علها كانت تابوتا ) بقايا عظام نخرة ، وفوق رفٍ منزوٍ تقف ثلاث من التماثيل الذهبية تحكي بانحنائها قصة الاضطهاد والعبودية ، وبين هذا وذاك صفت جنبا” الى جنب صناديق مكعبة أقفل بعضها بأسلاكٍ تداخلت رؤوسها بطريقة مشفرة تثير الأعجابِ
والتأمل ، تعاظمت جرأتي ، وأستطعت أن أفتح إحداها بضرباتِ فأسٍ عنيفة أوجعت ذراعي ، كان داخل الصندوق ألواح طينية نقشت عليها كتابات ورسوم سومرية ، لاشك أنها تحكي عن الإله ( مردوخ ) أو الإله ( أنونيت عشتار أكـد ) أو شيءٌ عن قراصنة القوافل ، أو لعلها كانت قصة الحب المشهورة التي أنتحر فيها الحبيب بعد أن اختطف أبن الملك المشعوذ حبيبته ….يحتوي الصندوق أيضا” على أختامٍ حجرية وقطع نقود معدنية رسمت عليها صورة لرجل وقور يبدو انه إمبراطور زمانه ….كان في قعر الصندوق قطعة ذهبية مستطيلة نقشت عليها زخرفة من رموزواشكال عجيبة دعاني تلهفي الجنوني الإسراع إلى ( بابان ) خبير الآثار ذلك العجوز النحس المعقد( صاحب الكرش المندلق ونبرة الصوت النكرة )
صداع الرأس
لكي يترجم لي تلك الرموز من مجلده الوحيد (الكتابة المسمارية ) الذي يسبب صداع الرأس المزمن لكل من يتطلع عليه ويكمل قراءته فهو كتاب يحتوي على رموز عجيبة فيها رؤوس حيوانات وإشكال مخيفة يقولون إنها رؤوس لعلماء الجن ! أتضح بعد أن ترجمتها لنا أن تلك القطعة ماهي الا أداة تسجيل خُزنت عليها مشاهد صورية حقيقية عن حضارة السومريين والاشوريين والفراعنة وأقوام رومانية نشأت قبل الميلاد وشيء”عن الصحون الطائرة مع شعوب تتخذ من أروقة الكون مواقع لها ، أهدتها مركبة فضائية جاءت من مجرة ( أندورا سيفال )1 الى ( أددوشا ) أحد عظماء مملكة أشنونا2 ( هذا ما كتب حرفيا” على خاتمة القطعة) .قفزت من مكاني مسرعاً أبحث عن طريقة علمية في ورشتي تعيد إظهار ما خزّن فوق تلك القطعة ، استعملت متحسسات رأس الفيديو لألتقط معلومات التسجيل الصورية ولكن دون جدوى ، استعنت بعد ذلك ببرنامج حاسوبي لأفك شفرات المعلومات البيانية ، وبعد جهدٍ كبير ومشقة وصبر نجحت في الوصول الى ما أسعي اليه، فقد صار بمقدوري التقاط ما خزن فوق تلك الاداة العجيبة ، كانت لحظات مروعـة انتقلت فيها عيناي وما تحويـه الى أعماق التأريخ ، وراح جسدي يرتجف وسط جو من الرعب عصف بأجواء غرفتي في جوف الليل ، وهبط عقلي مذعورا” هو الآخر، يشارك بصري معجزته وهو يشاهد من على شاشة التلفزيون مشاهد حقيقية لآلاف العمال وهم يحملون صخورا” كبيرة فوق عربات ورافعات يصل ارتفاع الواحدة منها الى ستة امتار يواصلون تحت لهيب الشمس بناء هرم كجبلٍ شاهق ، عشرات من النحاتين يقومون بتعديل أشكالٍ هندسية لصخورٍ كبيرة وهناك ثلاثة من الكهنة يرفعون فوق روؤسهم عين ذئب ربطوها على سارية من خشب ويصيحون بأصواتٍ مخيفة فترتفع في الهواءِ صخرة كبيرة وسط ضربات من برقٍ ورعد لتستقر على أحد أركان الهرم العظيم ، يرحل نظري نحو صحن طائر بحجم ساحة كرة القدم مليء بمصابيح وفسيفساء مدهشة يحوم فوق أحد الأهرامات ليلا”ويطلق حزاما” من أشعة ليزرية على فتحة في أعلى الهرم تمتد الى الأعماق ويختفي وراء السحاب بسرعة خاطفة عجيبة .رأيت ايضاً مجموعة من السفن الصغيرة وسط البحر يقودها ربابنة أشداء يطاردون حيوانٌ ثائر يشبه الى حدٍ ما اخطبوط البحر يضرب باحدى خراطيمه أحدى الزوارق فيحيله الى حطام ….يتحول المشهد فجأة صوب سهول وتلال ويظهر مئات من العمال منهمكين في بناء دعامات لتثبيت حدائق متناسقة فوق هضبة تتصاعد متدرجة ( أعتقد أنها جنائن بابل المعلقة ) يرفعون مياه السقي الى أعلى الروابي بطريقة عجيبة ( سأبينها لكم بعد أن أكمل بقية المشاهد )، أسوار قلاع شاهقة تحيط بهيكل زقورة ودعامات متينة ثبتت عليها أبراج خشبية محكمة يتنقل عليها مئات العمال وهم منهمكون في بناء أجزائها بتآلف كما في تآلف النحل في خلاياه .
مشاهد لأقوام أخرى غلاظ الأجساد ، منتفخي العضلات ، مشوهي الوجوه ، تشبه إشكالهم صور الإنسان البدائي المطبوعة في كتب التأريخ المدرسية ، يشقون طرقا”
لعرباتهم الخشبية بين مرتفعات صخرية ملتوية بعضها شديد الانحدار ، ( تذكرني تلك الوجوه عندما كنت مع طاقم الطائرة العجوز ( اليوشن الروسية ) ونحن نحلّق صوب الغرب بسرعة نصف ماخ 500 كلم / ساعة فحدث انفجار مفاجئ في مؤخرة الطائرة بسبب توغلنا المفرط داخل غيوم رعدية متلاطمة أدى الى انفصال وحدة الدفة الخلفية فقذفنا انفسنا من الطائرة وهبطنا بمظلاتنا فوق أدغال كثيفة لنجد أنفسنا وسط أقوام متوحشة من آكلي لحوم البشر ، فقدت في معركة معهم سبابتي والإبهام ، فاستيقظت صارخا” من كابوس غفوتي المرعب لأجد نفسي محاطا” برفاقي الطلبة في ( كافتيريا القسم الداخلي ) ههههههههه .
لنعود من فضلكم الى كاسيتنا ( ذاكرة الحضارة ) الصوري ،
تتحول المشاهد فجأة الى الفضاء .. نجوم براّقة لاحصر لها تتناثر في سدم الكون تشير الى عظمة الخالق ، نجوم متناثرة تحلّق في أروقة السماء حيث اللازمان واللامكان تدعم النظرية النسبية ( لأينشتاين ) ، أنشطارات ذرية هائلة ، نوات عاريات ‘ بروتونات مضطربة ‘ إلكترونات متنافرة ، موجات ، إشعاعات ، أيونات ، شهب متمردة وأخرى هاربة تتصادم جميعها وتتنافر وسط غبار كوني متلاطم يملأ الفراغ بين مجراتٍ لامعة تبهر الأبصار وتصفع وجوه الملحدين .
نجوم قيد التكوين ، وأخرى تلفظ أنفاسا” محتضرة …… تجانس مذهل بين الأجرام ومداراتها ، والجحافل المجرية حبيسة لمركز قوة عظيم ، شديد اليقظة ، محكم القبضة ، لاأجلٍ بدون قرار ، ولاخروجٍ عن مدار ، ( ولا الليل سابق النهار ، وكل في فلك يسبحون ) 3.
يقترب بي المنظر من كوكبٍ وهاّج تدور حوله المئات من اقمارٍ صناعية عجيبة تعمل بالطاقة النووية بدلا” من تلك الأرضية المحملة بأجنحة الخلايا الشمسية المتخلفة ، تدور حول الكوكب بمدارٍ أهلليجي محكم لازيغ فيه ، محطات فضائية ذات أشكالٍ معقدة تديرها كائنات فضية اللون ، أجسادها كبيرة ، رؤوسها صغيرة لكلٍ منها عين حمراء تتمركز في منتصف الرأس ، راحوا ينظرون نحوي من خلال شاشة العرض فأشرت لهم من خوفي وصحت( مرحبا” ) فلم يجيبني أحد .
يتحول نظري جاحظاً عجباً الى وسط الشاشة صوب كوكب عملاق يحتوي على فوهة ضبابية بحجم الأرض تتقاذف منها العشرات من مركبات فضائية براّقة تنطلق بسرعات مذهلة ، تدور حول الكوكب وتعرج بعيدا”عن مداراتها نحو ثقوب سوداء تبتلع الضوء والزمن .
ينقلني مشهد جديد الى معركة كبرى بين أقزام ذوو آذان طويلة يقودون صحون طائرة مهولة ظهر بعضها بحجم مدينة بأكملها ، تطلق أشعة ثاقبة صوب نجم ناري تتصاعد منه السنة لهب لمثات الاميال فيقذف هو الآخر اشعة بنفسجيه لاهبة لاتخطأ اهدافها واذا بالنجم ينشطر الى نصفففففففف ….
توقف العرض فجأة وغرقت الشاشة في ظلامٍ دامس ……… بعد ثوان ظهر صوت مخيف كأنه وحيف أعصار يقترب أعقبه صورة لكائنٍ مرعب لا أستطيع أن أصفه لارتجاف قلمي عند الوصف ، كان ينظر إليّ بعينين حمراوين جاحظتين تقذف شعاع الموت … أقشعر جسدي وأرتعد عقلي مذعورا” ، أحسست لحظتها بانجذابي الشديد نحو شيءٌ يقودني نحو الموت والفناء ، أحاول بملءِ طاقتي أن أصرخ واقفز بعيدا” عن سطوة هذا الكائن المخيف ، رأيت ستائر نوافذ غرفتي تُنتحي جانبا” ليدخل شبح أو شيء ما من النافذة .. أغمي علّي من ذلك الرعب ، أستيقظت بعدها مرتعشا” لأجد نفسي قد فقدت بصري وصورة ذلك الكائن الشيطاني مازالت تلاحقني في ظلماتي … أرجوكم أنقذوني ….
– أندورا سيفال ) تعرف اليوم تلك المجرة بـ ( قنطورس A ) العملاقة ذات الإشعاعات الراديوية
الغريبة والتي تقع في النصف الشمالي من القبة السماوية .
– أشنونا ) مملكة عاصرت الحضارة السومرية في العراق تمركزت في الشريط المحاذي لنهر ديالى شمال شرق بغداد عند ربعه الاخير .
– القرآن الكريم الاية 40 من سورة ( يس )