نجومية صانا مارين وعالمية الإنتخابات الفنلندية – امجد طليع

نجومية صانا مارين وعالمية الإنتخابات الفنلندية – امجد طليع

تقول الكاتبة الفنلندية ريكا اسكوانينن  “صانا مارين لا تحتاج الى الديمقراطي الاشتراكي بل الحزب يحتاج لها.. انها صنعت لنفسها حضورا اعلاميا خاصا بها، وتكاد تكون ظاهرة فنلندية عالمية غير مسبوقة. اصبحت اول نجم سياسي فنلندي معروف عالميا”.

وبناءً على ذلك صانا مارين رئيسة وزراء فنلندا الاستثنائية ستخوض اول انتخابات برلمانية لها مطلع نيسان المقبل وهي بهذا المنصب اضافة الى قيادتها للحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي فازت برئاسته في المؤتمر الاخير للحزب وعقد قبل سنتين في مدينة تامبيرا الفنلندية.

حد فاصل

متوقع ان يشهد الفنلنديون انتخابات غير مسبوقة في ظل وجود مارين التي تعد بمثابة فاصل بين جيلين من الساسة الفنلنديين اذ لطالما كانت الانتخابات التشريعية في فنلندا حدثا يمر كاي حدث اخر في رتم حياتهم النمطي البعيد عن الاثارة والاكشن، في ظل منافسة كلاسيكية تخوضها احزاب منقسمة بين الدفاع عن العمال والقضايا الاجتماعية متمثلة بجبهة احزاب اليسار واخرى تدافع عن الشركات ودفع بالاقتصاد صوب الراسمالية بمساحة اوسع متمثلة بجبهة احزاب اليمين فضلا عن احزاب بعقيدة بيئية او دينية فيما ينحسر اهتمام الحزب الفنلندي السويدي بتمثيله للاقلية السويدية في فنلندا اضافة الى ما يلتزم به من توجهات ليبرالية.

المنافسة هذا العام من المرجح ان تهرج الانتخابات الفنلندية من الاطار النمطي وتكسر حاجز الرتابة ولا استبعد ان تحظى باهتمام عالمي قد يكون الاول من نوعه لاسباب خارجية وداخلية مستمدة ذلك من بريق النجمة السياسية الصاعدة صانا مارين. الاسباب الخارجية تتصدرها مواقف مارين الحازمة والغير متوقعة من حرب روسيا على اوكرانيا ودعمها المستمر لاوكرانيا وكذلك تشجيعها الدعم الشعبي الفنلندي للاوكرانيين حتى احتلت فنلندا مراكز متقدمة بين الدول الاكثر دعما لاوكرانيا حيث وصل عدد دفعات المساعدات الفنلندية لاوكرانيا الى 13 دفعة حتى لحظة كتابة هذا المقال بينها كانت دبابات ليوباردو، وهذه مخاطرة كبيرة تقبل عليها فنلندا المرتبطة بتاريخ مرير مع روسيا وحدود  1340 كيلو متر.

كما شهد عصر مارين توجه فنلندا للحصول على عضوية حلف الناتو وهو تحول كبير في السياسة الفنلندية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حيث كان الحياد هو السمة المعلنة لهلسنكي رغم تقاربها مع اوروبا الغربية وانضمامها للاتحاد الاوربي الذي جاء في مرحلة انتقالية كانت تعيشها روسيا في بداية تسعينيات القرن الماضي، قد يقول المتابعون للشأن الفنلندي ان السياسة الخارجية في فنلندا من صلاحيات رئيس الجمهورية و وزير الخارجية حصرا، وهذا صحيح لكن صانا مارين تمكنت وبطرق ذكية ان يكون لها دور في ذلك باعتمادها على شعبيتها في الشارع الفنلندي ومقبوليتها الدولية حتى انها قالت في احدى خطاباتها في اجتماعات الاتحاد الاوربي بان (فنلندا تاخرت كثيرا بطلب الانضمام الى الناتو) وهذا الخطاب شكل ازعاجا واحراجا للرئيس الفنلندي ساولي نينيستو  كما شهد مؤتمر ميونخ سابقة بالنسبة لفنلندا عندما وجهت الدعوة لرئيس الجمهورية وبشكل استثنائي وجهت الدعوة ايضا لرئيسة الوزراء صانا مارين وهو امر غير معتاد ان يمثل البلد في مثل هذه المناسبات الرئيس ورئيس الوزراء بنفس الوقت ووفقا للصحافة الفنلندية فان سبب ذلك ان الاوروبيين حاليا وكذلك العديد من صناع السياسة الدولية ينظرون لرئيسة الوزراء صانا مارين باعتبارها شخصية مميزة ومثيرة للاهتمام خصوصا فيما يتعلق بالمواقف من الحرب الروسية على اوكرانيا ويتزامن ذلك مع طلب فنلندا الدخول للناتو في فترة حكومتها.. وتوصف صانا مارين بين المتابعين الاوربيين بانها واضحة وصارمة جدا بمسالة الحرب على اوكرانيا وكانت تدعو الاتحاد الاوروبي لاتخاذ المزيد من الخطوات والعقوبات تجاه روسيا. وعن هذا الامر يقول الصحفي الفنلندي لاوري نورمي (ان صانا مارين تحاول ان تشارك الرئيس في السياسة الامنية الخارجية لفنلندا وهذه المواقف موزعة بين الحكومة والرئيس، لكن هناك مساحة متروكة لمن يمتلك التاثير الاكثر.. لذلك تحاول صانا مارين اللعب في تلك المساحة.. لكنها مساحة خطرة وقد تقوض الامن الاستراتيجي الفنلندي).

ولان مارين كما يبدو لي تفضل اللعب بالاماكن الخطرة فانه الامر الذي منحها هذه الاهمية الدولية ورفع مناسيب شعبيتها داخليا.

ومن هذا الباب ندخل على الاسباب الداخلية وراء استثنائية الانتخابات الفنلندية هذا العام.

صانا مارين وقبل كل شيء تمثل وجه التيار السياسي الحديث المتمثل بجيل الشباب الذي اخذ يطوي مرحلة التيار السياسي الكلاسيكي، فجيل الشباب الذي تربى باحضان رفاه ونمو الاقتصادي يمثله تيار مثالي حدي لا يحب اللعب بالمناطق الرمادية ويريد لفنلندا ان لا تبقي الابواب مفتوحة لكسب ود الجميع على عكس الجيل الكلاسيكي الذي ورث سياقات من نشأوا بظروف معقدة شهدت الحرب الباردة ولمس خطورة موقع فنلندا الجغرافي الواقع على حدود المعسكرين الشرقي والغربي وهو جيل ينتمي لتيار واقعي يتعامل بالفطنة والدهاء للحفاظ على مصالح فنلندا واستقرارها فحول هلسكني الى عاصمة تصفير الازمات ولطالما كانت خيار المتنازعين الدوليين لانهاء الخلافات، كما اظهرت الازمة التي شهدتها فنلندا في السنوات الاربعة الماضية قدرة وحزم لدى هذه الشابة حين كانت اصغر رئيسة وزراء بالعالم مثل اداراتها لازمة كورونا ولم تجامل في خطتها لموجهة كورونا لا صديق او حليف فضلا مواجهتها لتداعيات الجائحة الاقتصادية وكانت اكثر صعوبة من مواجهة الجائحة نفسها رغم الانتقادات التي وجهت لها من قبل قوى المعارضة خصوصا بعد تاييدها لخطة الاتحاد الاوربي للانقاذ، اما على المستوى السياسي فان صانا مارين كسرت اعراف العمل الحزبي المعتمدة، فبالرغم من انها تنتمي الى الحزب الاجتماعي الاشتراكي احد ابرز احزاب اليسار التقليدي الا انها نهجت نهجا مغايرا في الكثير من الاحيان يكون اقرب الى نهج اليمين وفقا لنوع الملف او الازمة التي تتعامل معها، وهذا يجعلنا نتوقع تحالفا ما بعد الانتخابات ان يسقط السائد ويقفز على تقاليد التحالفات الفنلندية ونرى ائتلافا لم يسبق له ان حكم فنلندا وهنا لابد لنا ان نعرج على الخريطة السياسية الفنلندية.

في الانتخابات الفنلندية الماضية حدث ما يخل بالموازين ويغير اتجاهات التصويت بنسبة محدودة حين فاجئ حزب الفنلنديين الحقيقيين (يميني متطرف) المتابعين بحصوله على 39 مقعدا في انتخابات 2018 بفارق مقعد واحد عن حزب مارين (الديمقراطي الاشتراكي) متصدر النتائج  وحزب الفنلنديين الحقيقين متوقع بقاءه بالمنافسة في الانتخابات المقبلة على غير عادته بعد ان كان يفوز بمقاعد لاتتجاوز عدد اصابع اليدين لذا سيكون له وزنه في نيسان المقبل وخصوصا ان الحزب الان يحل بالمركز الثالث باستطلاعات الراي.

اما السائد فهو الصراع بين احزاب اليسار منها الديمقراطي الاشتراكي وتحالف اليسار وحزب الشعب وغيرها

وبين احزاب اليمين مثل المؤتمر الوطني وحزب الوسط وغيرهما.

وهناك من يترقب ان تاتي نتائج الانتخابات بائتلاف خليط يجمع اليمين باليسار الجامع الاساسي بينهم التطورات السياسية الاخيرة (الحرب في اوكرانيا وتداعياتها الجيوسياسية) اذا لا تجد فنلندا نفسها بمنئى عن هذه التداعيات بحجة الحذر من روسيا مع وجود انباء عن امكانية اتساع رقعة الحرب، فعندما سأل الصحفيون الرئيس نينيستو عن انضمام فنلندا للناتو بطريقة مفاجئة قد تثير غضب الروس اجاب نينيستو (الروس من دفعونا لذلك) وتحت هذا الشعار ممكن ان يحصل الكثير من المتغيرات الداخلية في فنلندا، خصوصا وان الديمقراطي الاشتراكي اليوم تحدد مساراته عقلية نسوية برغماتية شابة تعمل خارج المألوف، صحيفة هلسنكي صانومات الاكثر انتشارا في فنلندا وصفتها بمقال تحليلي عن شخصيتها قالت فيه “صانا مارين عنيدة ومشاكسة.. تستمع جيدا لكنها ليست صبورة بما يكفي.. حيث تنتفض وترد، تستخدم الكوميديا في بعض الاحيان للتعبير عن مواقفها. في الكثير من المواقف لا تبدو وكانها منسجمة مع ادبيات اليسار رغم انها رئيسة حزب يساري”.

منهج كلاسيكي

في الشارع الفنلندي ينقسم المصوتون الى رايين تجاه مارين الاول داعم للمنهج الكلاسيكي الفنلندي في ادارة الدولة والعلاقات الخارجية وغالبية هؤلاء من النخب والاكاديميين وكبار السن حيث يرون في مارين عدم النضج السياسي الذي قد يسبب توجهها وجموحها المشكلات الى فنلندا وهذا الراي مرشح ان يفقد الكثير من مؤيديه في يوم التصــــويت وبالتحديد النساء اذا لدى المراة الفنلندية تاريخ يعطيها الحق بان تعـــــــتد بنفسها بوصفها اول مراة اوروبية حصلت على حقها بالمساواة وهذا قد يدفعها للتصويت الى مارين التي شكلت واجهة عالمية للمراة الفنلندية سيما وان حكومتها كانت تقودها النساء الواتي سيطرن على اهم الوزارات، اما الراي الثاني وهو راي جمــــــهور داعم بقوة لصانا مارين ومتبنياتها الحديثة وغالبيتهم من الشباب المندفع متاثر بالغرب وحداثته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية .

على مستوى التقاطعات الحزبية لم تعد القواعد الايدلوجية هو الثابت في هذه التقاطعات في ظل مواجهة الازمات الاقتصادية والمخاطر الامنية برؤى على الاغلب متشابهة بين اليمين واليسار لتبقى التقاطعات محصورة بقضايا محددة يتقدمها موضوع الهجرة وكلاهما اليمين واليمين المتطرف يدعون الى هجرة منظمة الضابط فيها ان يحدد المهاجر بالقدرة على العمل فقط وهذا ما يعارضه اليسار الذي يريد ان يبقي الباب مفتوح للقضايا الانسانية وغيرها، ووفقا للتداعيات الاقتصادية التي تضرب دول اوروبا ومنها فنلندا فلا استبعد ان يتفق اليمين واليسار على منطقة وسطية تجاه فقرة الهجرة لانتاج تحالفات مصالحية وليست ايدلوجية يبقى حزب الفنلنديين الحـــــــقيقيين مستبعدا عنها بكل الاحوال بعد ان اعلن الحزب الديمقراطي الاشتـــــــراكي بقيادة صانا مارين عن قواعد عمله للمرحلة المقبلة اهمها عدم المشاركة في حكومة يشارك فيها الفنلنديون الحقيقيون (اليمين المتطرف) وهو الحزب الذي قد يواجه مواقف مشابهة من احزاب اخرى يسارية ويمينية تقليدية لتبقى المنافسة محصورة بين الحزب الاشتراكي الديمـقراطي بقيادة صانا مارين وحزب المؤتـــــــمر الوطني الذي ينحد منه الرئيس سولي نينيستو.

وبغض النظر عن فوز مارين وحزبها بالانتخابات فانها خطت لنفسها منهج خاص ابتدأ من ارتفاع شعبية حزبها بعد ان انتخبت رئيسة له كما انها تصدرت الاستفتاءات الشعبية الفنلندية كمرشحة لرئاسة الجمهورية لا سيما وان الانتخابات الرئاسية يتنافس فيها افراد وليست احزاب الامر الذي يبقيها في المشهد وبتاثير يختلف عمن سبقوها بتجارب مشابهة، اما على المستوى الدولي فان اليسار الاوربي وخصوصا الاعضاء في البرلمان الاوربي يجدون فيها شخصية عالمية مميزة جدا قادرة على تسلم رئاسة المفوضية الاوروبية في الدورة المقبلة.

وفي المحصلة فان زوجة لاعب كرة القدم في بلاد الهوكي بدت اكثر مهارة في اللعب بالاماكن الخطرة ورسمت لنفسها اسلوب سياسي خاص لم تعتده فنلندا فصنعت نجومية من نوع خاص وضعت بلادها تحت الاضواء وجذبت الاهتمام الدولي اكثر مما جذبه الشفق القطبي لفنلندا عندما تغطى سمائها بهذه الظاهرة الطبيعية الفريدة من نوعها لنبقى بانتظار الثاني من نيسان المقبل ونترقب قدرة صانا مارين على تسجيل الاهداف والظفر بتصويت الجماهير وحصد اكبر عدد من مقاعد البرلمان الفنلندي البالغة 200 وهي تقود حزب دائما ما يتقدم استطلاعات الراي بالداخل فيما تجذب هي المعجبين والداعمين في الخارج.

مشاركة