ناقد يتتبع ألفاظ الألوان ودلالاتها في الشعر العربي القديم
سلام الشماع
(ألفاظ الألوان ودلالاتها عند العرب – دراسة معجمية دلالية) كتاب جديد في موضوعه وضعه الناقد الأردني د. إبراهيم خليل الذي هو استاذ اللغة والأدب في الجامعة الأردنية منذ العام 1992 وأسهم في التدريس بجامعات أخرى منها الجامعة الهاشمية، وجامعة عمان الأهلية، وكلية عبري الجامعية في سلطنة عمان، وآداب جامعة الملك سعود لمدة سنتين.
صحيح أن بعض الدارسين اعتنوا بالألوان، وأسمائها، وصفاتها، ومن هؤلاء شفيق جبري الذي تناول لغة الألوان في الخطاب الشعري 1967 وعبد العزيز بن عبدالله الذي صنف معجماً لأسماء الألوان، وأحمد سعيد الدمرداش الذي كتب مقالة في التوافق الدلالي بين اللغة الشعرية والألوان، وعبدالكريم خليفة الذي نشر بحثاً حول الألوان اعتمد فيه اعتماداً كلياً على معاجم اللغة، فضلاً عن مصنفات عدة، من أبرزها “كتاب الخيل” لأبي عبيدة معمر بن المثنى (209هـ) وعنى فيه بألوان الخيل، ودرجاتها، وشياتها. ومن الملحق الذي أضافه إلى البحث يتضح أن جهوده انصبَّتْ على الألوان في حقل خاص لا يتجاوز الحقل المعجمي، وغيرهم كثير. لكن تلك الكتب والمقالات كلها، على جليل قدرها، وعظيم فائدتها، انتهجت في تناول الألوان طريقاً غير الذي انتهجه الدكتور إبراهيم خليل، في كتابه الذي صدر، قبل أيام، عن دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان، إذ سلك فيه سبيلاً جديداً، فقد عزم على تتبع ألفاظ اللون ودلالاتها في الشعر العربي القديم، الجاهلي منه والإسلامي، متعمّداً البحث في الدلالات المجازية والكنائية للألوان. فقد رأى المؤلف أن هذا الجانب لم يُعط حقّه من البحث، لا عند القدماء ولا لدى المحدثين.
اشارة مقتضبة
أشار الثعالبي في فقه اللغة إشارةً مقتضبة موجزة لاستعارة اللون من حيث هو اسمٌ، يدلّ على معنى معجمي بحكم الاصطلاح، إلى الدلالة على معنىً آخر، يُتصوّر من التركيب، أو السياق؛ كقولهم موت أحمر، وموت أسود، وعيش أخضر، وعدوّ أزرق.وهذه الكنايات، أو الاستعارات التي ذكرها الثعالبي لا تعادل نقطة في بحر. ولا تسْعِفنا معاجم اللغة في استقصاء هذه التعبيرات، لأن أكثرها لا يهتم إلا بإبراز المعنى الأصلي. ورأى المؤلف كذلك في الشعر الجاهلي خاصة ما يعوّض عن هذا، إذ وجد في المختارات، والدواوين، ما يشفي غليل الباحث، ويؤدي إلى نتائج دقيقة، وكسْب لغوي دلالي لا يجدُه القارئ في أي من الدراسات التي ذكرت.يقول المؤلف إن استخدام الألوان، وأسمائها، وصفاتها، لم يقتصر، في التعبير، على الشعراء، أو الكتاب، وإنما انتقل اللون إلى لغة الحديث اليومي. وغدت التعبيرات اللونية المتداولة في اللغات تتزايد يوماً بعد يوم، ودائرتها تتسع جيلاً بعد جيل. وأصبحت هذه التعبيرات من الشيوع، والتداول، بحيث لا تنافسُها أيُّ وسيلة من وسائل الاتصال اللغوي.
فأنْ يُقالَ في الإنجليزية: كذبة بيضاء white lie، فمعناه أنها لا تحدِثُ ضرراً. وأما أن يقال Black Market فذلك لا يعني إلا سوقاً لعقد الصفقات غير المشروعة، وقد انتقل هذا التعبير إلى العربية، فيقال سوق سوداء. ويقال فلان أسود القلب، أو قلبه أسود، دلالة على الحقد. والخبر الأسود باللهجة المصرية تعبير عن المفجع، أو المحزن، خلافاً للخبر الأبيض. وإذا قيل في الإنجليزية To see red فمعناه احمرت عيناه من الغضب، ويوم أزرق، أي خالٍ من السعادة: blue day وللشيء النادر يقولون قمر أزرق Blue moon وإذا تمتع الرجل المسن بالحيوية قيل لهGreen old age مثلما يقال بالعربية: ما تزال نفسه خضراء، أي أنه يستطيع أن يحبّ، ويتزوج مرة أخرى. وعكسه يقولون: Green hand أي أنه شخص مبتدئ، وغير ناضج، تعوزه المعرفة والخبرة، وهذا المعنى ليس كمعناه في العربية، فقولنا يده خضراء، أو يد خضراء، وخضرة، تعني أنها يدٌ يتعلق بها العطاءُ، والخير، وهذا لا يكون مع نقص الخبرة والعدة.
كتابات قائمة
ومن شاء أن يستقصي مثل هذه الكنايات القائمة على العدول بمدلول الكلمة، أو التراكيب التي يمثل اللون، أو صفته، جزءاً منها في العربية المعاصرة فسيجد الكثير جداً عرف العرب من الألوان الأساسية، التي أطلقوا عليها أسماء خاصة بها، من غير حاجة إلى الدّمج والمزج والتركيب، ستة ألوان هي: الأبيض، والأسود والأحمر والأزرق والأخضر والأصفر. لكن المؤلف يشير إلى مجموعة أخرى من الأسماء، إما أن تكون صفات لهذه الألوان الأساسية، أو مرادفات لها: كالجون الذي يرادف الأسود في سياق والأبيض في آخر. والورد الذي يرادف الأحمر. أو أنها تركيب من لونين فأكثر كالأكدر الذي هو مزيج من البياض والسواد، وكذلك الأغبر، والكمَيْت الذي هو مزيج من الأحمر والأسود، والأصحم الذي هو مزيج من السواد والصفرة.ومن بين الألوان الستة التي ذكرها المؤلف يظل (الأزرق) أكثرها غموضاً، مبيناً أن الزرقة أطلقت على أشياء متناقضة كالنصال، وأسنة الرماح التي يقال لها زرق تارة، وبيض تارة أخرى. وربما كان غموض دلالة الزرقة عندهم سبباً لإنكارها من بعض اللغويين، ومنهم النمري صاحب “الملمع” الذي استبعد اللون الأزرق واقتصر على ذكر خمسة والأخضر.
يشير الكتاب إلى أن العرب لم يعرفوا اللون البني وهو أحد الألوان الأساسية في اللغة الإنجليزية brown ولكنهم عرفوا أسماء أخرى منها: الأسمر والأدكن وهي من حيث الوصف تشبه ما يطلق عليه بالإنجليزية brown وكلمة (بنّي) المولدة هي نسبة إلى (البُنّ) ولم تعرف العربية أسماء أخرى للألوان مثل: البرتقالي، والقاعدة التي عرفوها في اشتقاق الألوان هي إضافة همزة في أول الصفة للدلالة على اللون، فإذا أرادوا المقاربة بين لون الشيء ولون الملح قالوا، أمْلَح وليس “ملحي” خلافاً للقاعدة الاتكاء على النسبة فيقال: فيروزي، وفستقي، ومشمشي، وغيره. احتوى الكتاب، بالإضافة إلى المقدمة التي وضعها المؤلف، بحثاً عن الألوان الأساسية: الأبيض، الأسود ، الأحمر، الأزرق، الأخضر، الأصفر، وبحثاً آخر عن ملحقات الألوان، ثم معجماً حسب الحروف للألوان مستنداً إلى شواهد شعرية لكل لون، وأتبع ذلك بكشاف مفهرس بأسماء الشعراء وآخر بأسماء الأعلام، وثالثاً بعناوين الكتب.
في مبحث (ملحقات الألوان)، يتطرق المؤلف ألوان أخرى، إلى جانب الألوان الأساسية، أطلقت عليها ألفاظٌ، وأسماءٌ، تميزها عن اللون الأساسي، كالأصهب الذي يقرب من الحمرة، والجوْن الذي ألحق بالأسود تارة، وبالبياض تارة أخرى. والأدكن وهو قريب من الأسود. والأعفر: الترابي، والأغبر الذي هو مزيج من السواد والبياض، والبلق، والأغر، وهما إلى البياض أقرب من غيرهما. والأكلف الذي هو مزيج من السواد والبياض، والأملح وهو الأبيض نسبة إلى لون الملح، والناصع وهي صفة للون الخالص الذي يقتصر على الأساسي، ولا تشوبه درجة من ألوان أخرى. والوردُ، وهو من مرادفات الأحمر، ومثله الأشقر. والأشهب، والأشمط، وهما إلى بياض، والأبقع، وهو اجتماع لونين في الشيء الواحد، كالسواد والبياض في الثور، أو الفرس، أو الغراب، على ندرة شديدة؛ والأوْرَق، وهو في مثل لون رماد الرّمث. ويتناول المؤلف كل لون بالتفصيل ويذكر ما قيل عنه في الشعر العربي.الكتاب، بالإضافة إلى جدة موضوعه، فإنه يرحل بالقارئ إلى عوالم اللغة والشعر والنقد، مقدماً له فائدة علمية ومتعة كبيرة في التعرف على ما يخص الألوان عند العرب.