مَن ينقذ معالم بغداد؟

مَن ينقذ معالم بغداد؟
نواف شاذل طاقة
أفادت المعلومات الواردة من المنطقة الخضراء في بغداد بصدور أمر رسمي من لجنة تابعة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يقضي بإزالة نصب النسور الواقع في إحدى الساحات المعروفة غربي بغداد باسم ساحة النسور. ويبدو أن اللجنة المذكورة المكلفة بازالة تراث حزب البعث العربي الاشتراكي قد اعتبرت أن هذا النصب، وخمسة نُصب وتماثيل أخرى لا تقل جمالا وروعة وإبداعا عن نصب النسور ، ترمز إلى عهد الكُفر الذي مثله لها تاريخ حزب البعث في العراق.
نصب ساحة النسور من صنع الفنان العراقي الراحل ميران السعدي وهو من مواليد سنة 1934، وكان قد تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد سنة 1955، وشارك في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث سنة 1953، ثم أكمل دراسته العليا في روما ليعود إلى العراق سنة 1962. عاصر السعدي جيل الرواد من أمثال محمد غني حكمت واسماعيل فتاح الترك، وتتلمذ على يد شيخ النحاتين العراقيين الفنان الكبير جواد سليم. كما شارك في الكثير من المعارض الفنية التي اقيمت في العراق وخارجه، وكان حاضرا بقوة في الحياة الثقافية التي شهدتها بغداد منذ مطلع الخمسينات حتى وفاته.
يعد السعدي من الفنانين العراقيين الذين زاوجوا بين المدرستين الرمزية والواقعية للفن التشكيلي، واكتنفت بعض أعماله الفنية أجواء من الغموض زادتها سحراً لتجسد طبيعة الحياة الثقافية الزاخرة التي سادت العراق منذ خمسينات القرن الماضي، فضلا عن تملكها لروح التمرد التي عرفها جيله. وتميزت أعمال ميران السعدي باستعارة الرموز التراثية العراقية القديمة ليقرنها بأحلام جيله وتطلعه نحو السمو والابداع. وقد تعززت الموهبة التي امتلكها السعدي والتي تجسدت في نصب النسور بدراسة أكاديمية في مهد الفن الأوربي في إيطاليا، وإطلاع واسع على أصول الفن العالمي، ليخرج بهذا النصب المصنوع من مادة الحديد والذي افتتح سنة 1969. ويعتبر هذا النصب من الاعمال الفنية التي تعكس تطورا في مدرسة النحت العراقية، فضلا عن حقيقة أن لا علاقة لهذا النصب بتاريخ حزب البعث وتجربته السياسية، أو الحرب التي خاضها العراق ضد إيران والتي غالبا ما يعكر ذكراها مزاج الجماعات الحاكمة الموالية لايران، بل يرمز إلى قوة وطموح الانسان العراقي وتطلعه الدائم نحو السمو.
وتجدر الإشارة إلى أن نُصبا وتماثيل أخرى عديدة كانت قد دمرت منذ احتلال العراق سنة 2003، فيما تنتظر نصب وتماثيل أخرى دورها في قوائم الاجتثاث التي وضعتها الحكومات التي تقودها أحزاب طائفية وفدت إلى العراق بعد احتلاله سنة 2003. ومن بين التماثيل والنصب التي تعرضت إلى التدمير، على سبيل المثال، تمثال أبي جعفر المنصور الذي تم تفجيره، وتمثال رئيس الوزراء العراقي عبد المحسن السعدون الذي سرق في وضح النهار، ونصب المسيرة للنحات الكبير خالد الرحال الذي يرمز إلى مسيرة الحضارة في العراق، ونصب اللقاء للفنان علاء بشير الذي يمثل كفين يمسكان ببعضهما البعض ويرمز إلى الوحدة الوطنية، ناهيك عن نُصب وتماثيل عدة رمزت إلى مراحل متعددة من تاريخ العراق المعاصر. وفي غضون ذلك، يحذر فنانون ونقاد عراقيين من أن العاصمة العراقية بغداد التي تعاني أساسا من نزيف ثقافي وفني مقبلة على مذبحة فنية ستستأصل فيها معظم الرموز الفنية والثقافية المتبقية التي تعكس فترات مضيئة من تاريخها وذلك بحجج واهية يستند العديد منها إلى تفسيرات متخلفة تتلبس بلباس الدين لكنها بعيدة كل البعد عنه. ويخشى البغداديون اليوم من أن مضي حكومة السيد نوري المالكي قدما في مخططها لمحو هوية المدينة وتفريغ بغداد من معالمها الثقافية قد يمتد إلى تدمير رموز أخرى وفي مقدمتها نصب الحرية القائم في حديقة الأمة في ساحة الباب الشرقي وسط بغداد للفنان جواد سليم ونصب الشهيد وغيرها من معالم المدينة. وعلى الرغم من اعتبار الحكومة العراقية بأن التماثيل كفر تستوجب التدمير، فقد رصدت الحكومة نفسها نصف مليار دولار لصنع تماثيل شمعية لرجال دين في إيران لا يُعرف حتى الآن قيمتها الفنية أو الثقافية أو الحضارية، في وقت لا زالت فيه ذكرى شعراء وأدباء ومثقفين وعلماء عراقيين تنتظر من يلتفت إليها وعلى رأسها شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري.
ومما يذكر بأن الغالبية العظمى من النُصب والتماثيل في العراق لم تُشيد إلا بعد ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958 حيث شهدت تلك الحقبة تطورا وازدهارا للحياة الفنية والثقافية ازدادت زخما مع مرور الزمن، وتمثلت بحركة فنية دؤوبة نشط خلالها الفنانون التشكيليون في انتاج العديد من النصب والتماثيل التي تناولت مراحل وحقب تاريخية متعددة من تاريخ العراق القديم والمعاصر، حتى توقفت هذه النهضة وانتكست مع احتلال بغداد سنة 2003.
ويعتقد الكثير من العراقيين أن الحملة التي شهدتها الأوساط المثقفة في العراق لوقف مخططات حكومة المالكي لتدمير الرموز العراقية ستواجه مصاعب جمة، حيث يرى الكثير منهم بأن الأحزاب المتسترة برداء الدين والتي جاءت بعد احتلال العراق وتربعت على خرابه لا تفقه بالثقافة والفن شيئا، بل تعتبر أن الفن ضرب من ضروب الكفر والالحاد. إلى ذلك، تروي أوساط مطلعة بأنه لدى زيارة رئيس الوزراء المالكي لأحدى العواصم الغربية المعروفة بتاريخها الفني العريق، خصص أحد الفنادق الراقية فيها جناحا مهيبا لاقامة رئيس الوزراء والوفد المرافق له. ويُعرف ان الكثير من الفنادق الراقية في أوروبا غالبا ما تستأجر، وتدفع مبالغ طائلة، للوحات وأعمال فنية كي تعرضها على جدران قاعاتها، ولتفتخر بها أمام زبائنها من عُلية القوم ممن تفترض بهم استذواقهم للفن. وتقول المصادر أن إدارة الفندق، إكراما منها لرئيس وزراء العراق، وضعت في الممر الذي يؤدي إلى الجناح الذي يسكن فيه السيد المالكي لوحةً فنية ثمينة يعود تاريخها إلى القرون الوسطى وتمثل جسد إمرأة نصف عارية. وتضيف المصادر أن السيد المالكي وحالما وقع نظره على تلك اللوحة طلب وفده من إدارة الفندق وضع قطعة قماش أو بطانية ، على حد وصف أحد الثُقاة، لتغطية تلك اللوحة أثناء فترة إقامته وهو الأمر الذي رفضته إدارة الفندق بل استهجنته. وينظر العراقيون اليوم بألم، وفي كثير من الأحيان بسخرية، إلى سجل الحكومات العراقية التي تعاقبت على المنطقة الخضراء، حتى أن النكات والقصص الساخرة تملأ مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت. ولا يستغرب أحدهم في واحد من تلك المواقع بقوله أن الحكومة العراقية الحالية ستصدر قرارا بإزالة نصب كهرمانة والأربعين حرامي بحجة أن الحرامية يرمزون إلى حكومة السيد المالكي.
ويرى المثقفون والفنانون العراقيون أن حكومة عراقية بهذا المستوى من انعدام الوعي الثقافي والحضاري اللازمين لتفهم عالم الابداع الفني والثقافي، لن تتراجع عن قرارها في إزالة نصب النسور بل ربما ستعتبره أمراً إلهيا كغيره من القرارات المُبكية التي اتخذتها من قبل.
وفي ضوء هذه القناعة التي باتت راسخة في اذهان العراقيين بات من الضروري على نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين ومنظمات المجتمع المدني والجهات المعنية بالفن والثقافة والتراث أن ترفع الأمر إلى منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة والتي تتخذ من باريس مقرا لها، وأن تطلب منها التدخل السريع لوقف هذا العمل التخريبي بحق تراث وتاريخ واحدة من أقدم الحضارات في العالم. كما يتطلب هذا الأمر أن تضطلع اليونسكو بجرد للأعمال الفنية الموجودة في العراق وإلزام الحكومة العراقية الحالية وأية حكومة عراقية مستقبلا باحترام تاريخ البلاد وعدم محاولة طمس آثاره وإلغاء هويته. علما أن منظمة اليونسكو كانت قد اضطلعت في مناسبات عديدة بمثل هكذا مهام وطالبت بالحفاظ على التراث العالمي في كل من أفغانستان ومالي، ومؤخرا في سوريا.
AZP07