ميريل ستريب**
علي حسين عبيد – كربلاء
بان شعاع شمس الصباح ضعيفا يتناثر فوق ارض المطار وعلى عدد من الطائرات، حملت جسدي بعد أن تثاءبت الى دورة المياه، تعوّدتُ في أسفاري أن أوزّع على جيوبي ماكنة حلاقة جاهزة وقنينة كلونيا صغيرة واقراص حبوب منع الاسهال وتخفيف الصداع وغيرها، قررت ان ارفع الشيب عن وجهي، نظِّف جسدك، تهدأ روحك القلقة» هكذا قلت لنفسي رأيت المرأة الاربعينية في طريقي، صبَّحتها بالخير فردَّتْ تحيتي بلا زعل، كنت قد تركتها بالليل وهربت، وقفتُ امام المرآه في التواليت، صوْبنتُ وجهي وبدأت أزيح الشيب، الماكنة تزيح الشيب وأنا ادندن بأغنية لفيروز…. بغداد والشعراء والصور …. ذهبُ الزمان وضوعه العطر… عطّرتُ ذقني بالكلونيا التي أحملها دائما في جيبي، صففتُ شعري بالمشط، شعرتني متألقا مرتاحا فرحا، صغرتُ عشرة أعوام، كنت رائقا وأنا أفكر بالاقلاع بعيدا عن الموت، خرجتُ من التواليت، رأيت المرأة الاربعينية كأنها تنتظر، كانت واقفة تنظر إليّ بترقب، خطوت نحوها بهدوء.
قالت لي
ــ كيف أمضيت ليلتك….
ــ ليلة سيئة….. كان ممكنا أن تكون أفضل، هل إمتعضتِ مني ليلة أمس؟…
ــ كلا ولماذا أمتعض منك….
قلت لها في نفسي
ــ لكنكِ أفسدت ليلة كان يمكن ان تكون افضل …
بان وجهها لي صباحيا مشعّا وذابلا في آن وبدت عيناها متألقتين برغم آثار الاحمرار الباقية فيهما وشعرت بقلبي يلبط في صدري بخفوت، ذكَّرتني هذه المرأة الاربعينية بممثلة حنون أحبها، أسمها ميريل ستريب عندما أراها كأنني أعثر على كنز من الحنان والعواطف الهائلة وها أنا أعثر على شيء مقارب في هذه المرأة الاربعينية الثكلى.
سألتني
ــ كيف تكون ليلتنا أفضل؟..
هكذا سمعتها تقول لم أكن متأكدا من كلامها…
قلت لها
ــ بقيتُ وحدي مستيقظا حتى الفجر لو أنت معي لاختلف الامر، السفر يحتاج الى رفقة دائمة وليل المسافرين غالبا ما يكون جميلا.
قالت
ــ لقد حلمت بإبني كان يستجير بي من سواطير وسكاكين القتلة التي مزقت جسمه الصغير……..
قلتُ مستكينا
ــ الاحلام السيئة لا تليق بالسفر….
قالت
ــ لكنه ابني …. أنا أحدثك عن إبني وأنت تحدثني عن الليل الجميل هكذا انتم الرجال لا تبحثون إلاّ عمّا ترغبون.
ها هي تضع في طريقنا مشكلة أخرى، لكنها على حق قطعا، هكذا فكرتُ مع نفسي، وهربتُ منها ثانيةً….. ودمدمت مع نفسي رادّا عليها اتهاماتها….
وهكذا أنتن النساء لا تبقى في رؤوسكن سوى المصائب والويلات ولا تُجدْنَ سوى خلق المشاكل ، أحسستُ بقلبي ينتفض ويستكين.
مرَّ من خلف ظهري مرهون بطة وأحست بكفه تمسح على ظهري، عرفته هو من مسح على ظهري، لم انظر اليه ولم أعقب على حركته هذه لا بكلام ولا حركة، شعرت بالاشمئزاز منه، ذهبت الى الكافتريا في الزاوية البعيدة، وجدت صديقي الشاعر يحتسي القهوة، طلبتُ شايا وقلت له ادفع الثمن لم تبق معي فلوس عراقية، تطلعتُ في شاشة التلفاز الى الانفجار المريع الذي حدث قبل قليل في سوق مكتظة بالناس، أكثر من مئة ضحية، تذكرت صديقي الذي احترق بانفجار تسبب بحريق قبل أشهر، وقفت فوق جثته المحترقة ورأيت لحمه المشوي عندما غسلوه قبل الدفن، شممت رائحة لحمه، رائحة الموت هبّتْ من التلفاز على المطار، لوازم الرزق والبيع متناثرة هنا وهناك في الشاشة الصغيرة، أشلاء متفرقة وبقع دماء هنا وهناك، طفلة تنوح صار جسدها الغض مزرعة للشظايا، دمعت عيناي، ميريل ستريب تنظرني بذهول وألم، أصوات قذائف هاون تتوالي على المطار من جديد، الساعة التاسعة صباحا، قلبي يرتعب خوفا من خبر سيء، جاءنا الخبر يقول في العاشرة سوف تطيرون، جدَّدوا لنا تأشيرة المغادرة بأختام جديدة وتواريخ جديدة في جوازاتنا، خضنا في عمليات التفتيش مرة أخرى كأننا دخلنا المطار الآن، قلت ومعي الشاعر و صبحي الصادق لمسئول كبير في المطار، نحن وفد اعلامي بتنا ليلتنا في المطار في وضع مزرٍ، ما هذه الفوضى يا استاذ، اعتذر الرجل بأدب وقال هذا هو حال شركتنا، عشرون عاما من التوقف عن الطيران يا أخي، حرب تقودنا الى أخرى ثم حرب العراقيين على أنفسهم، طائراتنا لهذا السبب قليلة ومواصفاتها متدنية، من يريد أن يحقن شرايين هذه الشركة بدماء جديدة هناك اطراف لا يروق لها هذا، لجنة النزاهة والاحزاب والميلشيات ووووووو عشرات الجهات تتنازع فيما بينها لا احد يتركك تعمل بخبرتك أو كما تراه صالحا للبلد والشركة، كيف يتطور البلد في ظروف كهذه.. فكرت مع نفسي ليس هذا وقت البحث عن مصلحة البلد، هل يعرف هذا المسؤول كيف أمضينا ليلتنا الماضية بلا أسرّة ولا أفرشة ولا أغطية ولا نوم مثل البشر،
قلت له بنفاد صبر
ــ استاذ أخبرنا فقط متى سنبدأ رحلتنا ؟؟
ــ في العاشرة ان شاء الله……..في العاشرة…..
ــ أنت متأكد في العاشرة…
ــ نعم متأكد وأشار الى ساحة المطار من خلف الزجاج تلك هي طائرتكم تنتظركم على المدرج.
نظرت الى ساعتي كانت تشير الى التاسعة والنصف..
دقائق وينطلق صوت نسائي في فضاء القاعة يطلب من الركاب المسافرين الى عمّان التهيؤ لانطلاق الرحلة..
هرعنا الى بوابة الدخول في الخرطوم الذي يوصلنا الى الطائرة واصطففنا وراء بعضنا فرحين، تدفق الدم في الوجوه، انشرحت الأنفس، جمال الرسام وجهه أكثرنا توردا وسطوعا، والشاعر رأيته يضحك لأول مرة منذ غادرنا مدينتا وصبحي الصادق يتضاحك مع مرهون وعموري يلعب فوق متن أبيه وزيد يتضاحك مع المرأة الأربعينية التي نسيت ابنها في فورة الفرح التي اجتاحتنا والمسافرون الآخرون يتضاحكون ويترقبون.
فحصوا تأشيرات المغادرة للمرة الأخيرة وبدأت أجسادنا تتدفق في الخرطوم الذي يشبه الدهليز الى جسد الطائرة، كان امامي عشرة اشخاص تقريبا في الطابور، خلفي جمال الرسام وامامي مباشرة زيد ورأيت شبيهة ميريل ستريب الى جانبه فرحانة، لم يبق امامي الآن وادخل الخرطوم سوى خمسة اشخاص فأخرجت الموبايل وطلبت زوجتي
ــ صباح الخير….
ــ صباح الخير بعد عمري…..
ــ سنصعد الطائرة الآن….
ــ مودَّع برعاية الله دير بالك على نفسك…..
ــ هل أنت زعلانة مني…..
ــ لا يعيش من يزعل منك دير بالك على نفسك وصحتك وعالج نفسك من حصوة الكلى لا تفكر بنا ابدا اهتم بنفسك أولا……
ــ عمّار أين….
ــ هو نائم ….
ــ لا تزعلي مني ابدا….
ــ أموت ولا أزعل منك …..
ــ ادعي لي بسلامة الوصول…….
ــ ستصل سالما ان شاء الله بعد عمري.
أغلقتُ الموبايل، شعرت انني كفَّرتُ عن ذنوبي التي اقترفتها بحق زوجتي، دخلت الطائرة الآن، خليط من المشاعر يحتدم في نفسي، تذكرت آية الكرسي التي غالبا ما أتلوها في الشدائد، بدأت أقرأ مع نفسي بهدوء وأبحث عن الكرسي المخصص لي … بسم الله الرحمن الرحيم… الله لا اله الاّ هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم. صدق الله العظيم .
سكنتْ نفسي قليلا، تذكرت الآيه التي تقول … ألا بذكر الله تطمئن القلوب … جلست في المقعد المخصص لي، كان الشاعر يجلس بجانبي وكنت قريبا من النافذة، وأنا أتفحص هذه الطائرة المتهالكة قياسا للطائرات الحديثة التي تعج بها مطارات العالم تذكرت الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب الذي كان يخشى السفر بالطائرات مدى حياته، ثم تذكرت الكلام الذي دار بين المسافرين عن طريقة الطيران اللولبي للطائرات التي تقلع من مطار بغداد، وسألت عن هذه الطريقة وأسبابها فقال أحدهم، عندما تقلع الطائرة تبقى تدور حول نفسها في دائرة محددة وترتفع رويدا بطريقة لولبية خوفا من الصواريخ المضادة للطائرات التي تطلق عليها..
ــ وهل سقطت طائرات مدنية سابقا ؟؟….
ــ طبعا ألم تسمع بسقوط طائرات من قبل أم لا تهمك الاخبار أصلا؟.
شعرت بألم طفيف في معدتي لكنه مفاجئ، هل ستتخلص طائرتنا من مديات الصواريخ، ثم من نحن حتى يستهدفون طائرتنا، لا وزير ولا مسئول كبير في الدولة ولا امريكي بيننا، كلهم يطيرون بطائرات خاصة ومحمية ومؤمَّنة، لكن هل فعلا انا أهوِّل الامور، أليس من حق رجل يتحصَّل على فرصته الأخيرة في الخمسين من عمره أن يخشى مثل هذه التوقعات، هل يقبل أحد في العالم أن تقوده آخر فرص حياته الى الموت؟ .
إمتلأت كراسي الطائرة الآن ولمحتُ جمال الرسام في الامام يشير لي بكفه ضاحكا وقلت هكذا هم الشباب لا يرهبون الطيران اللولبي ولا الصواريخ، ثم التفتُ عن يميني الى المرأة التي تشبه ميريل ستريب، كانت تنظر عبر النافذة عندما دَبَتْ الطائرة على المدرج وبدأ صوت التعليمات النسائي يتدفق علينا من مذياع الطائرة ومضيفة رشيقة أخرى تجسد لنا بحركات متواصلة كيفية تطبيق تعليمات السلامة، كيف نربط حزام الامان وكيف يهبط علينا كمام الاوكسجين وكيف نضعه عندما يتخلخل الضغط وكيف نغادر من باب الطوارئ عندما تسقط الطائرة ، لم أفهم شيئا من حركاتها لكنني سمعت من الصوت زمن رحلتنا ومسافتها، وأقلعت الطائرة وكنت انتظر طيرانها اللولبي وماذا سيحدث، وفعلا ما أن علت الطائرة قليلا حتى استدارت بنا بسرعة مخيفة وكأن الطيار يقدم للجمهور الأرضي ألعابا هوائية بطائرته الصغيرة التي تحمل أكثر من مئة وخمسين راكبا، فقد أصبح الجناح الايمن الذي أجلس قريبا منه متجها نحو الارض والجناح الايسر مشرئبا نحو السماء، وبدأت الطائرة تستدير وتعلو تستدير وتعلو حتى اختفت موجودات الأرض لتأخذ الطائرة بعد ذلك خطا مستقيما مع حدوث مطبات مخيفة تضاهي مطبات الشوارع الأرضية او أكثر، بعد دقائق بدأت المضيفات بتوزيع وجبة طعام على المسافرين لم أتناول منها سوى فنجان قهوة، انشغل الركاب بوجبة الغذاء، لمحت شبيهة ميريل ستريب تنظر إلي بزاوية عينها، تذكرت أحد الطيارين المتدربين حين قال لي ان الهبوط والاقلاع أحرج مرحلتين في الطيران الجوي، لم يبق امامنا سوى معضلة الهبوط، جاءنا صوت المضيفة عبر المذياع، سيداتي سادتي يرجى العودة الى مقاعدكم وشد الاحزمة، بدأنا الآن بالهبوط نحو مطار الملكة علياء، الهبوط مرحلة مرعبة فعلا، استدارت الطائرة بوضوح واهتزت بقوة، مطبات قوية أم ماذا، أسرعت الطائرة منحدرة بشدة، انحدار شديد وهبوط متواصل، بعد قليل سمع الركاب ضربة العجلات القوية فوق ارض المدرج، اهتزت الطائرة مرة أخرى لكننا كنا فوق الارض وجاءنا الصوت الناعم مهنئا الركاب بسلامة الوصول، لكن الكل أجمع على ان الهبوط كان سيئا، ها نحن نهبط من الطائرة بسلام وندخل بناية المطار الجديد.
/7/2012 Issue 4264 – Date 30 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4264 التاريخ 30»7»2012
AZP09