قصة قصيرة
مواسم للذكريات
الذكريات سجادة العمر و علينا ، من حين لأخر ، نفض غبار السنين عنها لتبقى حية و معافاة
حمد علي حسين
لم يكن طريقي يوما ما ، طريقا خاليا من حفرو عثرات بحجر. كانت قدماي تصطدم يأحجار قاسية صلبة فندمي قدمي ّ العارتين و قد أسقط في حفرة ذات نتوءات فتدمي جسدي الواهن. كم تمنيت ُ و أنا أجلس عند ضفة النهر، لو أسافر مع الأمواج التي تعانق الضفاف ، موجة تحتضن موجة من دون ونى ، تنداح عبرها آهات العاشقين التي يبثون بها خلجاتهم و وجع الشوق و الفراق و غُصص الحرمان .
كنت ُ رجلا ً مضروبا بسفود الحزن في قلبه وغلفت وجهي غلالة من ذلك الحزن ، كنت ُ ، على الرغم من ذلك ، مأخوذا ً ببريق النجوم المتلألئة في كبد السماء ، السماء التي تسيح عتمة وهدوء وسلاما ، أنها هدأة كثيرا ً ما أجدها تسري في أوصالي سكينة . أجلس وحيدا ُ تنداح في ذهني خيالات وتنغرس في روحي بفوات السنين ، سنين طوال تعبت ُ من عدها.
بعد لحظات داكنة تفترش عتمة الليل الدروب والطرقات وتهيل على الكون ظلاماً فسيحا ً بلونه الداكن بعد أن فقد رماديته المستمدة من بقايا النهار الذي تركته الشمس عند رحيلها غربا وهي تلملم بقايا أشعتها وهي ترحل إلى ما وراء الأفق البعيد . يتمهل الظلام وهويجوس بحذر خلال الطرقات الساكنة ، يهيأ لحلول الليل الشتوي الساقع ناشراً عتمته على الأرض المستلقية وجلة تحت الندى الذي تنثل رائحته عبر طيات تلك العتمة مصحوبا بنثار أنسام باردة تلسع الوجوه .
في الليل كل شيء يخلد إلى النوم إلا نجوم السماء تبقبى تأنس العاشقين الفاقدين للأحبة ، وتنتشر على مد البصر. في الليل الشتوي الشديد البرد ، أجد نفسي متدثرا ً بالذكريات التي تشيع في ّ الدفء اللذيذ ، الذي يدب في أوصالي موجة أثر موجة وتأنس روحي لها كما تأنس الوجوه لنثار أنسام ندية في يوم قائظ ، كثيراً ما يتساقط الندى قطرات مفعمة بسحر النجوم ونورها وعطرها عند ما يجن الليل ، أني عاشق لليل ، وما أكثر ما مر بي من زمن من غير أن يخبوفي روحي هذا العشق .
في تلك الليلة وجدت السماء تمطر نجوما ً متناثرة مرسلة بريقها عبر طيات الظلام المفعم بالندى وتركس في دخيلتي عشقا كبيرا ً ، وعندما يصبح القمر بدراً ، أتذكر وجه حبيبتي ، وجهها البدري الذي لم يفارق مخيلتي يوما ً فمذ خمسين عاما ً وهولا يزال ينتصب حيا ً بنضارته وسحره وإشراقته تنبعث هدأة وسلاما ً ، على الرغم من تعاقب السنين من غير أن أراها .
في صباح أحد الأيام الذي يحتفل جذلا بنسائم طرية مغعمة بعطر الأشجار الندية التي أستيقظت مبكرة كعادتها محملة ببقايا الليل وسكونه بعد أن أحتفتها ظلمة متكاثفة وأحالت الأشياء أشباحا . في ذلك الصباح ، ألتقيت بها محض صدفة كما رأيتها أول مرة صدفة منذ خمسين عاما صدفة .عرفتها ، أجل عرفتها ، فأن قلبي دليلي كما تقول ليلى مراد، لقد أشقاني البحث الخائب عنها طوال تلك السنين الخوالي. كنتُ محاصرا بذكرياتي ، عرفتها على الرغم مما رسمه الزمن من آثار على ملامحها، وعينيها وخديها وجنتها التي وجدتها لا تزال تحتفظ ببقايا نضارتها التي وجدتها في عناد من الزمن .
أندلقت ذكريات الزمن الجميل فوق رأسي التي ما أنفكت تحاصرني ، فلا غرابة ، لقد تركت فيّ ما لا خلاص لي منه حبها. أجل حبها .
أقتربتُ منها بلهفة وشوق كبيرين وقد أفترشتْ على شفتيّ إبتسامة سعد وفرح ، عانقتها نظراتي وهي تحتضن وجهها البدري شوقا ، كانت رؤيتها إنثال غيث تاقتْ له روحي طوال خمسين عاما وجاء الآن ليروي عطش تلك السنين. نظرتْ إليّ مليا من خلال عيونتها الطبية وثمة إبتسامة أشرقت بها أساريرها ثم وقفتْ أمامي مذهولة ومأخوذة برؤيتي بعد سنين طويلة. تقدمتُ منها وقد أستفاق كل ما فيّ من وجد وحنين . قلت لها :
-أهذه أنتِ بعد سنين يا حبة القلب ؟ يا وجع القلب ولظى السنين ؟ يا واحة الأمل الأخضر عطرا ؟
بلى ، انني هي .
قلتُ : منذ خمسين عاما وأنتِ حبيبتي وستبقين حبيبتي . كنتِ زادي في خلوتي الذي يأنسني في وحشة أيامي ، أنك أميرتي تتربعين على عرش ذكرياتي ، العرش الذي صنعته لك من حرير وريش نعام. كم أنتِ جميلة الآن كما كنتِ قبل خمسين عاما؟ يوم رأيتك صدفة وأنتِ تهبطين من حافلة نقل الركاب ، ملاكا رشيق الخطى ، فراشة جذلة ، كنت غيمة عطر ندية أنثلت فوق رأسي من سماء بعيدة ، أنتشت لها روحي ، سحرتني عيناكِ فصحتُ في داخلي : هذه غابة نخيل السياب بسوادها وأهدابها الطويلة المخضبة بالكحل ، آه من تلك الصدفة التي وضعها القدر في طريقي لتنغرس في ذاكرتي وشما رائعا ، ثم وجدتك في طريقي ثانية ، ذهلتُ يا سيدتي ، قلتُ لنفسي إنها هي صاحبة العينين ذات الأهداب المخضبة بالكحل .وجدتكِ دفقة ريح طيبة تدق قلبي مرة أخرى لتدخل بضفائرها من بوابة قلبي. منذ ذلك وأنا أسير نظراتكِ وهي تهاجمني بنوبات من ذبذبات غير مرئية وتسري في داخلي موجة صمت أجل موجة صمت لذيذ كصمت القصب في الهورالذي يصغي لصوت الريح وصوت عاشق يغني الأبوذية وطور الحزن . ابتسمتْ ثم همست ببعض كلمات مبهمة وقد شابت صوتها نبرة حزن شفيف. جلسنا وحيدين نستعيد عطايا الحياة في الأيام الخوالي التي أصبحت اليوم زادا لنا بعد أن تقدم العمر بنا مع أوجاع الجسد الذي أضناه الضى ومحاصرة الشيخوخة المبكرة التي شرعت تلقي غلالاتها علينا ثم قالت وكأنها تهمس :
– لقد سعدتُ يا سيدي بلقائك ، فأنت الآن عندي دفقة ندى تلامس شفاف قلبي بعد جدب سنين، ها أنك تنثل عليّ أنيسا بعد ما عز الأنيس ، في ما مضى كان طيفك أيضا أنيس خلوتي ، كم تمنيت من الله أن يكون وليد البكر صورة منك . كنتُ أتحرق شوقاً لرؤيتك وعندما أراك صدفة في الطريق، أتفاءل بذلك اليوم. أختزنتُ صورتك في ذاكرتي. كنتُ أقرأ ما تكتب وأسعد به وكثيراً ما أجدني بين سطور ما تكتب، أليس كذاك ؟ وجدتها إيماءات بليغة وسعيتُ كثيرا لتقصي أخبارك، مكان عملك وزواجك وأولادك ، حاولتُ أن أحتفظ في ذاكرتي بكل ما كان بيننا من لحظات صمت، كنتُ أجلس كناسك يتبتل في صومعة. عندما عرفتُ إنك شرعتَ تكتب وتنشر ما تكتب ، حرصت على أن أحصل على ما تكتب. غير أن الزمن الرديء ، كما تصفه في أحدى كتاباتك ، قد شغلني وأخذني في متاهات بعيدة وأتسعتْ مسافات ذلك الزمن ما بينتا ..
صمتت لحظة ثم قالت :
– أجد نفسي في أحيان كثيرة واحدة من الأمهات المتركات للوحدة وتقدم العمر ، لقد كبر أبنائي وبناتي وتفرقت بهم السبل ما بين مفقود لا أعرف مصيره وبين مهاجر قسرا في المنافي يطوف البلدان بحثا عن ملاذ وهويقتاد على أحزان غربته ، وآخر ضمه قبر مجهول بين قبور لأغراب آخرين مجهولين قتلوا ودفنوا في وقت عصيب ،وقت توزع الموت المجاني بين الناس على الهوية ودفنوا غرباء عن بعضهم لا جريرة لهم إلا أنهم أبناء هذا البلد المبتلى بشتى الفواجع ، أنهم الآن أبناء الفواجع .
قلتُ لها مواسيا محاولا تجاوز غُصص محنتي التي تسري في قلبي وجعا خفيا.
-أني أغبطهم ياسيدتي لأن تراب الوطن يحتضنهم. يحضرني الآن بيت شعر للشاعر احمد شوقي يوم مر بقبر إمرأة غريبة وهوفي منفاه في إسبانيا ( يا جارتي إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب .) للغربة دروب آلام طويلة ومضنية لا تنتهي، تراكم القلق والخوف والحزن والحنين للأهل وللوطن الحلم . لقد كثرت المحن في الوطن وتعددت أنواع الخوف ، وكل نوع له قسوته التي تهصر النفس والأعصاب هصرا شديدا ، الخوف من المجهول الذي تأتي به الأيام وهوأشد تلك الأنواع إيلاماً ووجعاً . وتتشظى النفس كما تتشظى قطع الزجاج والخزف.
قالت : أحسب أن فقدان الأم لأولادها أكثر إيلاماً ، فالأم مشدودة لولدها منذ أيام الحمل الأولى ولحظات المخاض وعذابات نوباته ثم السهر على راحة الوليد وإرضاعه وغسل لفائفه وحمله على صدرها وكتفها ثم حلمها بمستقبله ، غير أن كل هذا ينتهي بطلقة طائشة من قاتل مجهول أوإنفجار. يا سيدي أن الأب يعاني ولكن الأم أشد معاناة وعذاباً منه ، ألا تلاحظ دعاء الناس على الرجل فيقولون له ” ثكلتك أمك .”
ثم لاذت بالصمت مطرقة الرأس بيد أنها بعد لحظات رفعت رأسها مرة أخرى وتطلعت فيّ. وجدتُ ثمة غلالة من حزن شفيف تسرح في عينيها وتشوب بريقهما الذي كان يخبوتحت وطأة ذلك الحزن الذي علا وجهها قناعاً أصيلاً .قالت :- كبر أولادي وجاءت حرب، وكبر أولادي وجاءت حرب ثانية وكبر أولادي وصار لي أحفاد وجاء الأحتلال، حرب أخرى ودمار آخر وحرائق أخرى ، وكان كل ذلك أشد ضرورة وأكثر فواجع وثبورا وويلات خطف وإغتيالات وإنفجارات ، انها حرب مستمرة آلامها وفواجعها. خطف أصغر أولادي ، طالب في كلية الهندسة ،طلبوا فدية ، دفعنا الفدية غير أنهم دفعوا لنا جثته، هاجر كبيرهم قسراً لأسباب طائفية هذه المرة ولم يسبق لنا أن عرفنا ذلك من قبل .هاجرت وحيدتي مع زوجها وأهله وصار ما يمكون نهباً طائفياً. مات أبوهم حزنا وألماً لما حصل لنا .
قلت : ليست كل الذكريات ياسيدتي بحيرات راكدة كما يخال لبعض الناس ،وتحريكها يبعث فينا الحزن والألم، أنها عمر تتراكم صفحاته بما يشكل إرثاً غنياً ليس لنا عنه غنى ، لذا ما من ذكرى تخبوأوتمحى بمضي الزمن . نحن نلهووننشغل عن مضغ الزمن للذين نحبهم ثم يترك لنا أشياء في الذاكرة ، يسميها الناس ” مدخرات العقل ” وهي عبارة عن أسماء وأحداث وأغان ونوبات غضب وقصص حب وغيرها ، بيد انه ليس بوسع أحدنا أن يضمر صورها عنه. أنني بعد هذا العمر أجد أن أقداري أقوى كثيراً من إرادتي وتصميمي وربما شجاعتي .أتدرين ما تعلمتً من هذه الدنيا؟ لقد تعلمت الصمت ، أجل ياسيدتي الصمت وأحسبك قد عرفتي ذلك عني منذ ألتقيتك أول مرة ، تعلمت الصمت منذ صغري وكنت أمارسه طفساً محبباً حتى حين وجدتك في طريقي ، حبيبة رائعة الجمال وهمتُ بكِ حباً، كنت حينها على فوهة بركان الرغبة بيد أنها لم تجرفني كما جرفت غيري ولم اكن عاشقاً سادراً .
قالت :ما تقوله هوالصواب، غير أني كألآخرين أجد الموت يجوب الدروب في بلدي وعلى الرغم من أنه حقيقة واحدة أصبح له أنواع : هناك الموت العادي والموت الأستثنائي، موت الصدفة . لقد أصبحنا باحثين عن موتانا ، أب وأخ وولد وربما أم وأخت وأبنة ، وقد لا نجد جسد أي منهم في مشرحة الطب العدلي بين الموتى المجهولي الهوية وقد لا نجده على مكب قمامة ، لقد أصبحتْ دموعنا دموعاً خرساء ، تسيل على الوجنتين بصمت ، أنها دموع أكثر تعبيراً عن الحزن من تلك الدموع التي ترافق العويل والبكاء ، لأنها أصدق تعبيراً عن الحزن الشفيف الذي يملأ القلب.قلتُ: على الرغم من كل الذي حل ويحمل وسيحل بنا ، علينا أن نقطف الأمل في الحياة كما نقطف خيطا من النور من ضوء القمر ونستنشق عطراً ندياً من النسيمات الصباحية، لا ينبغي ان نستسلم للمحن والإنكسارات. أني أجد غربة الأبناء وتمتعهم بالأمان في المنافي خيراُ لهم من أن يكونوا في وطنهم من ابناء الفواجع. من الأمور المؤذية في وطننا يا سيدتي أن يمسك السياسيون بتلابيبنا ، ابناء وآباء وأمهات، وحملنا على التعلق بأذيالهم، لقد أصبحنا مرضى وهم داؤنا ،لقد عملوا على شج النسيج الإجتماعي والسلم الأهلي لأهلنا وبسببهم تشظى ولاؤنا الوطني ونزلت بنا شتى انواع المحن والخطوب والكوارث.أني كأب ، فجعتُ بابنتي، عندها غرفتُ أن الأب ياسيدتي يُفحع كألأم ، فالفواجع تيثر المواجع في نفوس الذين تنزل بهم . لقد فقدتُ أبنتي في أنفجار سيارة مفخخة وهي عائدة من الكلية مع طالبات أخريات. يكيتُ بحرقة وألم شديدين وعندما ذهبتُ إلى مشرحة الطب العدلي لأستلام جثتها المتفحمة ، جلستُ انتظرمع آخرين من المفجوعين بأحبائهم، كنتُ ما أزال أنتحب متوجعاً ، لم أخجل من البكاء ولم أكفكف دموعي ، وجد أحدهم يقترب مني وكان واحدا من الذين ينتظرون إستلام جثث ذويهم. وضع الرجل كفه على رأسي من دون ان يقول شيئاً. رفعتُ رأسي ونظرتُ إليه من خلال غبش دموعي فوجدته يبكي بصمت وبدموع كريمة ثم جاءني صوته يسف عبر نبرات حزن عميق ” لا تبكِ الآن ، سنبكي كثيرا في قادم الأيام.” ثم جلس بقربي وانساب صوته ” لقد فقت أبنتي أيضا ، كانت قد أنهت لتوها مناقشة رسالة الماجسيتر في علم الهندسة الوراثية ، خرجت من القاعة تطير فرحا وذهبتْ لشراء حلويات لطفليها وعند خروجها من المحل ،كان الموت المجاني يتربص بها وبالآخرين ، أطلقتْ سيارة مجهول النار على المارة والمحلات وسقطت أبنتي مضرحة بدمها وقد سقطت الحلويات مع الآخرين . ها ان أجلس بقربك مثقلاً ليس بالحزن فحسب بل بالخوف من المجهول ، من الموت المجاني ، الموت الإستثنائي الذي ينتشر في كل الطرقات والدروب في كل مدن الوطن، أخشى يوماً تجف فيه مآقينا فلا نجد دموعاً من أجل أحبتنا. أتدري يا صاحبي كم عدد الذين يسقطون وهم بلا هوية ؟ وكم عدد الذين يبحوث عن أحبائهم ؟ فلا غرابة أن تكون هناك مقبرة قرب مشرحة الطب العدلي ، أن هناك مقاولين لدفن جثث مجهولي الهوية.” وجدت الفواجع ياسيدتي قد وحدت الناس وأني لستُ الوحيد المفجوع بأبنته. كفكفتُ دموعي وأخذتُ أشارك الآخرين أحزانهم وأحمل جثامين الآخرين مع ذويهم وكان حزني في دخيلتي أثقل كثيراً من تلك الجثامين لأبناء الفواجع. بعدها يا سيدتي بأيام طلبتُ من ولدي الوحيد أن يهاجر مع طفليه وزوجته، ليس هربا من الموت نفسه بل من الموت المجاني، الإستثنائي الذين يجوب الطرقات كل يوم وفي كل المدن . أنه الآن يعيش في المنافي في دولة أجنبية مع آخرين وهم يلوكون غربتهم ويقتاتون على أحزانهم من أجل معانقة الحياة ، الحياة الحلوة . أنني أعيش الآن وحدتي وشيخوختي ، أنتظر على الهاتف صوتي ولدي لأطمئمن عليه وليسكن خاطره هو نوع من الأمل في سلامتي ورؤيتي في المستقبل الذي أظنه أصبح بعيداً . وأنتِ ،كيف تعيشين بعد هذه الفواجع ؟
قالتْ :كنت أعيش وزوجي الذي اعقده المرض والزمه الفراش وكنت اعتني به واسهر على راحته فهوكل ما تبقى لي هنا من عائلتي وبعد وفاته ، أعيش وحيدة مع أختي التي لم ترزق بذرية. فأية حياة يا سيدي لي بعد كل هذا ؟
وجدتها تهم بالرحيل متجلدة بالصبر فحاولتُ عبور الأحزان فقلتُ لها مواسياً وكأني أواسي نفسي : ان الذي حدث ويحدث لنا وللآخرين جروح غائرة في كل منا ، جروح تنضح وجعاُ وليس دماُ لأن الدم ينضب يوما ما . علينا أن نكون أكبر من جروحنا كيلا تهزمنا الأيام وعلينا السعي في مناكب الحياة متجاوزين الفواجع التي يبدوإننا قد وُلدنا من رحمها في هذا البلد المنكود الحظ ، صبراً سيدتي على البلاء لإنه قدر ودواؤه النسيان .
قالت بحزن شفيف : أجل ولكن أنى لنا النسيان ؟ ، فلونسيت أولادي أكون قد فقدتُ قلبي .(ثم سألتني وقالتْ بنبرة واخزة) وهل تسطيع أنت صبراً على ما حل بك ؟ هل تستطيع النسيان ، يا سيدي ؟ أنسيتني؟
قلتُ : أني أمتهنتُ الصمت صبياً وأمتهنتُ الصبر رجلاً وتجلدتُ كثيراً لذا أردد مع نفسي قول أبي الطيب يرحمه الله ” على قدر أهل العزم تأتي العزائم وعلى قدر الكرام تأتي المكارم ” أما النسيان يا سيدتي فلم أقدر عليه ، فتعود الأحداث وصور الناس صدى يعتادني حيناً فحينا كما يقول الشاعر أحمد رامي . غير أني لم أستطع نسيانكِ يوماً ولونسيتك أكون قد فقدتُ قلبي أيضا كما تقولين . أنك يا سيدتي وُلدتي من رحم صدفة جمعتنا يوماً ما لتعيشين في خاطري أميرة تتربع على عرش حب دائم وأريد لتلك الصدفة أن تبقى جميلة و لتكون للذكريات مواسم مثلها مثل مواسم الأشياء الأخرى .
قالت : على الرغم من أنكارنا للموت كحقيقة لا يمكن أنكارها غير أن الفراق من غير عناق عند وداع الأحبة يا سيدي أشد إيلاماً ووجعاً في قلوبنا.
همتْ بالرحيل بعد ان ألقيتْ عليّ كلمة وداع حزنية ثم نظرتْ أليّ نظرة بائسة غير أنها نظرة وديعة .قلتُ لها مواسياً بيت شعر لنزار قباني من قصيدة بغداد : ( قبل القاء الحلوكنتِ حبيبتي \ وحبيبتي تبقين بعد ذهابي ) هزتْ رأسها ثم استدارت ومشت مثقلة الخطى تنوء بآلامها وأوجاعها وعذابات السنين . شيعتها نظراتي إلا أن تاهتْ وسط زحام الناس. جلستُ وحيداً لا أقوى على شيء وقد دب في اوصالي وهن وضجتْ في رأسي تساؤلات كبيرة وأندلقت عليّ ذكريات سنين طوال ، نهضتُ ومشيتُ شارد الذهن بخطى ثقيلة في الإتجاه الآخر وسط زحام الآخرين غير آبهٍ بما قد يحدث في هذه المدينة والمدن الأخري التي شاءت الأقدار أن تكون مسرحاً للموت المجاني .وأنا أردد في نفسي :
يا ويلُ وطنٍ حاقتْ به الأحزان
تحفُ به نوازلُ الدهرِ ناراً فتستعـر
يا ويلُ أيامٍ عاشَ في مناكبها
صبراً على الأسىى والأشواقُ تحتضر
سلاماً أحبائي من وجعِ القلبِ
أرسله وعبرَ سنين الشوق راح ينهمرٌ.