من ريادات علي الوردي
إهداءات ثائرة وروح ساخرة
حسين سرمك حسن
ملاحظة هذه المقالة جزء من كتاب جديد للكاتب عن الراحل علي الوردي سوف يصدر عن دار ضفاف في دمشق نهاية الشهر الحالي.
لو راجعنا مؤلفات الوردي التي وضع عليها إهداءات وهي حسب تسلسلها الزمني خوارق اللاشعور , وعاظ السلاطين، أسطورة الأدب الرفيع، مهزلة العقل البشري، وأخيرا دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، فسنجد أنها لا تحمل سمات الإهداء التقليدي حيث لا يوجد اسم لشخص محدد في أي منها، وهو ما اعتاد عليه المؤلفون قبله. إن إهداءات الوردي توجّه دائما إلى قطاعات من المجتمع، بدءا من مؤلفه الأول خوارق اللاشعور ــ 1952 الذي كتب عليه إهداء غير مسبوق قدّم له بعبارة غريبة لم تستخدم من قبل هي تحذير ، وقال فيه
إن هذا كتاب ربما ينفع الراشدين من الناس ــ أولئك الذين خبروا الحياة وأصابهم من نكباتها وصدماتها ما أصابهم. أما المستجدون والمدلّلون والأغرار الذين لم يمارسوا بعد مشكلة الواقع ولم يذوقوا من مرارة الحياة شيئا، فالأولى بهم أن لا يقرأوا هذا الكتاب… إنه قد يضرّهم ضررا بليغا .
ولو تأملنا هذا التحذير وحاولنا ربطه بالموضوع الذي يعالجه الكتاب وهو موضوع القوى الخارقة ــ أو الخارقية كما يسميها الوردي ــ الذي عالج فيه التنويم المغناطيسي والتخاطر وقوى اللاشعور والأحلام النبوئية والانطباعات المسبقة والعبقرية وقاعدة من جدّ وجد … إلخ، فقد يعتقد قاريء الكتاب بأن لا صلة لهذا التحذير بالمضمون العلمي له وأن مؤلفه إنما أراد من وراء هذا التحذير تصعيد رغبة القرّاء للإقبال على شراء الكتاب على طريقة أن كل ممنوع مرغوب، أو على طريقة استكشاف الغرفة المحرّمة التي تحفل بها الحكايات الخرافية ــ ألف ليلة وليلة خصوصا ــ. قد يكون هذا من بين أهداف الوردي فقد اتهم أكثر من ــ وهذا ما ذكره في كتابه أسطورة الأدب الرفيع ــ بأنه يثير الضجيج والمعارك حول كتبه كجزء من صرعة أمريكية تعلمها في الولايات المتحدة الأمريكية أيام دراسته هناك يستثمر فيها الصراعات التي تدور حول ما يكتبه من أجل ترويج مؤلفاته
هناك من يدّعي أن الدكتور الوردي يستهدف أن يثير ضجة تقترن بكتبه التي يصدرها، وهي طريقة أمريكية انتقلت إليه من تطبع لا طبع له. والمعروف عن أمثال هذه الطريقة الأمريكية، أن الانتقاد المر والمدح الرخيص يستوي عندها، إذ أن الأصل فيها حبك الضجة ولا شيء بعد ذلك. والمفروض في الضجة أنها تخلق مؤيدين ومعارضين وبالتالي مشترين. وهذا ما يذوب له الدكتور الوردي صاحب أسطورة الأدب الرفيع .
ولكن الوردي يرى أن إثارة الضجة وهذا رأي منطقي لا تخل بالتزامات الكاتب الأخلاقية، فهو يرى أن للضجة وظيفة اجتماعية كبرى، لأنها هي التي تحرك الأذهان وتوقظ النائمين. ولولا الضجّات الكبرى التي زخر بها التاريخ لما استطاع البشر أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من حضارة جبارة. يعلق الوردي على ذلك بالقول
إني أتمنى من صميم قلبي أن أكون من زمرة خالقي الضجّات. ولكني مع الأسف غير قادر على ذلك. فلست أملك من دنياي غير هذا القلم، وهو غير كاف لخلق الضجة المنشودة في هذا البلد الأمين .
لكن هذا التحذير سيكتسب أهميّته ومعناه بعد أن نكمل قراءة الكتاب. فالوردي هو أول كاتب عربي يعالج موضوعا علميا صرفا ومعقدا كالباراسيكولوجيا ويوظّفه فلسفيا واجتماعيا ليكون مدخلا لمناقشة وتفكيك المنطق الصوري الأرسطوطاليسي وعلاقة الوعي باللاوعي في تحديد فرص نجاح الفرد كعامل اجتماعي مضاف يفنّد من خلاله أطروحة من جد وجد ومن زرع حصد ، وقد ناقش في سياق بحثه فعل قوى اللاشعور الخلاقة التي تتعدى تلك الأطروحة وهذا ما يتضح في القسم الأخير من الكتاب ذيل كلمة لابد منها والذي انتقل فيه من العلم إلى الاجتماع فإلى السياسة
لقد درجت الطبقات الحاكمة في مختلف مراحل التاريخ على أن تبرّر حكمها الغاشم للرعية بشتى أنواع الحجج. فقد كانوا في القرون الوسطى مثلا يبرّرون حكمهم بأنه مستمد من الحق الإلهي، وأنهم جند الله أو ظل الله في أرضه. وبعدما بدأت الثورة الصناعية في الغرب لجأ رجال الحكم في تبرير حكمهم إلى حجة أخرى هي حجة من جد وجد . فهم كانوا ينظرون إلى الشعب بعين الاحتقار على اعتبار أنه مؤلف من السوقة والأغبياء والكسالى الذين عجزوا عن النجاح.. إن مبدأ من جد وجد قد يصلح لتربية الصبيان والصغار، ولكنه يمسي مبدأ خطرا حين يعتنقه الكبار فهو إذا انتشر بين الكبار صار حجة بيد الأقوياء في أن يأكلوا الضعفاء وأن يسيموهم خسفا واستغلالا. فإذا أخذ الضعفاء يطالبونهم بحقوقهم قالوا لهم متبجحين من جد وجد . وقد انتشر هذا المبدأ الخبيث في الحضارة الاسلامية .
ومن هنا يبدأ الوردي هجمته العاصفة على جلاوزة العراق.. وهذه هي المحاولة الريادية الأولى في الثقافة العربية التي يربط فيها باحث علما فيزيائيا جديدا وإشكاليا وبين ما هو نفسي واجتماعي وفلسفي، والأهم سياسي.
وإذا كان الإهداء السابق شائكا لأنه يربك المتلقي الذي قد لا يدرك مغزاه الخفي حتى النهاية أحيانا، فإن الإهداء المتشفّي الذي وضعه لكتابه التال وعاظ السلاطين ــ 1954 جاء إعلانيا وهجوميا على قطاع واسع من المجتمع ؛ قطاع شديد التحصّن اجتماعيا ومن الصعب جدا آنذاك اختراق دائرة مهابته وارتباطاته بالمقدس في المجتمع دينيا واجتماعيا، خصوصا في المجتمع العراقي بتابواته ونواهيه المعروفة التي ترسّخت تاريخيا، الوردي هو صاحب الريادة، عراقيا وعربيا في الفعل الهجومي، لا التحرّشي كما حصل في محاولات سابقة عربيا وعراقيا، على المؤسسة الدينية ورجالاتها الذين أهدى إليهم كتابه هذا
أقدّم هذا الكتاب إلى وعّاظنا.. فقد ظل المجتمع الإسلامي يستمع إلى مواعظهم وخطبهم الرنانة مئات السنين، فلم ينتفع بها شيئا. فقد آن الأوان لكي ينقلب لهم ظهر المجن فنعظهم ــ كما كانوا يعظوننا من قبل. إنهم دأبوا على وعظ المظلومين.. وتركوا الظالمين. لقد اتخذهم الطغاة آلات بأيديهم يصعقون بها الناس وينذرونهم بعذاب الآخرة، فأنسوهم بذلك ما حلّ بهم في هذه الدنيا من عذاب مقيم. إنهم وعّاظ السلاطين، وهذه هديّتي لهم .
ومن عادة الكثير من المؤلفين أن يجعلوا الإهداء إهداء إذا جاز التعبير، أي أنه لا علاقة له بوظيفة تفسيرية تكشف مضمون الكتاب وهدفه المركزي. لكن الوردي يضع هذا الشرط أساسا لصياغة إهدائه.
ومن السمات الثابتة لإهداءات الوردي هو أنها مقطعية وليست من جملة أو جملتين. إنها تأتي في فقرة كاملة وطويلة تفسيرية الطابع. وإذا كان قد جعل عنوان إهداء كتابه خوارق اللاشعور تحذير، وإهداء كتابه وعاظ السلاطين الإهداء، فإنه يجمع المفردتين ــ مع تغيير طفيف ــ في كتابه الثالث وهو مهزلة العقل البشري فيجعله إهداء وحذر معبرا عن قصدية عالية
أهدي هذا الكتاب إلى القراء الذين يفهمون ما يقرأون. أما أولئك الذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم. إني أخشى أن يفعلوا بالكتاب ما فعلوا بأخيه وعاظ السلاطين ، من قبل، إذ اقتطفوا منه فقرات معينة وفسروها حسب أهوائهم ثم ساروا بها في الأسواق صارخين. لقد آن لهم أن يعلموا أن زمان الصراخ قد ولّى، وحلّ محله زمان التروّي والبحث الدقيق .
هذا ليس إهداء تقليديا، إنه نمط جديد من الإهداء؛ فهو أشبه بإعلان عن الكتاب. ثم أن هناك الصفة التحذيرية المنذرة التي يوجهها إلى الجهة المقصودة وهي ليست فردا محددا أبدا كما هو جار في الإهداءات السابقة التي جرى عليها الكتاب العراقيون. وفي كل الإهداءات تتضح السمة الساخرة، مباشرة أو غير مباشرة، تلميحا أو تصريحا، حتى في إهداء كتاب أدبي لا صلة له باختصاصه كعالم اجتماع وهو كتاب أسطورة الأدب الرفيع 1957 والذي قال فيه أهدي كتابي هذا إلى أولئك الأدباء الذين يخاطبون بأدبهم أهل العصور الذهبية الماضية، عسى أن يحفزهم الكتاب على أن يهتموا قليلا بأهل هذا العصر الذي يعيشون فيه، ويخاطبوهم بما يفهمون. فلقد ذهب عهد الذهب، واستعاض عنه الناس بالحديد .
وبمناسبة هذا الكتاب أسطورة الأدب الرفيع فإنه يثير دورا رياديا آخر للوردي في الثقافة العراقية وهو أنه أول مختص بعلم الاجتماع يخرج عن دائرة اختصاصه العلمي ويتناول موضوعات أدبية كانت حكرا على النقاد الأدبيين سابقا، حتى أن الدكتور عبد الرزاق محيي الدين قد اتهم الوردي بالتطفل والفضول على اختصاص لا صلة له به حين رآه ينقد الشعر العربي. ولم يكتف بذلك بل دعاه إلى اختبار في نظم الشعر أو تلاوته عن طريق الإذاعة العراقية. وأضاف محيي الدين أنه متأكد من أن الوردي سيتراجع لأنه لا يعرف من الشعر إلا هذا اللغو المكرور كلما أراد أن يقول شيئا للناس عنه. ولكن الوردي بمكره الهائل وبحكم المصادفة المسمومة يعلق على كلام الدكتور وفي فقرة عنوانها صدفة غريبة بعد ثلاثة أيام من نشر مقالة الدكتور محي الدين في جريدة البلاد، كنت مارا بسوق الوراقين، فعثرت في بعض حوانيته على المجلد الرابع من مجلة الأستاذ التي تصدر عن دار المعلمين العالية ببغداد. ولشدّ ما كانت دهشتي حين وجدت في هذا المجلد مقالة للدكتور ــ يقصد الدكتور محيي الدين ــ عنوانها الوازع الاجتماعي . وهو موضوع من صميم اختصاص المسكين كاتب هذه السطور .
وتتضح الروح الديمقراطية والساخرة للوردي في تعليقه على هذه المصادفة الغريبة
ليطمئن الدكتور أني سوف لا أتحداه أو أدعوه إلى امتحان في علم الاجتماع مثلما تحداني ودعاني إلى امتحان في نظم الشعر أو في تلاوته… إن لكل إنسان الحق في أن يخوض في قضايا اجتماعية .
AZP09