منيكانات
ديار الساعدي
أسير في زقاق ضيق، بيوته قديمة ذات شبابيك خشبية، عائداً من العمل إلى البيت. إنها المرة الأولى التي أمر خلالها بهذا الزقاق الضيق، ذي البيوت المتلاحمة بعضها ببعض، حيث يقع عند نهايته مقهى معروفٌ جدّاً. خارجه مناضد كثيرة، قبالته، يجلس على كراسيها حشد كبير من رواده. أمّا داخله، إذ نظرت إليه من مسافة غير بعيدة، فليس فيه أيُّ أحد! لماذا يجلسون خارج هذا المقهى، تاركين الداخل فارغاً، بالرغم من برودة الجو؟!
ها هو نادله يدور بين الرواد، كأنه مكوك، يلبّي طلباتهم، من شاي وقهوة وأرجيلة…، فلا يستطع التوقف لكثرتها بكثرتهم. أمّا أنا، حيث أراقبهم، فلفت انتباهي وضعهم الغريب هذا: لقد تركوا ألعابهم، إذ قطع الطاولي والدومينو والشطرنج هامدة على مناضدهم، شغوفين بالشاي والقهوة.. فضلاً عن الأرجيلة التي لم تفارق أفواههم بغرغرتها التي ملأت المكان. أمعنت النظر فيهم، مليّاً، وإذا بي أرى عيونهم كلها تلتقي في نقطة واحدة: شباك مطلّ من مبنى، مقابل للمقهى، يلوح وراء زجاجه بين حين وآخر طيف إنسان! تُحدِّق نحو موقعه، بشكل غريب، متجهة يميناً أو يساراً مع حركته، وهو ذاهب آيب، بينما الرؤوس تعلو.. والرقاب تستطيل بصورة غير مألوفة، في طبيعة الأشياء، متحدية قصر القامات!
بدأت أقرأ هذه العيون، مفسّرا من نظراتها كلّ حركاتها المنفعلة، حيث تتسع مفصحة عن وجود أمل ما زالت له بقايا في قلوب أصحابها. ها هي نظراتهم تتزاحم، متجاذبة متنافرة متدافعة، تحاول شقّ طريقها بكل ما لديها من وسائل إلى أن تصل لذلك الشباك. لا تهدأ نفوسهم المضطربة إلّا باختفاء الطيف، إذ سرعان ما يستعيد الوضع حالته الطبيعية، فتذوب الشهوات وتتلاشى الغرائز وترتخي الأجفان: تعود الرؤوس إلى مستقرها فوق الرقاب، على شاكلتها الأولى، تواكبها أصداء المكان بتأفّفات وهمهمات.
شعرتُ برغبة شديدة عارمة، يحثّها داخلي فضول كبير، لأن أجلس في هذا المقهى مشاركاً روّاده هؤلاء رحلة استكشافهم عبر ذاك الشباك، كي أعرف ما يدور خلفه!،…
وما أن جلست فوجئت بنادله، واقفاً فوق رأسي، يرمقني شزراً.. بصوت مستكبر:
– ماذا تطلب؟
ـ لا شيء.
– يجب ذلك.
لاحظتُ علامات غضب على وجهه الكئيب..
ـ قنينة ماء مع فنجان قهوة.
فانصرف، هازّاً يده اليمنى بطريقة استهزائية!، ثم عاد بما طلبته.
رحت أنظر إلى الشباك، مرتشفاً قهوتي، لعلّي أستطيع تمييز طيفه، مثْلهم؟ وهو واقف، فيما يداه تؤدّيان حركات مثقلة بغنج، فتبيّن لي أنه جسم امرأة!
ثمة هدوء يسكن المقهى، الآن، حيث روّاده، “كأنّ على رؤوسهم الطير”، يحدّقون إلى (شبّاكهم)، كمخلّص لعذابهم، وقد ارتسمت ملامح البهجة والسرور على وجوههم التي انتعشت بالنشوة واللذة ممتّعة أبصارها بالطيف الذي أنساهم كلّ همومهم.
بعدما أنهيت قهوتي، أخيراً، طلبت من النادل أرجيلة ذات نكهة، كي تنسجم مع أجوائي الحاضرة، بدأت أسحب أنفاسها المميزة، فارتخت أعصابي، حيث سرحت أفكاري ما بين دخانها والطيف مكوّناً امرأة من دخان، عارية تتراقص أمامي هازّة نهديها، فاحمرت أوداجي بلهيب شوق عارم كاحمرار جمر أرجيلتي هذه، كلّما سحبت منها ـــــــــنفسا ازدادت احمرارا،…
فجأة ربّت أحدٌ على ظهري بطريقة غريبة، أفزعتني، فنظرت ورائي وإذا هو صديق يستفهم متعجّباً: في مقهى؟ وأرجيلة!
لكنّني في حالة أشْبه بالثمالة، يا صديقي، حتى أنّني لا أستطيع السيطرة على مخارج الحروف، أقصد حروفي، فلا تضحك عليّ بكلّ فمك!
أكّدت بدوار يملأ رأسي: إنه الطيف!
– أيّ طيف؟
أشرت بيد مثقلة نحوه: ذاك هناك.
– أين هو؟
عند ذلك الشباك، أيّها الصديق، حيث أسطورة الأنوثة بالغنج!
تعالت ضحكاته فأثارت حفيظتي صارخاً عليه بأنِ اسكتْ.
لكنّه لم يسكت: هذا مقهى للحشّاشين، هنا، يقابله مخزن لـ”المنيكانات”!