منهج عربي لدراسة الظاهرة الصدرية

مقتدى الصدر أرض الرزايا

منهج عربي لدراسة الظاهرة الصدرية

{ الأفغاني يزرع لاهوت التحرر في النجف.

{ تيار للناس لا يشكو عقد الأيديولوجيا وأمراضها ولا يعاني من خبث الدهاة وسرية العمل.

{ المرجعية لا تميل إلى التنظيم الحزبي وتوزيع الأتباع على خلايا.

أربيل – حسن العلوي

الصدريون نجائب الربوات البيض

على الربوات البيض ومن شميم عرار نجدٍ وذات المكان الذي مر عليه النابغة الذبياني والمتلمس وخرجت منه معلقتان من السبع الطوال هما معلقة الذبياني ومعلقة عمرو بن كلثوم، وكلتاهما كُتبتْ في موقع (الغريّ) هذا الموقع الجاهلي المتمسك باسمه حتى اليوم والممتد من جذور الحيرة العربية، حيث تجلس النجف على رابيتها واحةً في أطراف صحراء نجد، فتستحيل من خيامٍ للشعر الى قبةٍ للدرس البلاغي والفلسفي وبيوتاً للشعر، فهي إلى جانب ما بقي من مدرستي القيروان وفاس تستلهم اسلوب التعليم في العصر العباسي، إذ المدرسة بيتٌ وغرفةٌ في بيت والأبُ شيخ والإبن تلميذ.. من هذه الربوات البيض وعليها وُلد محمد سعيد الحبوبي والشيخ علي الشرقي وأحمد الصافي النجفي ومحمد مهدي الجواهري ومهدي المخزومي ومصطفى جمال الدين والشيخ أحمد الوائلي وعبد الرزاق محيي الدين، لتتشكّل من جديد مدرسة أدبية تتصل بمراضعها العربية البدوية، فيبدو أيٌ من هؤلاء وسواهم ممن قدّمتهم للعراق وللأمة العربية نجائب النجف، وكأنه قادمٌ من أيام الحيرة.

هذه المقطوعة الصحراوية لم تنقطع يوماً عن مراضعها الاولى، فيتقدم جيلٌ خلف جيل من أبنائها ليزاحم طلبة العلم القادمين من الأصقاع الإسلامية ما بين هراة وأحمدآباد وشيراز ومدن شرق آسيا لتنهض بهم جامعة عمرها أقدم من كامبردج وأوكسفورد، وهي سليلة الكوفة ومدرستها في النقد والبلاغة والشعر والفكر والفلسفة.

وكما تنصهر اللغات في انكليزية كامبردج وأوكسفورد، تنصهر لغات المبعوثين من تلك الأصقاع بعربية النجف ولسانها، فيعود الهندي الى بلاده متباهيا بعربية اللسان والأفغاني يعود قرشي اللغة والآذري عربي الحنجرة، وهكذا النجف مصهر عربي للألسن الأعجمية.

فكيف لايكون لها في كل بيت شاعر، وفي كل عائلة سلسلة فقهية، وفي كل محلة عمامة من لاهوت التحرير الذي زرعه فيها جمال الدين الأفغاني.

وما كان من أمر النجف هذا كان على مستوى الأفراد غير المنتظمين إلا بنظام الجامعة النجفيّة، ولم يظهر تنظيم سياسي قبل حركة النهضة في ذات المدينة حزباً نجفياً خالصاً، قاد انتفاضتها على الإحتلال البريطاني عام 1918.. فاُعدم قادة النهضة ولم تُعدم النهضة، حيث لاتُدفن الرايات وحيث تُبعث النهضة من جديد.

ولم تظهر بعدها حركةٌ شعبية أو تيار يصل الشارع السياسي بالعمامة الأولى، والعمامة الاولى بخلايا القوة تحت الأطمار، فيما ظهرت تنظيمات نخبويّة دون امتدادات شعبية، لكن حركة محمد محمد صادق الصدر كانت الاستجابة الطبيعية لهذه البيئة وامتداداتها، وهي نسيلة الكوفة وسليلة البادية في بساطتها وعفويتها وعروبتها.. احتجاجا على ظلمٍ مركّبٍ، وانبعاثا جديدا لحركة النهضة، وشارعاً مأهولاً بالمسلمين بعد أن خلَت المحافل وأوحشت ندوة السمّار بمقتل الصدر الأوّل.

جاء التيار الصدري حوزةً مضافة وقيمة مضافة وحاجة عربية تمتزج بعروبة النجف وامتدادها الجغرافي.

جاءت حركةً من رحم الربوات البيض ورمالها، ومشتْ مشي المغيث على أعشاش العوز، فامتلأوا وامتلأت بهم قوة  وهم كما تعلمون خمص البطون.

كان لابد لعراقية التيار أن تفصح عن ذاتها، وذاتُها عربية، وشارعُها عربي، وفقرها عربي وزعيمها فتى قرشي قد ينقطع كل حسب ونسب إلا حسبه ونسبه، فصدق الرسول الأعظم وصدق حديثه.

هذا الفتى طرح وجهة نظره بلغة الناس لايتنطّع ولايتلوّع، قد يخطئ مثلما يخطئون ويصيب مثلما يصيبون، ويقاتل إذا قاتلوا ويساكن إذا ساكنوا، وكان لابد له وقد رأى بلده مضروباً بأسوار العزلة بعد عام 2003، أن يخرج الى مدن العرب، ولم يلتفت الى اعتراض المعترضين فيزور الجوار العربي ودولاً ما بعد دول الجوار، ويستقبله ملوك العرب ورؤساؤهم بمراسم الندّيّة ويقيم علاقة ودٍّ أراد بها أن يعيد العراق الى محيطه العربي، وعاد ليضرب عزلة المذاهب بعد أن كسر العزلة العربية عن العراق وقدّم أفكاراً مخلصة لبني قومه على أي مذهب كانوا، فكأنه يستعيد ثلاثية ثورة العشرين التي لم تطرح فكرة الدولة الاسلامية وإنما قامت على ثلاثية نظام عربي برلماني دستوري يتسع لساكنيه حاضناً ومحضوناً.

جيل اللحظة الميدانية

في افتتاحية على الاولى من جريدة (المؤتمر) الصادرة في لندن بتاريخ 12/1/2002 أي قبل اثنتي عشرة سنة وقبل الاحتلال الامريكي بسنة وأربعة اشهر، اجبتُ على سؤالٍ افتراضي عمّن سيحكم العراق بعد رحيل صدام حسين، فقلتُ انهم ممثلون عن ثلاثة أجيال سياسية : جيل المعارضة التقليدية من وطنيين وقوميين وإسلاميين، وجيل المعارضة المحمولة على أجنحة العاصفة ممن دخلوا بعد غزو الكويت عام 1990 الى دائرة العمل في المعارضة العراقية، وبإشرافٍ أمريكي – بريطاني مباشر، ثم.. جيل اللحظة الميدانية، كما اسميته، الموجود على أرض الميدان، وغير الموجود على شاشة الفضاء.

هو جيلٌ تبتلعه فوهة الفقر، ويذيبه حبُّ آل الصدر، وينتظر أبناؤه حصتهم التموينية، حاملين هوية النفوس وشهادة الجنسية العراقية وبطاقة الطعام وورقة السكن، وهذه جميعها لاتنطبق على الجيلين الأوليين بما يحملان من تبعية جنسية او من عناوين سكن لدى بلديات تمتد ما بين أوسلو النرويج وحتى كراتشي باكستان..

فمن هم جيل اللحظة الميدانية الذي أشرتُ إليه في ذلك الحين البعيد حين قلتُ ما نصه (هو جيل مختلط اجتماعيا غير مرئي حاليا قد لايتعرف أحد على رؤوسه من أهل الخارج، وهو مقيم على الشواطئ والبراري وفي المدن والقرى، لكنه سيظهر في لحظة المحنة وسيكون وجوده على الأرض واسعا راسخا على أرض العشار أم على أرض عشتار، سيفرض هذا الجيل رؤوسه على السلطة الجديدة بحجم ما يتمدد عليه من ميدان جغرافي وقوة على الأرض، وسيجري التعامل معه حسب أعراف الأمر الواقع).

لم يكن الصدريون قد أسموا تيارهم بعد، ولم أكن أعرف طريقتهم، وإن كنتُ أعرفُ تضحياتهم ممثلة بمجموعة من الصدور الذين ورث تضحياتهم مقتدى الصدر.

فكيف وُفقنا في رسم صورة لتيار لم يظهر بعد باسمه ولم أكن أعرفه بالذات، أغلبُ الظنون أنه ناتج استقراء لتاريخ المعارضات التي تستلم الحكم وهي في الأغلب تعيش خارج أوطانها، إذ إن من تقاليد الأنظمة العربية انها لاتترك معارضا لها يعيش بينها تراه ويراها، فيتسلل المعارض الى بلدٍ يسمح له بالتفكير، وكانت مصر منذ الخمسينات وسوريا قبلها منذ الثلاثينات حتى العام 2003 مكاناً مفضلاً للمعارضة العراقية، فضلاً عن الدول الغربية بشكل عام، لكن عملاً في الداخل لابد أن يتمدد على الأرض ويتحمل ثمن وجوده رعب الحياة ورعب الموت، فيحصل نوعُ من المونولوج الداخلي يتجاوز المعارض الميداني فيها نفسه، فهو من جانب يجلس على فوهة مدفع قريبا من ميدان النار، لكنه مجهول..! والمعلوم معارض آخر يظهر في التلفزيونات الأوربية والعربية، ويتنقل من بلدٍ الى بلد، وقد يقيم في بنايات البلدية أو أن يكون من رجال الأعمال من ذوي القلاع والقصور.

حضرَ المشاهيرُ.. وغابَ المغاوير

فيما هذا المعارض يعيش على الحصة التموينية ويمضي أيامه في نفير عام لايدري في أية لحظةٍ يُؤخَذ من باب الدار الى باب الجنة ! ومن حمام الدار الى حمام الدم، فإذا التقت حلق البطان وجدّت النُوَبُ الصعابُ، بتعبير الجواهري، وسقط النظام، حضر المشاهير وغاب المغاوير!

غير أن كلاما مثل هذا يساور المقيمين على الأرض لايعني صواب المخيلة التي اتسعت للصورة أعلاه، فتراءت لها الجنة في المنفى.

وليس من العدلِ أن نَقذف بالترف والبذخ على أي معارض عاش تلك الفترة خارج العراق وهناك من رفض جنسية غير جنسيته ككاتب السطور وعائلته.

ويبقى الحديث عن معاناة أهل الداخل سليماً في أعلى السطور.

تجربة ابن بيلا وبو مدين

لم يكن مناضل جزائري أشهر من الزعماء الخمسة الذين اختطفتهم فرنسا وهم على متن طائرة مدنية، ففتحت فرنسا أمام الثوّار العرب لاحقاً أبواب العمل في اختطاف الطائرات.

ولا احد سينافس أحمد بن بيلا وكريم بلقاسم ومحمد خيضر، فإذا انتصرت الثورة انتبه الناس الى القادة الميدانيين، فيلمع اسم هواري بو مدين، وهو قائد منطقة محدودة في الجغرافية، بطلاً يطيح بالأبطال الخمسة، ولم يكن اسمه معروفاً سوى (بو مدين)، لقباً حركياً، فيما غاب اسمه الحقيقي في طيّ النسيان، وبقي لقبه الحركي رئيساً للجمهورية وصاحب طريقةٍ سياسية في الحكم.

مقتدى الصدر على أرض الرزاي

وعلى هذه القاعدة، يقفُ زعيمٌ شاب لم يتداول المعارضون اسمَه مثلما تداولوا اصغر الأسماء في الخارج، ويتحرك مقتدى الصدر في لحظة سقوط النظام فيمسك الزمام، ولم يكن اهل المعارضة الخارجية قد امتلكوا زمام الداخل، ولو كان مقتدى عسكرياً لفعل ما فعله (بو  مدين) في الجزائر بعد الاستقلال.

مقتدى الصدر ما اختار لنفسه هذا الدور بقدر ما اختارته الأدوار لنفسها، لم يكن في خاطره نزول المعمعان السياسي، لكن المعمعان كان يبحث عنه ثائراً يسد حاجة الثوار لقائد ميداني لم يبرح أرضه ولم تبرحه المخاطر، فمشى على حافة السيف محمولاً على خشبة دعبل الخزاعي، صوتاً لايسمعه إلا من كان فوق الأرض لا على أثير الفضاء، وصوت الأرض أعلى.. هكذا تاريخ الشعوب يقول.

أترى الجواهري في منفاه كان يخاطب مجهولاً، وهو يخاطب نفسه، فإذا الغائب في براغ – حيثُ كُتِبتْ القصيدة – هو الحاضر في بغداد :

كنتُ عن جيـلٍ تـبنّـتْـكَ رزايـاهُ شـــعارا

لو خلا من صورةٍ كنتَ عليها لاستعارا

أم تراني عرفتُ مقتدى الصدر شاخصاً خلف هذا النص، ونص الجواهري ينتقل من الـ (أنا) الى الـ (نحن)، ومن الـ (نحن) الى الآخر، ومن الخاص الى العام، فيدخل في سر الخلود.

مقتدى الصدر جيلٌ تَبَنّتْهُ الرزايا وجاءتْه تقرع طبول الموت، خاطفاً ومختطفاً عمائم التحرير في عمّة فيلسوف العراق ومفكره الأول محمد باقر الصدر، وثائر الكوفة ومحرضها وجاذب المليون الى صلاة الجمعة محمد محمد صادق الصدر.

ولو لم يستجب لنداء الرزايا، لاستعارت الرزايا صورته، ووضعتْها في موضع التيار الشعبي الذي لم يتحول الى حزبٍ باطني، ولم يتقبل حياة المنظمة السرية، ولم يتحرك بأسماء حركيّة، ولم يؤسس شبكة تحت باطن الارض.

فمثل هذه الظواهر ستبدو غريبة على تيارٍ اختار العمل فوق الأرض لا في داخلها، وعلى ترابها وليس على أثير الفضاء، موجةً لإذاعة ام تردداً لتلفزيون!

لقد رفض فكرة عرضتُها عليه لسدّ فراغٍ إعلامي، حيث لايتوفر لهذه الحركة فضائية خاصة، قائلاً (إن الأموال الكبيرة التي ستخصص لهذه الفضائية ينبغي أن تذهب الى مستحقيها، وفي العراق فضائيات مهنية ووطنية تسدّ الحاجة) وأضاف (انني لا أريد أن أرى تلفزيوناً صدرياً في موقع سجال مع فضائيات حزبية، فنزيد من وتيرة الانقسام في مجتمعنا).

هذا رجلٌ، وهذه حركةٌ، وهذا تيارٌ لم ينجبه الإعلام، ولا ظهر ظهور المنتقم بقدر المُطالب بحقه على الأرض، فقاتلوا الإحتلال سالب الأرض، وعارضوا سارقَ الماعون، ولم يأخذهم سيلٌ طائفي ولا زيغٌ عاطفي.

لا عقد الايديولوجيا ولا سرية العمل

ليس فيه من التواء السياسيين ما يجعله غامضا، فالوضوح ظاهرة هذا الرجل وتياره.

خاض السياسة ببيضاء النية والثياب، فلا التواء ولا اختفاء ولا جلسة بعيدة عن وضح الشمس، أصاب أم لم يصب، لكنه يوماً بعد آخر، وتجربة بعد اخرى، ومحنة بعد محنة، سالكا طريقه نحو أعماق السياسة، فيجد الحل، ليس فقط في تقوية تياره وتمتين رجاله، وإنما أيضا بإشراك شركاء الأرض بهذه القوة والمتانة، وقد ساءه إغفال فئة وتهميش مكوّن، وهزّ مضجعه خبر العدوان على مقدسات بني دينه، فذبَّ عنهم كما ذبَّ عن مقدساته الشخصية، فتصاعد مقتدى الصدر بعفويته من أفق المكون المذهبي الى صعيد الأرض الوطنية، مُفتتحاً مرحلة المشترك الوطني مستعيداً دور فقهاء التأسيس الذين خططوا لعراق مدني برلماني مستقل منذ عام 1919 في رسالتهم الى الرئيس الأمريكي (ولسن) صاحب المبادئ الأربعة عشر.

صاعقة الانقسام

في عام 2006 وما تلاه، كان العراق إذا ذُكِرَ الصدر وأتباعه أمام أهل السنة، فكأنما ذُكِرَ لشيعة العراق اسم القاعدة وأتباعها، في أعقاب تفجير معمارية سامراء وما تبعها من انفراط اجتماعي.

في تلك الفترة أصدرْتُ بياناً تلاه عمار البغدادي بصوته الإذاعي، وبثته فضائية المستقلة في لندن، خاطبْتُ به سنّة العراق قائلاً (إنها موجة عاطفية وليست هجمة طائفية، وسرعان ما ستنخفض كلما مر الوقت على حدثٍ كان وقوعه فوق المعقول وفوق حدود ما تتسع صدور الناس الذين يرون المآذن والقباب الداخلة في التراث العالمي تتناثر تراباً على الأرض).

نظرية فولتير

قلتُ أيضا إن سنّة العراق سيكتشفون بعد حين أن التيار الصدري هو ليس فقط جيش المهدي، ولم أغفل الإشارة الى نظرية فولتير في الوصول الى السلم الأهلي بعد حربٍ أهلية، وهي عنده ستتوقف في اللحظة التي يصبح فيها أي طرفٍ يأمر بإطلاق النار هو المستهدف في أول رصاصة تضرب رأسه.

وهذه الفكرة يصعب استيعابها، وقد ردّ عليها من استمع إليّ كلما ردّدْتُها في مناسبة، وهي تعني أن مشعلي الحروب الأهلية ورؤساء المنظمات المسلحة قد يواصلون خياضهم في دماء الآخرين الى اللحظة التي يصبح فيها الطرفان مهددين بالإبادة، فترتفع غريزة البقاء وينعقدُ السلم.

وبالإشارة الى دور التيار الصدري بعد تفجيرات سامراء، يمكن وضع القاعدة التالية، إن القادر على المواجهة هو القادر على المصالحة، والصلح لا ينعقد بين مقاتل ومسالم، وإنما بين المقاتلين أنفسهم، وإن المواجهات هي التي ستنجب السلم الأهلي لاحقاً.

لا أدري كم من أتباع التيار الصدري من تابع فضائية المستقلة، وكم منهم من استمع لهذا البيان منذ أكثر من سبع سنوات.

في منتدى العبيكان

وفي منتدى العبيكان، أصحاب أكبر دار نشر ثقافي في المنطقة، طرحتُ في نيسان من العام 2013 ذات الفكرة، وأشرتُ أن التيار الصدري الذي يقع اسمه على أسماعكم وقع الرصاص هو من سيكون المشترك الوطني الذي تتفق عنده شيعة العراق وسنته، وسبب مراهنتي معرفتي بجذره التأسيسي القائم على رؤية عربية وطنية بزعامة دينية لاتستلهم العنوان الإيراني، ولم تأتِ من الخارج مع المحمولات الأمريكية، وبهذين الشرطين ينهض المشترك الوطني.

طريقة بادرماينهوف

المنظمة الثورية التي شكلها رجل وامرأة في ألمانيا وحملتْ اسميهما (بادرماينهوف)، رفضتْ النظرية التنظيمية على غرار الماركسية اللينينية القائمة على خلايا تراكمية وانضباط صارم، وهي الطريقة التي أخذت بها معظم الأحزاب والحركات الثورية.

ترى (بادرماينهوف) أن المجتمع هو المسؤول عن التغيير وليس فقط نخبة منه تأخذ لنفسها حق تمثيله بتنظيم يتعارض مع الإرادة الحرة، ويتحول المنتمي إلى (عنصر) ينحصر وجوده بتنفيذ الأوامر والإيعازات شبه العسكرية، وإن الحل عند هذه الطريقة تركُ الإنسان مع وعيه، والوعي هو الذي ينظم نفسه ويحدد مسؤولياته.

استهدفت بادرماينهوف إبعاد الإنسان عن فكرة التجنيد الايديولوجي وتوزيع المجتمع أو تقسيمه بالأحرى على خلايا متراكمة.

فإذا تابعنا التيار الصدري وهو بالتأكيد بعيد عن استلهام هذه النظرية، وقد لاتمر بادرماينهوف على بال بعض أتباعه، سنقع على حركة شعبية لاتعتمد فكرة الخلايا التنظيمية والتثقيف المركزي على ايديولوجيا معينة، ولا تقدم على تنظيم هرمي.

أي أن التيار الصدري من حيث لايقصد، قد دخل في تصنيف التنظيمات العالمية من باب بادرماينهوف، فالصدريون يشتركون بوعي سياسي عفوي، ولا يذهبون اسبوعياً الى حلقات حزبية، ويتحركون بمشتركات دينية وسياسية عامة وفقاً للمدركات الذاتية، ومدى استيعاب أي صدري للمشكلات الطارئة، فإذا استحال عليه فهمها عاد الى الأعلم القادر على الإجابة الصحيحة.

هذه الطريقة هي بلا شك أسلوب المرجعية، التي لاتميل الى التنظيم الحزبي وتوزيع الأتباع على خلايا، ومنها ذاتها طريقة المجلس الإسلامي الأعلى، سوى انه يعتمد على وجوه الأتباع المعروفين أكثر من اعتماده على شارعٍ سياسي عريض.

رسائل المحتجين على التيار

تقول رسائل تصلني باستمرار ومكالمات تلفونية من نساء ورجال : ان الصدريين سيعودون الى حمل السلاح ضد السنّة إذا ما تمكنوا من السلطة، وان خطابهم التصالحي مجرد محاولة لجذب الآخرين إليهم.

وأقول : مادام المجتمع العراقي منقسماً، فإن البيئة الناخبة للتيار الصدري هي شيعية وليست سنّية، فماذا يستفيد الصدريون من مجاملة سنّة العراق الذين لهم سنة مرشحون لاينتخبون سواهم؟

معنى هذا أن خطاب الصدريين يقع خارج دائرة الجذب الإنتخابي، فسنّة العراق يدركون مدى المخاطر التي قد تلحق بجماعة شيعية تتبنى مطالب المحتجين وتدعو لمشاركة فعلية، حتى بلغ بزعيم التيار الصدري أن يعلن عن مظلومية السنّة، فإذا كان هذا لايكفي لمد جسور الثقة فالنقص ليس في جهة الصدريين، بل في طرف يتلقى التحريض من أطراف متنافسة لاتريد للعراق أن يكون موحداً، ولا للسلم الأهلي أن يسود مدنه الحمراء.

المقاومة الشعبية والحرس القومي وجيش المهدي

طبيعة الناس أنها تتطير من رؤية السلاح على كتف المدني، وترتاح لرؤيته على أكتاف العسكريين جيشاً وشرطة، ولهم الحق، فالمدني ما حمل السلاح إلا وأساء استخدامه، ليس متعمداً في أحيانٍ كثيرة، بل لأن المدني المسلح لايخضع لسلسلة ضوابط تجعل العسكري هو الوحيد الذي يحمل السلاح وليس له حق استخدامه، فالأمر لايخرج من إرادته، وإنما يأتيه من هيئة القيادة العليا متدرجاً الى مواقع أدنى فأدنى، حتى يصل الإيعاز إليه بإطلاق النار !، والمدني حُرّ الإستخدام ! ولعل ذلك يفسر الحملات الشعبية التي تشهّر بالمنظمات المدنية المسلحة.

تحدث القوميون طويلاً عن موبقات تُنسب الى المقاومة الشعبية بعد ثورة 14 تموز عام 1958 وما تلاها للتشهير بالحزب الشيوعي العراقي ومحاولة تسقيطه، فصار ما كان يحكى عن قصص الإنفلات في ممالك الخان الفارسي والباشا التركي تعاد حكايته عن أفراد المقاومة الشعبية حقاً أم باطلاً، وفي أعقاب حركة 14 رمضان 1963 وظهور الحرس القومي الذي كان يطارد الشيوعيين ومن يشبههم، تحوّلتْ ذات القصص والحكايات الخاصة بالمقاومة الشعبية الى (أخبار ومعلومات) ضد أفراد الحرس القومي، من تعذيب السياسيين واغتصاب النساء وسرقة الكنوز..

إن ما سيتعرض له أتباع التيار الصدري لايخرج عن طبيعة ما كانت تتعرض له المقاومة الشعبية في الخمسينات والحرس القومي في الستينات، لاسيما بعد ظهور تشكيل صدري مسلح هو جيش المهدي، فاكتملت عناصر التناظر في الذهن الشعبي لتصنع قصصاً دونها ما كنا نرويه عن المقاومة الشعبية وما يرويه الشيوعيون عن الحرس القومي.

أما جهات التشهير بجيش المهدي، فهم جماعات تضررتْ الى حدٍّ كبير بردّة الفعل الشيعية بعد تفجير معمارية سامراء وانهيار ضريحي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري وسقوط مناراتهما..

وهناك خصمٌ شيعي سياسي للتيار الصدري، فإذ يعلن زعيم الصدريين اعتذاره لسنّة العراق عن أي ضرر لحق بهم، وإذ يجمّد نشاط جيش المهدي في تحولات كبيرة نحو مدنيّة النشاط السياسي، فإن الخصم الشيعي يواصل تحريض سنّة العراق ويذكّرهم بأيام القتال، لكي لايحدث اللقاء مع شيعة العراق الذين يمثلهم التيار الصدري بصورته الوطنية وسنة العراق في لحظتهم الحرجة.

أما مواجهات التيار الصدري، فأنا رجل مواجهةٍ أؤمن أن مَن يمتلك قدرة على المواجهة هو وحده من يمتلك القدرة على المصالحة، وهذه لا تتم بين الدراويش وإنما بين المقاتلين، وهناك قتال حدث، وهنا سلم يحدث، فلماذا أنت مع ماضي الموت ولستَ مع حاضر الحياة؟ لماذا تعيش في الصراع وتبتعد عن مرحلة جديدة يقودها الصدريون الشيعة لإقامة حُكمٍ مُشترك مع سنّة العراق يقوم على تكافؤ القوة وليس على الغدر والمكر والإيقاع، بطريقة الأحزاب والمنظمات الباطنية والسرية؟!

تيارٌ مِن تراب العراق

أحزاب وحركات ومنظمات الطبقة السياسية الحاكمة دخلتْ العراق مثل البيوت الجاهزة.. صُنِعتْ هناك ورُكِّبَتْ في العراق، سوى التيار الصدري الخارج من بطون العوز والقهر، مؤسسة ميدانية تعاونتْ على إقامتها ظروف الميدان واصطبغتْ بلون التراب العراقي.

هذه الحركة علامتها الفارقة ان مسقط رأسها العراق، ومساقِط رؤوس غيرها من الحركات والأحزاب مدنٌ خارجية عربية وأعجمية في شرقنا ومغربنا وعلى جنوبنا.

الحركة الصدرية رجالها ونساؤها مسلمون، لكنهم ليسوا إسلاميين، بسطاء تحت خط البساطة، فإذا أخذت الوجاهةُ أحدهم بعيداً عن بساط الأرض، سارعوا الى إعادته حيث كان.

أخطاء الأتباع

ولأن التيار الصدري ليس تنظيماً موزعاً على خلايا، والخلايا على درجات، فسيبدو مرهِقاً لإدارته الاولى تسييرُه على صورتها، ومع ذلك، فالمعروف عن الصدريين أنهم حتى الآن الأكثر تماسكاً والتزاماً !

وفي علوم المجتمع يقف الوعي المشترك بديلاً أنظف وأسلم وأكثر طواعية من نظرية التنظيم الهرمي ضابطاً حركة الناس.

ولأنه شعبي وبسيط وعام، فسيقع أتباعه بأخطاء بريئة أو مقصودة..ولأن مناخ العمل السياسي يشيع الخصومة، فالخصومة كفيلة بتكبير أخطاء الخصم ونفخها وتلوينها وإطلاقها في الهواء.

ولأن المجتمع في منعطفٍ كبير بعد الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والتيار الصدري حديث تجربة، فقد تراكمتْ إشكالاتٌ فوقه وحوله وأمامه، سيكون عسيراً تصريفُها بدون خسائر.

ولأنه وبدون مقدمات قد وجد نفسه متحولاً من مجموعةٍ مطارَدة مرصودة، الى جماعةٍ حاكمةٍ حرة، فتظهر على أداء أتباعه منعكساتُ هذا التحوّل في جانبيه السلبي والإيجابي.

ولأن جغرافيته في أعشاش الفقر المهجور، ومركز نشاطه يعتمد الناس – عامة الناس – ولا شروط له عليهم ماداموا على فطرتهم، فيتسلل عشرات ممن يفتقر الى الشروط السليمة فيدّعي الانتماء إليه، وقد تنتمي إليه فعلاً مجموعات تحمل أهدافاً ومسالك غير أهدافه، فتحدث ارتكاباتٌ تُنسب الى الصدريين حقاً أم باطلاً.

تيارٌ للناس لايشكو عُقد الايديولوجيا وأمراضها، ولا يعاني من خبث الدهاة وسرّيّة العمل.

أكتُبُ هذه السطور والناس يخوضون في نفايات الأمطار حتى الحزام، والسيول تدخل البيوتَ والأعشاشَ التي لاتفصلها أعتابُ الرخام.

من عاداتنا الشعبية سَفْحُ المياه خلْف المسافر !، فهل السماء تسفح المياه، وجماعة الفساد في الأرض هم المغادرون؟!