مقهى الملائكة – سعد عودة رسن
قطرات المطر تحولت إلى حصى صغيرة نزلت بكل سرعتها على رؤوس المارة الذين بدأوا يركضون في كل اتجاه ليحموا أنفسهم من غضب السماء، بعضهم دخل إلى المقهى الوحيد الذي ظهر فجأة في منتصف الشارع، لا شيء يدل من الخارج على كونهِ مقهى لكن بمجرد أن تدلف الى داخلهِ سترى مجموعة من التماثيل وهم يحركون أقداح الشاي بملاعق صغيرة مفضضة مرسوم عليها صور لملائكة عراة، نفس هذه الصور سنجدها على الأقداح وعلى أباريق الشاي لكنها تفاصيلها تبدو أكثر وضوحاً في اللوحة المعلقة على الحائط المقابل للباب الخارجي والتي ستقابل كل من سيدخل الى هناك، المكان في الصورة يشبهُ هذا المقهى بكل تفاصيلهِ، نفس الكنبات الخشبية القديمة المتآكلة، نفس الطباخ الغازي الذي يقع في الجانب الأيسر من باب الدخول، نفس الأباريق والأقداح، حتى الحيطان اكتست بنفس اللون، ما يختلف بين المكانيين هو عدم وجود لوحة على الحائط المقابل لباب الدخول وكل الجالسين على هذه الكنبات كانوا من الملائكة، بأجساد ناصعة البياض وبجناحيين حريريين وعيون ملونة، الملائكة الذين في اللوحة كانوا أيضا يحركون أقداح الشاي التي أمامهم بملاعق مفضضة لكنهم يبدون أكثر حيوية من التماثيل خارج اللوحة فمن الواضح أنهم يتجادلون في موضوع يبدو حاضراً وذي أهمية كبيرة، بعضهم كان يلوح بيده دلالة على عدم اقتناعهِ بما يقولهُ الأخرون، أحدهم كان عصبياً ويحاول أن يضرب المائدة الحديدية التي أمامهُ بقبضة يدهِ أما الملاك الذي
بجانبهِ فيحاول التمسك بقدح الشاي على المنضدة خوفاً من أن يندلق نتيجة هذه الضربة، اخرون كانوا يتهامسون بشكل فردي وكأنهم يتجنبون أن يسمع أحد الحاضرين حديثهم، الملاك الوحيد الذي يظهر في اللوحة بكامل جسدهِ كان يحاول أن يدفع الحساب لصاحب المقهى ويخرج لكن اللوحة لا تُظهر شكل صاحب المقهى وتكتفي بظل أسود يجلس خلف مائدة خشبية صغيرة بالقرب من مكان صنع الشاي الذي يقف بالقرب منهُ عامل المقهى وهو البشري الوحيد الذي يظهر في اللوحة بالرغم من أن الرائي لا يشاهد سوى الجهة الخلفية منهُ وهو يأتزر بقطعة قماش ملونة يشدها على بطنهِ، الذي يمعن النظر في اللوحة سيجد أن إلها ما غير واضح الملامح يطير في الجانب العلوي منها وكأنهُ كتلة من دخان أبيض تغطي الجانب الأيسر من اللوحة….
هكذا فهم الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من العمر هذا الدخان الأبيض، أعتبرهُ إلها ما، ربما إلها اسطوريا وربما حقيقيا لم يرسمهُ الرسام لكنه اختار أن يتواجد في اللوحة وفي هذا المكان بالتحديد، لأننا عادة لانفهم الإلهة ولا يمكننا تخيل أشكالهم فنكتفي بتصوريهم على أنهم ضوء خاطف عند المتدينين والعامة لكنهم عند الرؤيويين كانوا دخاناً ابيضاً يتشكل مع الزمن بأشكال مختلفة لا يمكننا تفسيرها أو فهم مغزاها، المهم أن اللوحة تُظهر حالة الإله في تلك اللحظة الزمنية….
ترك الشاب اللوحة وحاول الخروج من المقهى لكن السماء مازالت ترمي الناس بالحصى وهذا جعلهُ يعود ليجلس بالقرب من أحد التماثيل الذي ما زال يحرك قدح الشاي بملعقتهِ المفضضة…
كان يبدو رجلاً في منتصف الخمسينات، أسمر البشرة لكن عينيه يشعان بالذكاء والرؤية، التفت الشاب أليه وقال لهُ…
– سيبرد
– ما هو…أجاب التمثال
– الشاي
– لا تهتم…سيأتي يوما ما وأتمكن من ارتشافهِ
– ربما عندما تعودون الى اللوحة
– ربما…لا أعرف…كنا ملائكة هناك
– والآن
– لا شيء…اختفت أجنحتنا الحريرية وتحولنا الى…
– شياطين
– لا…عندما ينهون الملائكة عملهم لن يتحولوا الى شياطين…بل الى تماثيل…مجرد عدم آخر
– والشاي
– حلم بالعودة
– هل يمكن أن يحصل ذلك
– من يعرف كيف يفكر هذا الدخان الأبيض…
– أريد أن ادخل الى اللوحة….كما دخلت الى المقهى
– وماذا تفعل هناك
– أهرب…لقد تعبت من كوني أنساناً…أشعر دائما أنني داخل خطأ ما…كل ما أنا عليه يبدو ناقصاً وغير منطقي
– حسنا…هذا ما يجب أن تعرفهُ….الأمر كله يتعلق بالملل…المنطق يخلق الملل…مثلما ترى…ستتحول الى تمثال يحرك شاياً في مقهى خيالية…هذا ما تصبو إليه…أخرج الأن…اعتقد أن المطر توقف في الخارج…
يقف الشاب، يتأمل اللوحة يأخذ قطعة قماش مرمية على الأرض ويحاول إزالة الغبار عن سطحها، فتبدو أكثر وضوحاً، أجساد الملائكة تبدو أكثر بياضاً ويظهر وجه صاحب المقهى، كان رجلاً في الأربعينات من العمر يرتدي وشاحاً أخضراً ويبتسم للملاك الذي أمامهُ، العامل أدار جسدهُ بالكامل فاتضحت ملامحهُ، شاب في بداية العشرينات من العمر، أسمر البشرة يبدو عليه القصر وتلمع عيناه بضوء باهر وهما ينظران باتجاه اللوحة الذي اختفى منها الدخان الأبيض، يذهب الشاب نحو التمثال ويسألهُ
– لقد اختفى
أبتسم التمثال وقال لهُ…
– هو أصلا لم يكن في اللوحة…كان انعكاساً لروحك فقط…أخرج الآن وابحث عنه فيك…
يلتفت الشاب ويخرج من المقهى بينما غيرت السماء رأيها لتمطر نتفاً من الثلج الأبيض هذه المرة….