مقاه وشعراء – نصوص – عبدالرزاق عبد الواحد

ذكرياتي 68

 مقاه وشعراء – نصوص – عبدالرزاق عبد الواحد

(1)

كنت طالباً في الصف الأول من دار المعلمين العاليـة ، يوم ألقى الجواهري قصيدته الهائلة (أتعلم أم أنت لا تعلم)  في جامع (الحيدرخانة) كان ذلك عام 1947 .

حتى هذه اللحظة ما أزال أذكر كيف انقطع شارع الرشيد من ساحة الميدان حتى ساحة الرصافي .. وفوق الرؤوس المحتشدة في الشارع ، كانت مكبرات الصوت الممتدة الى الساحتين تنتظر .. وملء الشارع كان الناس ينتظرون .كنت ممن حالفهم الحظ ، فاستطاعوا الوصول الى الجامع في وقت مبكر .. إلا أنني حشرت بسبب الأزدحام الشديد خلف أحد الأعمدة في ساحته ، ولم أستطع رؤية الجواهري وهو يتهدّج منشداً ، لفرط ما التصقت الأجساد ببعضها . وكُتمت الأنفاس .. وبدأ طوفان صوت الجواهري :

 أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ

 بأنّ جراح الضحايا فمُ

منذ ذلك اليوم ، ولمنطقة (الحيدرخانة)  في نفسي جلال مبهم لم تخفف من هيمنته ألفة السنين الطويلة التي قضيتها بين مقاهيها بعد ذلك . الغريب أنّ هذه المنطقة انفردت من بين جميع أحياء بغداد ومحالّها بأن احتوت المقاهي الأربع أو الخمس ، التي كان يرتادها الشعراء والأدباء في تلك الأيام وأهم هذه المقاهي مقهى (حسن عجمي)  .

 هرم من السماورات اللماعة ، تمتد قاعدته على جانبي الموقد ، ثم يصعد متسلقاً حتى يكاد السماور الذي في قمته أن يلامس سقف المقهى . وأمام قاعدة هرم السماورات يمتد صفّ طويل من الأراجيل بألوانها المختلفة . وعلى مساحة مئة متر مربع تقريباً ، التي هي مساحة المقهى كلها ، تمتد التخوت بخطوط متوازية متقابلة ، وبينها يتحرك (شفتالو) صانع المقهى القزم ، حركته الدائبة التي لا تنقطع .

 لا أظنّ أن أحداً من أدباء بغداد لم يسمع بمقهى حسن عجمي ، أو لم يدفعه الفضول للجلوس فيها . إنها تذكرني دائماً بمقهى زقاق المدق في القاهرة ! . كما أظنهم جميعا ًيعرفون مقهى (الرشيد)  ، ومقهى(البرلمان) ، ومقهى (خليل)  ، على قلّة ارتياد أدباء الخمسينات لهذا الأخير .

 هذه المقاهي الأربع أو الخمس ، إذا أضفنا إليها مقهى (الزهاوي)  ، تقع جميعها في منطقة الحيدرخانة .. تقابلها (البرازيليتان)  ، مقهى البرازيلية الشتوي في شارع الرشيد بين  سيّد سلطان علي  ومحلة  المرَبْعة ومقهى البرازيلية الصيفي ، كما كان يسمى ، ويقع في الباب الشرقي. المقاهي الأربع الأولى كانت تلتقي فيها الغالبية العظمى من الشعراء : رشيد ياسين ، بدر السياب ، محمود البريكان ، أكرم الوتري ، وحسين مردان..ثم الجيل اللاحق من الشعراء : سعدي يوسف ، كاظم جواد ، محمد النقدي ، موسى النقدي ، رشدي العامل ، راضي مهدي السعيد ، زهير أحمد ، كاظم نعمة التميمي ، وعبدالرزاق عبدالواحد . أما البرازيليتان ، فكان يلتقي فيهما بلند الحيدري ، وعبدالوهاب البياتي ، والقاص عبدالملك نوري ، والروائي المعروف فؤاد التكرلي ، والأديب نهاد التكرلي . الوحيد الذي كان يتأرجح بين الجهتين هو بلند الحيدري الذي كان غالباً ما يُرى فيهما معاً في اليوم نفسه ! .

مقاهي الحيدرخانة كانت شعبية مكتظة ، كثيرة الحركة ، شديدة الضوضاء .. يتخلل لغطها صياح باعة الحَب ، والسميط ، والسكائر ، والصحف اليومية ..بينما تتمتع البرازيلية بالهدوء ، وبمسافات مريحة بين الجالسين ، وبإطلالة مترفعة على الرائحين والغادين في شارع الرشيد من خلف واجهة زجاجية شديدة اللمعان .

لم يكن الفرق بين المجوعتين فرقاً مظهرياً .. لقد كان فرقاً “طبقياً ” إذا جاز التعبير . لقد كان لكل فئة من هذه المقاهي سلوكها الخاص .. مثلاً أنت لا تستطيع أن تدخن الغليون في مقهى حسن عجمي دون أن يلتفت اليك باستغراب معظم الجالسين ! . وبنفس الدرجة ،لا تستطيع أن تدخن الأرجيلة في البرازيلية حتى لو جلبتها معك من البيت ! .. أما ثمن الجلوس في مقاهي الحيدرخانة فعشرون فلساً ، يقدم لك مقابلها شاي عراقي صميم ، باستكان مذهّب ! . بينما ثمن الدخول في البرازيلية خمسون فلساً .. تتناول مقابلها فنجاناً من القهوة التركية،او شاياً بالكوب على الطريقة الأوربية ! .

الوحيد الذي كان يشكل علامة فارقة في المقاهي الأربع الأول هو الشاعر أكرم الوتري الذي كان من عائلة شبه مرفهة ، ولكنه ، وربما لسبب شعري محض ، كان ملازماً لمقاهي الطبقة الفقيرة التي كانت تغص بالمفاجآت والأحداث المثيرة ، بقدر ما كانت تغص بالشعر الحقيقي ، وبالمحاولات الجادة لتطوير القصيدة العربية ، وإغنائها .

– ما كانت تفصل بين اعمار المجموعتين سوى سنتين او ثلاث سنوات .. ولكن تفصل بينهما أسبقية المجموعة الأولى في الحضور الشعري .

 * * *

 مقاه وشعراء

 (2)

من طريف ما كان يحدث في هذه المقاهي مثلاً ،أنّ عصبة الشعراء المتصعلكين ، كثيراً ما كانت تكتشف بعد تقاطرها على المقهى ، أن واحداً من أفرادها فقط يملك علبة سكائر ! . كان يفوّض أمره إلى الله ، ويضعها على المنضدة دون نقاش لكي يدخن الجميع ! ..وكان لابد من رقابة صارمة ، او أمانة صندوق على علبة السكائر، ولاسيما إذا احتدم النقاش ، لكي لا يُستغل الهيجان بالتجاوز على حقوق الآخرين في علبة السكائر.. حتى ولو من قبل صاحب العلبة نفسه ! .

كنا نجيء أنا ورشيد ياسين مع بعض غالباً .. وكنت آنذاك أشتغل في أوقات الفراغ عامل صياغة هنا وهناك ، فأكسب بعض ما أسد به حاجة أسرتي ، وأحاول غالباً أن أخبّئ لنفسي درهماً مما كسبت . نقبل أنا ورشيد على مقهى الرشيد .. إلى جوار المقهى يوجد فرن للصمون .. نشتري صمونة من الدرهم الوحيد الذي أملكه .. أدفع ثمنها ، عشرة فلوس ، محتفظاً بالأربعين فلساً الباقية ثمن جلوسنا في المقهى أنا ورشيد .. وكان يقوم هو باختيار الصمونة بنفسه ، حارّةً ، محمّصة .. والخباز ينظر اليه شزراً لكثرة ما يقلّب الصمون ، حتى اعتاد عليه ، فصار يضحك كلما رآه مقبلاً ، وقد هيّأ له صمونة على هواه .. يأخذها رشيد ، ويكسرها بإتقان .. ثلث الصمونة لي ، وثلثان له .. مبرّراً ، بعقلانية رصينة ، أن حجمه أكبر من حجمي ، فهو يحتاج إذن الى تغذية أكبر ! . نحتفظ بقطعة الصمون حتى ندخل المقهى ، ونطلب الشاي ..فيكون استكان الشاي ونصف الصمونة غداءنا ، وربما عشاءنا أيضاً لذلك اليوم ! .

اطرف ما كان يحدث لنا في هذه المقاهي ، وقد حدث ذلك مراراً ، أننا بعد أن نشرب الشاي ، ويستغرقنا الحديث ، نكتشف أننا جميعاً ليس معنا ولا فلس واحد ! .. وأن كل واحد منا كان معتمداً على جيوب الآخر .. وهنا تقع الطامة الكبرى . إن على واحد منا أن يبقى رهينة في المقهى إلى أن يعود واحد من المجموعة ومعه ثمن الشاي الذي شربناه ! . ولأنني كنت أضعف الناس ، وفي معيتهم .. فقد كنت أنا الرهينة غالباً ! . وحدث مرة أن خرجوا ، واعتمد كل واحد منهم على أن غيره سيعود حتماً .. ولم يعد أحد . وحين تأخر الوقت ، وأنا ألوب حرجاً وغيظاً ، التفت إليّ صاحب المقهى قائلاً :(أستاذ .. فات عليك الوكت ، تفضّل روح الله وياك ، والحساب على باجر أن شاء الله !) .

من خصائص هذه المقاهي أنك تستطيع قراءة جميع الصحف ، وبعض المجلات أحياناً ، بأربعة فلوس . ومن طرائفها أنه إذا احتدم النقاش بين الجماعة ، فبإمكان من يملك عشرة فلوس فائضة ، أن يسكت الجميع ! ، وذلك بأن ينادي أبا الحب ، فينـزل هذا طبقه، ويضع كمية من حب الرقّي ينشغل بها المتناقشون ناسين احتدامهم وخــــــلافاتهم ! .

للأمانة .. لم يكن الشعراء والأدباء وحدهم وجوه هذه المقاهي . لقد كان عدد كبير من ألمع الصحفيين ، والمحامين ، والمثقفين روّاداً دائميين لها . ما زلت أذكر أن الصحفي المعروف الأستاذ عبدالقادر البرّاك ، مرّ به زمن في أواسط الخمسينات ، كان كلما اشتغل في جريدة أغلقتها الحكومة بعد أيام، فكنا حين نراه في المقهى نسأله :” أستاذ عبدالقادر .. أي جريدة ستُغلَق قريباً ؟؟” .. فيقول :” والله بعد ما لكيت شغل !”

وفي هذه المقاهي كانت شخصيات طريفة .. لعل أكثرها طرافة شخصية (شفتالو)  -عامل مقهى حسن عجمي . وشفتالو قزم صغير ، كان آنذاك قد اشرف على الأربعين .. ينقل بيننا الجرائد .. يسعفنا بالماء .. يتحمل كل تعليقاتنا عليه .. حتى إذا تمادينا في مشاكسته ، ردّ علينا بسيل مما لا يمكن ذكره من الكلمات ، فإذا لم نتّعظ ، أرفقها بحركات لا توصف ! .

 ربما يتساءل بعض القراء : كيف لم يكن لمقهى (الزهاوي)  على شهرتها ، حيّز في حياتنا ؟ .

 في الحقيقة ، مقهى الزهاوي كانت ملتقى أدباء مخضرمين ، وشيوخ ثقافة مسنّين غالباً .. ولها سمت من الوقارتضيق به تمرّداتنا الشابة ! .. ثم أن صغر مساحتها ، ووقوعها على شارعين ، كان يثير في الانسان الإحساس بأنه جالس في وسط الشارع ! . لكل هذا لم نجد لدينا الرغبة يوماً من الأيام في الجلوس في مقهى الزهاوي ، مكتفين بخياراتنا الأربعة نتنقل بينها حيث اتسع لنا المكان!

قبل أن أختتم هذه الحلقة من ذكرياتي ، أروي للقارئ هذه الحادثة الطريفة التي حدثت لنا في مقهى الرشيد :

كنا مجموعة .. السياب ، رشيد ياسين ، اكرم الوتري ، حسين مردان ، وأنا ..وكنا نتحدث عن مجلة (الأديب) اللبنانية ، منتقدين انحياز صاحبها، ومزاجياته في النشر . فجأة خطرت لنا هذه الخاطرة الغريبة : أن نشترك جميعاً في كتابة قصيدة .. كل يقول بيتاً بالتعاقب ، مشروطاً بشرطين : أن لا يكون للبيت أي معنى ..وأن لا تكون له أية صلة بما سبقه ! بين الضحك والمزاح ، كتبنا قصيدة عجيبة ، اخترنا لها عنواناً طريفاً (أرجوحة القمر)  ..وابتكرنا لها شاعرة سجلناها باسمها ، وعلى ذمّتها : (سميرة العاني)  .. ثم أرسلنا القصيدة لوحدها ، وأرسل كل منا قصيدة من شعره الى المجلة .

الذي حدث كان في منتهى الطرافة . ظهر العدد اللاحق من مجلة (الأديب)  ، وقصيدة سميرة العاني تحتل صدر المجلة ، داخل إطار مزخرف جميل .. بينما نشرت قصائدنا جميعاً في آخر صفحات المجلة ، وبعضها مع بريد القراء !! .

-صحح لي رشيد ياسين ، وهو ذو ذاكرة فريدة ، أن (شفتالو)  كان يعمل في مقهى الرشيد لا في حسن عجمي ، ومكانة شفتالو في حياتنا تقتضي هذا التنويه !