مقاربات بنيوية

مقاربات بنيوية
البيت وشيجة بين الشعر والعمارة
د.نجاح هادي كبة
ما بين الشعر وفن العمارة علاقات شكلية وفكرية متماثلة على الرغم من ان العمارة أقرب الى الفن من الهندسة المعمارية والمدنية فالشعر كالعمارة كونه تعبيرا فنيا ــ جماليا ــ فكريا، يتسق فيه الشكل مع المضمون والشعر بناء جمالي بهندسة أسلوبية مبدعة، كذلك العمارة، وكلاهما له وظيفة متماثلة، إجتماعية ونفسية وبايلولوجية.. الخ وينتميان الى مدارس فنية واحدة، واقعية أو كلاسيكية أو تعبيرية أو رمزية.. الخ، واجزاء العمارة مصممة باسلوب وظيفي وجمالي، كذلك مفردات الشاعر اللغوية حينما لا تكون منتقاة فإنها تولد عدم الاستجابة الوجدانية والمعرفية لدى القارئ الناقد، ففي العمارة في أمكنة السكن البشري ينجم الحافز الداخلي من تصميم الغرف والموجودات فيها المحيطة بنا، فالكرسي، مع المنضدة، يحدّدان جلستنا وكذلك الأريكة التي نقرأ عليها مع مصدر ضوئي، على أنها موضوعة بصورة ملائمة أو غير ملائمة، قد تكون الأريكة مثلاً موضوعة في مكان يؤلّف علاقة يائسة مع نافذة فخمة فنضطر أن نمدّ أعناقنا بعيداً لنتمتع بالمنظر وراءها، إن مشكلات الموقع تتصل بعدد كبير من التجارب الحسيّة الأخرى للرؤية التي تهم وتوجّه لا عيوننا فحسب بل أجسامنا ايضاً i ، كذلك في الشعر حين يحدث التشكيل النحوي أو الصرفي أو البلاغي خللا غير جائز جماليّا أو معنويّا، شكليّا أو وظيفيّا، فإن القارئ الناقد يشيح بوجهه عنه، ويسّمى ذلك بالتعقيد، كقول الفرزدق في خال هشام
وما مثله في الناس إلا مملّكا
أبو أمه حي أبوه يقاربه
أي ليس في الناس شيء يقاربه الا مملّكا أبو أمه»أبوه ، فالشاعر قد أحدث في هذا البيت خللاً في البناء المعماري أثر في البيت كله بوصفه بنية.
رباط الكلام
ان استناد الشاعر الى محكات أو معايير قاعدية للغة تحكم القصيدة كالنحو والصرف والعروض والقافية يعني ان القصيدة مبنيّة على تفكير منطقي ــ سببي، وكذلك حين يستند الشاعر إلى استعمال ضروب من المجاز كالتشبيه والاستعارة يعنى ان القصيدة مبنية على تفكير فني جمالي فيه الخيال الجانح الذي يوسع فلسفة المعمار الفنية، فالقصيدة وفن العمارة يشتركان في التفكير المنطقي ــ السببي المتسلسل وهذان مما يجمعان الشعر وفن العمارة في ميدان واحد.
فالتفكير السببي والمنطقي والرياضي يعتمد المعالجة التسلسلية، لذلك فان المصمم المعياري مسيّر في خط متسلسل من الأفكار، مثلما هي سلسلة أفكار المتكلم بغرض الوصول الى القصد أو الفحوى أو كما نسميه رباط الكلام Conclusion ii وهذا التسلسل السببي لا يتوافر في القواعد النحوية والصرفية وفي العروض والقافية فحسب بل يتعداه الى الوحدة العضوية للقصيدة بحيث لو قدّمنا بيتاً على بيت حقه التأخير لأحدث خللا في الوحدة العضوية للقصيدة، شأن ذلك شأن المعمار حين لا يعتمد التسلسل السببي في التركيب المعماري، على الرغم من أن العمارة أقرب إلى الفن من الهندسة المعمارية والمدنية، ان التحام الشكل الفني بالمضمون إذ يكون احدهما دالا على الآخر ليؤديا مدلولاً معيناً، مما يجعل القصيدة توحي بالحقيقة من خلال الجمال فشكل التركيب الفني يوحي بالمعنى الجمالي للقصيدة، كذلك العمارة فان شكل التركيب الفني الجمالي يجب ان يتطابق مع الوظيفة الاجتماعية أو الموضوعية ويكون الدال مدلولا، والمدلول دالاً إلى ما لا نهاية، إن قدرة الشاعر على التحكم بالألوان والضوء والظلام وما يتوالد منها من انسجام او تداخل يشبه ذلك وظيفة المعمار حين يتحكم بالألوان والضوء والظلام في التركيب المعماري، ان مبالغة الشاعر في تزويق قصيدته بالزخارف اللفظية كالجناس والطباق والسجع مما يقلل من قيمة القصيدة، مثلما يقلّل من قيمة التركيب المعماري التزيين بالزخارف غير اللائقة، وقل عن ذلك باستعمال التكرار في الشعر أو في العمارة، ولم يعد الشعر بنية زمانية مقابل بنية مكانية ــ مرئية هي العمارة والرسم والنحت، ذلك لان الشعر لا يخلو من وصف للمكان، لذلك نرى في الشعر والعمارة امتزاج المكان بالزمان فكثير من البناء المعماري يتناص مع أزمنة قديمة واشكال تاريخية مثله مثل الشعر إذ فيه جانب تعاقبي متطور وجانب تزامني أي سكوني.
وهناك علاقة اخرى بين العمارة والشعر فلا تظهر الذكورية في الخطاب والممارسة السوسيولوجية ولا في الخطاب اللفظي فحسب، انما في تجليات العمارة المادية نفسها، إن علاقة أخرى بين الشعر والعمارة تظهر في الأماكن غير المتوقعة، خاصة في ما أسميه بالعمارة غير المثقفة والشعبية التي تتمادى في مخيالها الخاص أثناء البناء حتى إن شعرا سورياليا من نمط ما قد يظهر من العمارة، كما هو الحال في عمارة الجنوب التونسي قصور تطاوين’ iii ، إن الذكورية في العمارة تظهر فيما توحي به من قوة وتصالب تجاة المناطق الرخوة التي نطلق عليها بالأنثوية في التركيب المعماري، كما ان بعض الخيال الشعبي في الأساطير والعمارة مما يقرب الإنسان من السوريالية.
وتبقى القصيدة تشغل فضاء واسعاً كالعمارة بهندسة معمارية، كما ان في القصيدة طبقات اسلوبية كالابيات في القصيدة العامودية كذلك العمارة مركبة من طبقات بهندسة معمارية تتفرع كالقصيدة بوحدات كبرى وصغرى والشاعر كالمعمار يتعامل مع العوامل المادية، فإذا كان الشاعر يصف السهول والجبال والبحار… وجدانياً، فإن المعمار له ادواته المادية في عالم العمارة التي تلبي ليس الحاجات البيولوجية بل العاطفية والوجدانية وهذا مما يقرب بين الشاعر والمعمار فالضوء واللون وحجم الغرف وانواع المواد المستعملة قد يكون لها تأثيراتها البيئية في الاستجابة البدنية والنفسية للبيئة المعمارية، والمعماري يبدأ بالانسان الفرد ــ حجمه وحاجته للتعريف به كفرد، واستجابته للصوت والحركة في مجال محدود النشاط.. بوسع المعماري كالشاعر’ السعي لخلق البيئة التي ترضي اكثر ما ترضي حاجات الناس’… إلى إثارة انتباههم، هل هم بحاجة إلى التأثر إعجابا بالمغزى الاجتماعي ــ أو ربما السياسي ــ للبناء iv ، وقد تُرْسَم القصائد على شكل نباتات وأزهار وحيوانات مختلفة أو أشكال هندسية متعددة v وفي العمارة الحية إمكانية استعمال الوسائل الكامنة في الطريقة البيولوجية، الجمالية ــ مطابقة جمالية الاشكال في الطبيعة مع متطلبات الانسان الروحية ــ استعمل هذا المبدأ المعماري اليوغسلافي أندريه موتناكوش’ في تصميمه لفيلا على شكل زهرة الكميليا’ وفي هذا التصميم تفتح، وتغلق ألواح تسقيف الفيلا، بصورة اوتوماتيكية ــ شأنها شأن انغلاق وتفتح أوراق الزهرة vi ، والناقد عبد الجبار البصري جعل ميزة للشعر على العمارة، فيقول والبيت الشعري وان شبّه بالخباء الا أنه يختلف عنه فهو بناء متعدد الطوابق بشكل لم توصل إليه الهندسة الحديثة بعد، فهي لا تشبه طوابق أية عمارة، لأن بعضها لا يعلو البعض الآخر، ولا تشبه البناء المتعدد الأجنحة، لان الجناح فيه لا يتلو الجناح الآخر.
فالطابق الأول مؤلف من الألفاظ والعلاقات التي ترتبط بعضها بالبعض الآخر، وقد عاش في هذا الطابق العديد من المثقفين ورجال الفكر خلال العصور المختلفة، وبعضهم لم يغادره طيلة حياته، وانشغل بمتابعة الحروف كيف تجتمع وكيف تفترق مكونة كلمات مستعملة، وكلمات مهملة، وكلمات صحيحة وكلمات معتلة… وبين سكان هذا الطابق والمفردات الشعرية علاقات حميمة…
والطابق الثاني طابق النحاة وسكانه المنقسمون على أنفسهم بين مدرسة بصرية ومدرسة كوفية، وهم مشغولون بدراسة تراكيب الجملة…
والطابق الثالث من طوابق البيت الشعري طابق الصوتيات الحركات’ التي تبدو للعين صغيرة جدا وأحياناً لا تكتب على الألفاظ فلا ترى ولكنها تلفظ… والطابق الرابع من طوابق البيت الشعري هو طابق المحسنات البديعية… ولكننا حين ندرس ما يسمى بالمحسنات البديعية نجدها خليطاً من الظواهر النحوية والقيم الفكرية والفلسفية والقضايا المنطقية والقواعد النقدية والمسائل اللفظية ذات الصلة بموسيقى الشعر.. vii ، ولابد من الاشارة الى ان هذا التفصيل للبيت الشعري يذكرنا بمقولة عن فن العمارة وجهت الى المعماري ميس عن حسه الدقيق بالتناسب وعنايته الفائقة بكل تفصيل مهما بدا غير ذي شأن viii .
إن مصطلح بيت حين يستعمل في العمارة أو في الشعر يعني وجود اكثر من وشيجة بين الشعر وفن العمارة لأن البيت الشعري مأخوذ من الخباء وهو سكن شعبي للعرب في باديتهم، استعير الى عالم الشعر، الذي ابدعوه والقباب هي استعارة من القبة السماوية للجوامع أيضا، ولابد من الاشارة الى أن فن العمارة كالشعر هو فن تغيير الواقع، كتب اوسكار نيماير’ في كتابه العمارة والمجتمع’ ان العمارة التي نريدها، عليها ان تعمق روح الإلهام عند الشعب… وتحقق أحلامه ix ، ان مثل هذه العبارة تحمل للناس شعور الثقة في الامكانات الخلاقة والمغيرة الكامنة فيها.. وتوحي للنضال نحو مستقبل مشرق x ، فللبيئة أثر كبير في تربية الإنسان سواء أكانت بيئة طبيعية أم غير طبيعية وهي وراء انتاج الشعر والفنون بما فيها من العمارة، وتأثيرهما في يقظة المجتمع وتطويره وتحريك وعيه ولا وعيه، ولعل مما يعمق روح الإلهام في دور العمارة الإفادة من التطور العلمي للبشرية، العلم في تطوير الفن، فقد انتفعت الفنون من علم الهندسة كما في فن الرسم التكعيبي وفن العمارة والنحت، بل صارت وظيفة العلم والفن متداخلتين ومنسجمتين في حدود لا نهائية، وهذا مما يؤكد الوحدة الكلية للفنون والعلوم، فأحدهما لا ينفصل عن الآخر في استيعاب الحقائق وتمثيلها جماليا، مما يؤدي إلى التقدم والازدهار، لاحظ ذلك في وصف البحتري في وصف قصر الكامل
ذعر الحمام وقد ترنم فوقه
رفعت لمنحرف الرياح سموكه
وكأن حيطان الزجاج بجوّه
وكأن تفويف الرخام إذا التقى
حبك الغمام رصفن بين منمر
لبست من الذهب الصقيل سقوفه
من منظر خطر المزلة هائل
وزهت عجائب حسنه المتخايل
لجج يمجن على جنوب سواحل
تأليفه بالمنظر المتقابل
ومسيّر ومقارب ومشاكل
نوراً يضيء على الظلام الحافل
ولعل أروع بيتين هنا ما قاله البحتري حين وصف عمارة هذا القصر وصفا عماريّاً حديثا قوله
وكأن حيطان الزجاج بجوّه
لجج يمجن على جنوب سواحل
فقد قارب البحتري بالتشاكل بين جمال حيطان الزجاج التي تزجزج هذا القصر وجمال كثافة الماء على سواحل البحار، وفي قوله
وكأن تفويف الرخام إذا التقى
تأليفه بالمنظر المتقابل
فقد برز البحتري ترصيع الرخام بأشكال متوازية ومتقابلة وهو يغلف جدران هذا القصر، وهذا ما يرسم لنا الوحدة الفنية من خلال الوحدة في التضاد قد يعرّف التقابل أو التضاد بأنه علاقة بين شيئين متطرفين، انه تعبير عن الاختلافات، وهذا التعريف، هو نفسه، يشير إلى الوحدة في التضاد xi ، إن أبسط أشكال التوازن يتحقق بمضاعفة القوى الفاعلة على جانب واحد على الجانب الآخر من نقطة الارتكاز xii ، لذلك فان التماثل والتشابه لا يخلق الصدمة لدى القارئ في الشعر أو الفن، فنلاحظ في أبيات البحتري الوحدة في التضاد والوحدة في التشاكل والتماثل معا في عمارة هذا القصر.
AZP09

مشاركة