مغارة علي بابا الأسوأ من ووترغيت

مغارة علي بابا الأسوأ من ووترغيت

عبد الحسين شعبان

لماذا تلتجئ دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة وثقلها المادي والمعنوي، إلى تقنيّة السجون السرّية، على الرغم من كلّ ما في تلك الممارسات من انتهاكات فظّة وسافرة لقيم حقوق الإنسان التي تستمر في رفع راية الدفاع عنها؟

الأمر يذكّر بفضيحة ووترغيت وهي وإنْ كانت فضيحة سياسية من العيار الثقيل تخص الرئيس نيكسون في التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي، الاّ أن فضيحة السجون السرّية هي فضيحة أمريكا كلّها في العالم أجمع. وهذه تتعلق بصدقية واشنطن وسياساتها وعلاقاتها الخارجية.

ولهذا السبب كانت الإدارة الأمريكية شديدة الحرص على إضفاء السرّية المطلقة على سلوكها غير الشرعي وغير القانوني لأنها تدرك التبعات القانونية والأخلاقية، لتلك الأعمال، ففي حين تزعم أنها تمثل قيم العالم الحر والرفاه والحريات والحقوق الإنسانية وتحملها إلى العالم أجمع، وإذا بها تقوم بممارسات تعود إلى العصور الوسطى، ولهذا السبب نستطيع أن نتفهّم لماذا كانت واشنطن تريد إضفاء السرية التامة على أفعالها تلك، وذلك كي لا تبدو متناقضة و” ملفقة”، خصوصاً إذا ما انكشفت!.

لم يكن “المُعادون” لأمريكا هم من كشف حقيقة السجون السرّية والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، بل كان الإعلام الأمريكي الحرّ الذي لعب دوراً طليعياً في فضح تلك الممارسات اللاإنسانية، وإزالة الستار عن ماساة حقيقية، حيث تعرّض بسببها أكثر من 9 آلاف معتقل للاختفاء القسري، ناهيكم عن أنواع مختلفة من التعذيب النفسي بشكل خاص، إضافة إلى التعذيب الجسدي أيضاً.

من الناحية القانونية لا يوجد أي تفويض قضائي من الجهات الرسمية الأمريكية،  بحيث يسمح لوزارة الدفاع “البنتاغون”، أو لوكالة المخابرات المركزية الـCIA، باحتجاز أو إخفاء أو خطف شخص ما أجنبي قسرياً أو القيام بنقله وإيداعه لدى دولة ثانية أو التحقيق معه، ولا شكّ أن القضاء الأمريكي مثله مثل الإعلام، يحظى بنوع من الصدقية لا يمكن نكرانها، خصوصاً فيما يتعلق بالتعارض مع المثل العليا للحقوق والحريات والقيم الإنسانية، التي يعتز بها “المواطن” الأمريكي.

كانت صحيفة واشنطن بوست هي من كشفت فضيحة ووترغيت، ومرّة أخرى هي التي تفضح حقيقة السجون السرّية، ولعلّ الكاتب المعروف، وخصوصاً في العالم العربي، سيمون هيرتش هو من كان وراء الرحلات السرّية، بالتعاون مع مجلة نيوزويك الأمريكية، إضافة  إلى الصحيفة نفسها، صاحبة فضيحة ووتر غيت.

وإذا حاولنا استذكار ما حصل من أساليب لاستجواب المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب أو لسجناء غوانتانامو أو قلعة جانكي، فإن بعض التبريرات التي قيلت في حينها كانت فضيحة أخلاقية وقانونية بكل معنى الكلمة، ولاسيّما تلك التي نُسبت إلى تعليمات عليا بجواز استخدام بعض الأساليب غير المسموح بها لانتزاع الاعترافات، وكان وقع الفضيحة كبيراً ومجلجلاً عند انكشاف السجون السرّية الطائرة، في بولونيا ورومانيا، لإيداع معتقلين خطرين من تنظيمات القاعدة كما قيل، يضاف إلى ذلك انكشاف حقيقة السجون السرّية العائمة، وسط البحر في بواخر وسفن خاصة، خارج نطاق الرقابة الدولية، وهو ما يذكّر بالعصر الفيكتوري في انكلترا حسب مؤسسة ريبريف المهتمة بقضايا المحاكمات العادلة.

وكانت واشنطن قد تعهّدت في العام 2009 على لسان مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، ليون بانيتا، بإغلاق شبكتها العالمية للسجون السرّية وعدم لجوئها بعد اليوم إلى مؤسسات اعتقال سرّية أو مواقع سوداء، وبإلغاء تفويض تلك المواقع المتبقية، وذلك في بداية عهد الرئيس أوباما التي وعد هو شخصياً بإغلاق سجن غوانتانامو، لكن  استمرار الحملة الدولية الموسومة ” الحرب على الإرهاب”، ووجود معتقلين خطرين، هو الذي كان وراء السرّية المطلقة التي استمرت من جانب الـ CIA في إخفاء هذه الحقائق، حيث لا تزال تشرف على غرف استخبارات لدول أجنبية وتقوم الوكالة بإدارتها مباشرة أو بالتعاون مع الجهات المضيّفة، وبعض هؤلاء المعتقلين لا يزال محتجزاً!!

وعلى الرغم من أن المعتقلين في غوانتانامو وأفغانستان والعراق قد تلقّوا زيارات من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الاّ أن بعضهم اختفى تماماً، كما يفصح عن ذلك مسؤولون أمريكان في الأجهزة الأمريكية المعنية، كما تم ذكره في تقرير للجنة مجلس الشيوخ الأمريكي عن الانتهاكات المرتكبة في السجون السرّية.

وإذا كان هذا قد أصبح جزءًا من “الماضي” بمرور نحو عشر سنوات وإنْ كان لا يسقط بالتقادم باعتباره جريمة ضد الإنسانية، لكن الجزء الآخر والأهم منه ظلّ مستمراً، فقد أقدمت وكالة المخابرات المركزية في مطلع العام 2013 إلى إعادة تحريك مسألة السجون السرية، حيث اختطف شخصان وأودعا في سجن سرّي في بولونيا. وتشير التقارير إلى أن هناك تباطؤاً قصدياً في تأخير التحقيق معهما حيث يحتجزان بصورة غير مشروعة ولا قانونية، وهو ما عبّر عنه محامي الدفاع ميكولاي بيترزال، عن المواطن السعودي عبد الرحيم الناشري وزميله الفلسطيني المدعو أبو زبيدة.

وفي الحكاية جانب آخر يكشفه البولونيون حين يقولون أن القضاء مستقل في بلادهم وأن المحققين يبذلون قصارى جهدهم لجمع الأدلة، لكن التباطؤ يعود إلى المسؤولين الأمريكان، الذين يرفضون تقديم المعلومات والبيانات الكافية، وهم يعتبرون ذلك تباطؤاً متعمّداً، وهو ما دعا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لتقديم مطالعة عن حالات الاختفاء القسري بين العام 2002 والعام 2003، إضافة إلى تعريض الكثير من الحالات للتعذيب بما فيها ” الإيهام بالغرق” في عدد من الدول الأوربية.

وقد كشف الخلاف بين لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ الأمريكي، وبين وكالة المخابرات المركزية، بخصوص وسيلة التعذيب الجديدة “الإيهام بالغرق” الذي استخدمته الأخيرة لاستجواب المُشتبه بهم، وخصوصاً في فترة الرئيس جورج دبليو بوش، عن حجم التعارض بين الجهتين، وقد نشرت وكالة رويترز شيئاً من هذا التقرير المعروف “بمغارة علي بابا” المعلوماتية والمتعلق بالسجون السرية.

التقرير المحاط بالسرية والمنشورة فقرات منه يتألف من عدّة آلاف من الصفحات، كان برئاسة لجنة للسيناتورة الديمقراطية ” ديان فنستاين”، والذي يؤشر للحقبة المكارثية  الجديدة، وهذه المرّة ليست ضد النخب والجماعات الثقافية اليسارية، بل ضد شعوب ودول بعنوان مكافحة الإرهاب الدولي، وكان تسريب وثائق ويكيليكس من قبل جوليان أسانج، الذي لا يزال مخـــتفياً في سفارة الإكوادور في لندن، قد ضرب السرّية الأمريكية بالصميم، وجاء بعدها حادث التنصت على الهاتف النقّال للمستشارة الألمانية انجيــــــلا ميركل وعدد من الرؤســاء لتثير فضيحة أخرى.

ويقول الباحث أنتوني جورجي إن تقرير فنستاين يقترب من تقرير لجنة وارين الخاصة باغتيال كنيدي العام 1963، حيث ما زالت الخيوط متشابكة ومتداخلة، ولا يرجّح أن يظهر إلى العلن كل ما فيه بسبب الحرص على الأمن القومي الأمريكي، ولكن في كلا الأحوال سيبقى الصراع قائماً بين موضوع الأمن والحرية، والأمن والكرامة، والأمن واحترام حقوق الإنسان.

الإقرار الذي قدّمه مدير المخابرات المركزية العام 2009 بانيتا بإغلاق شبكة السجون السرية العالمية لم يصمد أمام الحقيقة، ففي شهر تشرين الأول (اكتوبر) العام 2013 بادرت الولايات المتحدة للسباحة بنفس البركة الآسنة، حين أقدمت على خطف ” أبو أنس” الليبي، وهو أحد قادة تنظيمات القاعدة كما تردّد حينها، وكانت واشنطن قد وضعــــــت منذ العام 2000 خمسة ملايين دولار مكافأة لرأسه. وقد أعاد الاختفاء القسري لأبو أنس الليبي الملف الحقوقي للمختفين قسرياً وللسجون السرية الطائرة والعائمة في الولايات المتحدة وحلفائها بغض النظر عما ارتكبه بعض هؤلاء من أعمال إرهابية، وذلك لأن السياسة الخارجية الأمريكية التي تقوم على مكافحة الإرهاب كمهمة عاجلة، أخذت تبرّر كل شيء، من استخدام طائرات بدون طيار، كما يحصل في الباكستان واليمن وغيرها، واختطاف أشخاص وتغييبهم كما حصل في ليبيا ونقلهم إلى سجون سرّية، ناهيكم عن غزو بلدان واحتلالها، كما حصل لأفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003.

{باحث ومفكر عربي