قصة قصيرة
معاتبة بين قبرين – نصوص – مزهر جبر الساعدي
جمل من سطرين ,ضمن سرد القصة التي كتبتها باولينا، زوجة أوغسطين، كتبتها تحت عنوان (يوميات). ربطتني بتلك العالئلة الامريكية, التشيلية الأصل، صداقة، ربما أملتها ظروف الغربة لكلينا، أستمرت لسنوات حتى بعد عودتي إلى بلدي بعد الغزو الأمريكي بشهر.
السطرين من القصة، كتبتها باولينا من ذاكرتها الحية، لأنها كتبتها بعد أكثر من عقدين من وقوعها…ترجمتها أنا، بناءً على طلب باولينا مني، نشرتها جريدة الزمان قبل أيام.
كتبت، أتذكر:ـ سيفيروا صديق زوجي قال آنذاك:ـ ******** الأمر الآخر والذي عرقل وصولنا الى المشفى، الأرتال العسكرية الضخمة والتي تتقدم على الطريق العام إلى البصرة، حدثت الحالة أثناء الهجوم، في النهاية لم نتمكن من أسعافه، مات في الطريق…
هذان السطران أحزنانني وأصابانني بوخز شديد في روحي، الحرب فك مفترس لوحش لا يشبع أبداً.
في تلك الأيام كنت في البصرة، قريب من حافات الهجوم، أستمر دون توقف لأكثر من ثلاثة أشهر . أتذكر ما كنت فيه:ـ رابض لأكثر من ثلاثة أشهر أمام شاشة الرادار، لبطارية الصواريخ المضادة للطائرات، هناك، وراء شط العرب، في بحيرة الأسماك ونهر جاسم،دارت معارك شرسة جداً، أشرس معارك حرب الثماني سنوات.
تأخذني الألآم والحسرات، بعيداً عن لحظتي هذه، أين هم؟! لا أحد منهم يجيئ ، راحوا إلى العتمة الأبدية، أحذوا معهم الى الدهاليز المظلمة، الأماني ولحظات الفرح المؤملة، صرت مثل طائر في ظلمة السماء، أبحث عن الذين ضاعوا مني، أين هم؟!
سعيد أين أنت الآن ، لمت نفسي لأني أعرف:- حولته الحرب الى أِشلاء، آلهي إلى أين نمشي، أرحمنا ودلنا على الطريق الصحيح، أسعفنا يا رب. على مقربة من زجاج نافذة الصالة، تحت نور المصباح، المعلق فوق الشباك من الخارج، طائر يرفرف بجناحيه, حف زجاج النافذة وأبتعد، ثم هبط قريباً من نور العمود القريب من المقبرة، لم يمكث طويلاً، حام ثواني، راح بعدها، إلى هناك ، الى سدرة المقبرة، حميد أخو سعيد، كعادته في الليل ، يجلس تحت السدرة، على بعد أمتار من قبر أخيه، هما الحارسان الوحيدان في المقبرة، الآخر لا أعرف من هو، أبصرهما من مكاني ، عبر النافذة، تحت أنوار المقبرة، الآخر يسير بمحاذاة سياج المقبرة الواطئ جداً ، لا يرى حتى من بعد أمتار قليلة، البندقية على كتفه، مجيد أتأمله عن بعد، أتخيله يحادث أخاه، يرد الوحشة عنه،. لم يبق إلا القليل من الأصحاب، رحمة الصدفة،أبعدتهم عن الجب العميق الغور, قطار الموت، توقف على بعد بوصة منهم، صياح صم الآذان ، من أي مكان؟… من داخل القطار:ـ لا أحد يصعد ,القطار أمتلأ بالجنود.
أنتظروا، بعد دقائق يأتي قطار آخر،. صدق الصوت الصارخ في الفضاء ، جاء القطار التالي، تقلص عدد الأصحاب إلى درجة مخيفة ومرعبة. القطار الثاني، تحرك ,في البدء ببطء شديد، نبهنا إليه، أحتكاك عجلات الحديد على السكة , في بداية الدوران، كان الصوت ضعيفاً، عندما تسارع الدوران، دوت في الأنحاء، أصوات تثير الرعب حوله، قبل أنطلاقه بسرعة، كنت خلف جهاد وعمر، بأعلى صوتي صرخت فيهم، منع الدوي والأنفجارات، صوتي من الوصول إليهم، مع أن المسافة بيني وبينهم أقل من ربع متر، في اللحظة التالية مقدمة القطار من جهة اليمين صدمت عمر، تشظت يده اليمنى، هزني وألمني ما رأيت، لم أكن بعيداً، كنت على مسافة أقل من ربع متر، دلتني في اللحظة التالية، عيوني على جهاد، مسافة عقله اصبع, تفصله عن بوابة القاطرة الثانية المسرعة، هم بالصعود، صرخت عليه، أبتعد، قبل أن يدخل صوتي إليه، ضربته القاطرة في ظهره، رأيته يسقط على حوافي السكة. شعرت ببروده في الخدين من وجهي، مسحت دمعي. لماذا يا عمر؟! ليلتان وأنت غائب ، في أي مكان أنت الآن يا صديقي، مئات المرات أتصل بك، أحاول لمرة العشرين بعد المائة يؤلمني الجواب :-لا يمكن الأتصال بالرقم الذي طلبته، يمزقني القلق والخوف عليه، أأخسر ما تبقى مني، مصيبة كبيرة، الهواجس داخلي، ترعبني الى درجة كبيرة، خائف عليه من قطارات الليل الجديدة ، حتماً ,غداً أذهب إليه ، منعتني من الذهاب أمي، جاءتني البارحة، ندهتني، أيقظتني من نومي ، قالت:ـ شهر ولم تزرني يا بني، أشتقت إليك، تعال بسرعة، أنتظرك لا تتأخر.
وصلت في الصباح، الى مقبرة السلام، في المقبرة القديمة، بركت على ركبتي بين القبرين، قبر أمي وقبر أبي. في الحقيقة ,قبل ذهابي إلى المقبرة، طفت حول ضريح الأمام علي (ع).
تموضعت بين القبرين وأخذت أقرأ سورة يــس .
- نواح وندب على مقربة مني ومبعدة، ثمة صوت شجي، يرتل بصوت عالِ ، سورة يـــس:(***** لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ7 إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُون8 وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُون9 وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون10 إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ 11************** )
أستمر يرتل، طاف الصوت حولي, ومن ثم عبر أذاني، دخل روحي، خظني من أعماقي، رفعني بعيداً عني ، صعدت مع النغم الترتيلي الى السديم، تركت جسدي في الأرض، أسفل مني ، بين القبور، لم أرَ أي قبر. دخلت في درب مضيء ، من أي مكان يأتي الضوء ، لم ألحظ مصدرالضوء
رغم تحديقي الشديد. هي جزء من الثانية وسمعت أمي تناديني:ـ ضمير أقترب مني، أنا هنا بالقرب منك مع قاسم محمد رضا، أبوك، وزوجي، قبلتني في جبيني ، أبي أخذني في حظنه، أمك تلومني، تسرق مني راحتي، أبني قل لها:ـ لاتعاتبني بعد الآن ، أن تدعني أستريح,
هنا في الأبدية، يا أمي:- كفي عن أبي، أجابتني :ـ نحن مرتاحون مع بعضنا، هي فقط معاتبة الحب والعتاب ، لكن يا بني أبوك قليل الصبر، في الحياة لم يصبر عليَّ، سنتان فقط ومل الأنتظار، تزوج أخرى، لماذا؟ سألتها، قالت:ـ لأني غير ولود، أبوك نعتني بهذه الصفة، أذن من أي أم أنا ، لا تفهمني بالخطأ، بعد شهرين من زواجه، حملت بك ، طلقها عندما علم بحملي، أخطأ وأصلح الخطأ، المشكلة في الظلم، رحلت المرأة، لم نعلم عنها أي شيئاً، حتى هو لا يعرف مكان وجودها، أختفت مثل فص ملح وذاب…هاتفي الذي وضعته قبل حين على المنضدة الصغيرة على بعد أقل من متر مني, غضبي دفعني على أبعاده عني ,أسمعني:-
مَوطِني!
موْطِني!
اْلجَلالُ وَالْجَمالُ وَالسَّناءُ وَالبَهاءُ
في رُباكْ
وَالحياةُ وَالنّجاةُ وَالهَناءُ وَالرَّجاءُ
في هواكْ
هلْ أراك سالماً مُنَعَّماً
وغانماً مُكَرَّمـاً
هَلْ أراك في عُــلاكْ
تَبْلُــغُ السِّماكْ
مَوْطِني!
مَوْطِني!
قبل أن أفتح الخط، واجهني أٍسم المتصل، أمامي وسط بريق الشاشة الصغيرة، عمر ، أفرحني الأتصال، رفع هم القلق عني.
ــ أهلاً عمر، أقلقتني، أخبرني، هل أنت بخير؟
في أي مكان أنت؟
منذ ساعات وأنا أتصل بك، يخبرونني:ـ الرقم الذي طلبته لا يمكن الاتصال به حالياً، تكلم، تنفسك مرتفع، تصلني خشخشة وأهتزازات أوتارصوتك
ــ قتل أخي يا ضمير…
ــ ماذا؟…
ــ قتل أخي في الطريق بين كركوك وبغداد، قبل ناحية العظيم بمسافة أقل من كيلومترين ، عند عودته من كركوك، من زيارة لأهل زوجته، معه زوجته وأبنه الوحيد…
ــ هل أنت الأن في بعقوبة
ــ رجعت قبل ساعة الى بغداد, الآن أنا في بيتي…. ثم أنغلق الخط…. حاولت الأتصال مرة أخرى، واصلت مرات ، الخط خارج الخدمة…
عبر النافذة المفتوحة على المقبرة، رحلت عيوني الى هناك, من غير أرادة مني، إلى المقبرة غير المسورة، السور ، البناء فيه من سنين، لم يزد أرتفاعه عن شبرين…
من تحت نور المصباح المعلق في نهاية العمود الثابت في الرصيف المحاذي للمقبرة ، رفرف طائران بجاحيهما لثواني ، ثم حلقا إلى الأعلى,في سماء ليل المقبرة.



















