مصر قبل عبد الناصر وبعده

 

 

 

 

الذكرى 68 لثورة 23 يوليو

مصر قبل عبد الناصر وبعده

حسن عاتي الطائي

كانت مصر قبل قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 التي أطاحت بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بالنظام الملكي الرجعي الفاسد وبسلالة محمد علي باشا الذي حكم مصر مابين 1805/1845 دولة ضعيفة محتلة منذ العام 1882 من قبل الإستعمار البريطاني مسلوبة الإرادة السياسية والإقتصادية ،شعبها منهك فقير يخيم عليه البؤس والجهل والظلم ،يعاني من القمع والإضطهاد والإستغلال في ظل إحتلال أجنبي غاشم ظالم ،وسيطرة طبقة سياسية مصلحية متخلفة متواطئة معه وعميلة له وعصابة مستغلة مجرمة مؤلفة من الإقطاعيين وسماسرة السياسة وشرذمة من الأجانب والمتمصرين يهيمنون على مفاصل الحياة اليومية وشتى مرافق الدولة ويستغلون مصادر طاقتها وقوتها ويحلبون خيراتها وينهبون ثرواتها ما شاء لهم الأستغلال والنهب في وقت كانت فيه الغالبية العظمى من المصريين يعيشون في أدنى درجات الفقر والحاجة والإنحطاط وكأنهم “دون مبالغة”ليسوا بشرا لهم الحق في أن يعيشوا إحرارا يتمتعون بحياة حرة كريمة..

سنوات طويلة

وبحسب ما يؤكده الكاتب والصحفي الأمريكي المعروف”ولتون وين ” الذي عاش لسنوات طويلة في مصر قبل الثورة وبعدها ورأى عن قرب ما يعانيه الشعب المصري من حرمان وعذاب وحياة مزرية تكاد لا تصدق والذي كتب عن عبد الناصر وثورته كتابه الشهير”ناصر العرب..البحث عن الكرامة” الصادر في العام 1959 فإنك(لو سرت في القاهرة منذ سنوات “قبل الثورة” لما رأيت الكثير من الدلائل على أن مصر بلد عربي أسلامي، فالإعلانات وإشارات المرور كانت مكتوبة بالفرنسية أو الإيطالية أو الإنگليزية أو اليونانية ونادرا ما تسمع اللغة العربية،وحتى هندسة البناء كانت أوربية،ويوم العطلة في المنطقة التجارية كانت الأحد بدلا من الجمعة..وفي الجامعات كانت الكتب والمحاضرات بالإنگليزية أو الفرنسية أو الألمانية أما العربية فكانت لغة الخدم والجهلة..وفي تلك الأيام كنت تستطيع أن ترتكب جريمة قتل وتنجو من العقاب شرط أن تكون أوربيا أو تحمل الجنسية الأوربية..كان أسوأ شيء أن تحمل الجنسية المصرية،ونظام الإمتيازات الذي كان يتمتع به الأوربيون يعني أن الغربيين لا يخضعون للقانون المصري ولا يحاكمون أمام المحاكم المصرية ولا يدفعون الضرائب، وهذه الحصانة للأجنبي شجعته على أن يهرب السموم الى مصر ويبيعها تحت سمع السلطات وبصرها على أنها أدوية دون أن يخشى شيئا..والجنسية الأوربية فوق ذلك كانت تحمي حاملها من المنافسة التجارية أو المهنية،وكان واضحا أن طريق النجاح في مصر هو أن لا تكون مصريا..وبالنسبة للأسرة الحاكمة فقد كانت أوربية وليست شرقية،كان أفرادها يتكلمون الفرنسية أو الإيطالية أو التركية أو الأنگليزية،وكان القلائل منهم يعرفون العربية لغة البلد الذي يحكمون،وحتى في أيام الملك فاروق كانت الأميرات يتلقين الدروس باللغة العربية التي كانت تبدو غريبة عنهم كاللغة الصينية ..وعلى دين الملوك سارت طبقة الملاكين وأصبحت الفرنسية لغة الصالونات، وكانت السيدات يتباهين بجهلهن للعربية.. لم يكن عند هؤلاء أي شعور نحو الرجل الذي يمسك بالمحراث والذي يؤمن لهم أسباب الترف بعرق جبينه،فحالة الفلاح المصري بالرغم من كل هذا الثراء لم تتبدل إطلاقا، فقد كان هم مالك الأرض أن يعصره ويعصره لينتزع كل قطرة منه ثم يحيل إليه جباة الضرائب ليجلدوه وينتزعوا منه كل شيء..ص16/19..) وكما يقول الدكتور إسماعيل صبري عبد الله الوزير السابق والخبير الأقتصادي المعروف (فإن السيطرة الإستعمارية لم تكن إحتلالا عسكريا فقط بل إن الثمانين ألف جندي بريطاني بمصر كانوا في الواقع يحرسون عملية إستغلال إقتصادي بشع يتولاها الإستعمار العالمي..كان النظام المصرفي بأكمله إبتداءا من البنك المركزي”البنك الأهلي”حتى أصغر بنوك الرهونات تحت سيطرة رأس المال الأجنبي. وحتى بنك مصر نجح الإستعمار مستعينا بالحكومة في أن يقصي عنه القيادات الوطنية ويفرض عليه قيادة متعاونة مع الإستعمار ويربط نشاطه برأس المال الإستعماري، وكان كل نشاط التأمين في مصر بيد وكالات أجنبية أو فروع لها أو شركات مصرية إسما يسيطر عليها الأجانب في الواقع ..وإلى هذا فإن التجارة الخارجية كانت حكرا على الأجانب وقلة من المصريين تدور في فلكهم،فأهم الصادرات وهو القطن حوالي 85% منه بيد بيوت التصدير الأجنبية التي كانت تسيطر في الوقت نفسه على المحالج والمكابس..كانت التجارة الخارجية تمثل في ذلك الوقت 50% من الدخل القومي، ومعنى ذلك أن نصف الدخل القومي لا تؤثر فيه يد وطنية ولا سياسة وطنية،..أما مصادر الطاقة وهي أساس التصنيع وتطوير الزراعة فقد كانت هي الأخرى بيد الأجانب، فإستخراج النفط إحتكار لشركة شل وأستيراد النفط ومنتجاته وتوزيعها بيد شركة النفط العالمية أو فروعها،ومحطات الكهرباء الحرارية الهامة فقد كانت بيد شركات فرنسية أو بلجيكية، وكان للمصالح الإستعمارية الوزن الأكبر في قطاع النقل، فقناة السويس دولة داخل الدولة وشركات النقل البحري والنهري يسيطر عليها الأجانب، والنقل العام بالقاهرة تملكه شركة بلجيكية،وكان الجزء الأكبر من الصناعة”رغم نموها المحدود”بيد الأجانب والمتمصرون وحتى صناعة النسيج المصرية دخلت مرحلة التعاون مع رأس المال الأجنبي الذي كان يسيطر على منتجات الصناعة المصرية وعلى المحلات التجاربة الكبرى في البلاد..ص101/102من مقال بعنوان”ثورة يوليو والتنمية المستقلة”/مجلة المستقبل العربي/العدد89 لسنة1986)..ويضيف قائلا (كانت السلطة الحاكمة لا تهتم بصحة المواطن ولا بتعليمه ،فقد كان عدد الأطباء في جميع أنحاء البلاد لا يتجاوز”5668″طبيبا وكانت غالبية الأسرة والأطباء في القاهرة والإسكندرية،أما سكان الريف فأقصى ما كانوا يطمحون إليه هو وجود مستشفى متواضع في عواصم المديريات،أما التعليم فقد حكمته لعشرات السنين سياسة”دنلوب” الشهيرة القائمة على تعليم العدد المحدود اللازم لتزويد الحكومة بالموظفين،ولم يزد عدد تلاميذ المدارس الإبتدائية عن”7500″تلمبذ لكل مئة ألف مواطن، أما عدد تلاميذ المدارس الثانوية الفنية فلم يزد عن “1160”تلميذا لكل مئة ألف مواطن،أما التعليم العالي فكان الوصول إليه مقتصرا على أبناء أغنى أسر الطبقات الوسطى ولذلك لم يزد عدد الطلاب فيه عن “189”طالبا لكل مئة ألف مواطن، أما الخدمات الإجتماعية فكانت مقتصرة على بعض الإعانات للجمعيات الخيرية،ولم تكن الدولة تعير الثقافة أدنى إهتمام.. تلك كانت صورة مصر عشية الثورة ..ص105/106)..بعد الثورة تغير كل شيء ..فلقد أعادت ثورة يوليو/تموز مصر لأبنائها وأزاحت عن وجهها الجميل ظلام الليل الثقيل الذي هيمن على وادي النيل لمئات طويلة من السنين وإستردت بعد أن طردت المحتلين وأزالت الزمرة السياسية الفاسدة التي نصبها المستعمرون وتخلصت من طبقة الإقطاع وقوى الإستغلال الأجنبي والداخلي للمصريين كرامتهم وحريتهم وحقوقهم وإستقلالهم وثرواتهم وإرادتهم الحرة المستقلة وثقتهم بإنفسهم وحققت لهم مكاسب ومنجزات كبرى كانت بمثابة أحلام غير قابلة للتحقيق كتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين من خلال قانون الإصلاح الزراعي الذي حررهم من عبودية الأقطاع وإستغلاله البشع وإزالة الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع وتحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة وتحرير المرأة من الظلم الإجتماعي الذي كانت تتعرض له خلال سنوات الإستبداد ونيل الطبقة العاملةلحقوقها الضائعة وإجلاء قوى الإحتلال الإنگليزي عن أرض النيل ومجانية التعليم والتأمين الصحي والإجتماعي والمستشفيات والوحدات الصحية والمدارس والجامعات في كل مدينة وقرية ووصول الكهرباء والماء النظيف الى كل قربة من قرى مصر وإقامة أكبر قاعدة صناعية في الوطن العربي والعالم الثالث تجسدت في بناء أكثر من 1200مصنعا في مختلف أوجه الصناعة مما كان دعامة قوية لنهضة إقتصادية كبرى شهدتها مصر أصبح فيها الإقتصاد المصري أقوى من إقتصاد كوريا الجنوببة بشهادة الخبراء والمختصين في الأمم المتحدة إضافة لبناء أكثر من أحد عشر ألف مسجدا لتكون أكثر من عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الفتح العربي الإسلامي لها وإفتتاح إذاعة خاصة بالقران الكريم وتوزيع ملايين النسخ منه في القارة الأفريقية وشتى أرجاء العالم ثم جمعه مجودا ومرتلا بأصوات أفضل وأشهر القراء ليكون عبد الناصر بذلك أول حاكم مسلم يقوم بجمعه مرتلا منذ أن تم جمعه لأول مرة في عهد الخلافة الراشدة.

تدريس العلوم

الى جانب تطوير الأزهر الذي أصبحت تدرس فيه العلوم  والطب والهندسة الى جانب العلوم الدينية ثم بدأ التحول نحو الإشتراكية بمفهومها الناصري الذي لا يتعارض مع الثوابت الإسلامية والقيم العربية وبناء السد العالي الذي وصف بإنه أعظم بناء هندسي في القرن العشرين وغيرها الكثير، ثم لتصبح مصر بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي غدا بطلا قوميا وزعيما لا ينازع للأمة العرببة خلال سنوات الكفاح اللاهبة التي تم فيها مواجهة مثلث الشر/الإمبريالي/الصهيوني/الرجعي/ في كل مكان من الوطن العربي وعلى مستوى العالم الثالث وفي شتى أنحاء العالم وخاصة بعد تأميم قناة السويس والتصدي البطولي للعدوان الثلاثي الغادر عام 1956والوقوف بوجه الأحلاف الإستعمارية كحلف بغداد ومن ثم إقامة أول دولة وحدوية في التاريخ العربي الحديث بين قطرين عربيين هما “مصر وسوريا” هي (الجمهورية العربية المتحدة)وحمل عبد الناصر لراية الوحدة والقومية العربية قاعدة شامخة لنضال الأمة العربية وشعوب العالم  من أجل نيل حريتها وإستقلالها دولة قوية مرهوبة الجانب لها كلمتها المسموعة ومكانتها المؤثرة في ميدان السياسة الدولية..إن أمتنا العربية الباسلة وهي تمر بأدق وأعقد وأصعب مراحلها التاريخية بسبب ما تتعرض له من هجمة آرهابية تكفيرية بربرية وهيمنة القوى الأجنبية على قرارها السياسي والإقتصادي  وتسلط حكومات وأنظمة مستبدة معادية لتطلعات وآمال الجماهير الشعبية لا بد لها وهي أمة مكافحة مناضلة تأبى الخنوع والإستسلام لقوى الإرهاب والشر والظلام والإستبداد وترفض الإحتلال والهيمنة الإستعمارية على مقدراتها ومصيرها وتتطلع لإسترداد حريتها ومكانتها وكرامتها وحقها الطبيعي في الحياة الحرة الكريمة أن تلملم تبعثرها وتضمد جراحها النازفة وتعيد تنظيم صفوفها وتحشد طاقاتها مســـــــترشدة بمبادئ ثورة يوليو القومية التقدمية التي تحتفل الجماهير الشعبية العربية وطلائعها وقــــــــــــــواها الثورية الحية هذه الأيام بذكرى قيامها الثامنة والستون وبتعاليم وأفكار القائد المعلم جمال عبد الناصر ومشروعه الوحدوي الحضاري النهضوي لتتخلص مما هي من ضعف وإحباط وتشتت وتجزئة وتتمكن من إعادة تشكيل وصياغة مستقبلها الجديد الذي ينتظرها و من بناء دولتها العربية الديمقراطية الواحدة،دولة حقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة الأجتماعية..

مشاركة