مشاهدات وتأمّلات ومنغّصات

معرض إيطاليا الدولي للكتاب مشاهدات وتأمّلات ومنغّصات مروان ياسين الدليمي الموصل فجأة وجدت نفسي في إيطاليا،بعد انتظار طويل لم تخبو فيه جذوة الحلم في الوصول إلى تلك العبقرية في النصب والتماثيل الحجرية وهي تقف شامخة في كنائس ومعابد وساحات رحبة منذ مئات السنين،بينما كانت أعمارنا تضيق علينا،وكادت أن تنطفئ أكثر من مرة على سواتر ومحطات مرتقة باوجاع البلاد.. ربع قرن من الزمان قضيتها خلف أسوار وطن مسيج بالضيم والصمت،كنت فيها شبه محتجز،يتأبطني النسيان في شحوب شرفاته،أنا وبقية العراقيين،من فقراء وجنود ونساء ودعن الأنوثة بأنتظار الأزواج الغائبين، واطفال لايعرفون معنى الطفولة ولاشكلها،في بلد حرثته حروب مهلكة متلاحقة، وحصار دولي ظالم عند موائده الفارغة،تعثرت أعمارنا 13 عاما. إيطاليا بلاد تتنهد سحرا،وتنثال من سمائها رائحة الماضي ورداعلى شوارعها ،وعلى جدران بيوتها،وظلال أزقتها..أيام كنت طالبا في المرحلة الاعدادية ،حلمت بالوصول إليها،وأن أدرس المسرح في جامعاتها..وصلت إليها مساء 8/5 /2014 مدعوا من قبل مؤسسة دار الحكمة،التي يقع مقرها في وسط مدينة تورينو شمال ايطاليا،ويرأسها الروائي العراقي الموصلي د.يونس صديق،جاءت الدعوة بعد مضي اكثر من 25 عاما على آخر رحلة سياحية قمت بها إلى خارج العراق عام 79 ! . ليس سهلا على أي عراقي أن يحصل على تاشيرة السفر الى ايطاليا أو اي بلد أوربي،ليس سهلا أن تكون إنسانا في نظر العالم ، ليس سهلا أن يكون لك حكاية جميلة،فالعراقي،شاء قدره أن يكون مشتبها به،أن يكون خارطة للنوائب والنكبات،أن يكون غريبا أينما حطت به الرحال،سواء في وطنه أم خارج وطنه. .لذا لن تأسرنا الدهشة ولايشغلنا الاستغراب،طالما وصل الحال بنا،في أن يكون جواز السفر العراقي أسفل قائمة الجوازات الاكثر سوءا في العالم،بحسب دليل …Henley & Partnersî للقيود الموضوعة على التأشيرات للعام 2013 بعد أن احتلت دولة أفغانستان تصنيف الدولة الأكثر سوء في ما يخص جوازات السفر بسبب مشكلات منع الحصول على التأشيرات،وجاء العراق في المركز الثاني ثم الصومال وباكستان والأراضي الفلسطينية وايريتريا والنبال والسودان وسيريلانكا ولبنان !.وعليه لم نستطع أن نحصل على التأشيرة ونحن نراجع القنصلية الايطالية في اربيل حتى يوم 6 / 5 / 2014 أي قبل يومين من موعد الجلسة التي كانت قد خصصتها إدارة المعرض وذلك في يوم افتتاحه الخميس 8 / 5 / 2014 رغم أننا كنا قد تقدمنا بطلب الحصول على التأشيرة مع كافة المستمسكات الرسمية الخاصة بالدعوة الموجه لنا منذ يوم 1 / 3 / 2014 ! علما بأن الدعوة سبق أن جاءتنا في العام الماضي،ولأننا لم نستطع الحصول على التأشيرة،تم الغاء مشاركتنا،بعد أن كنا قد بذلنا جهدا شاقا في مراجعات ومتابعات وطول انتظار،لكن اصرار رئيس دار الحكمة د. يونس صديق على حضورنا أوصلنا إلى عتبة النجاح في اقتناص التأشيرة هذا العام،ومما زاد من غبطتنا أن مدير المعرض “أرنستوفيريرا” الذي يعد واحدا من أهم كتاب إيطاليا المعاصرين،أبدى تفهما كبيرا بعد معرفته بالظروف الصعبة التي تواجه المثقفين العراقيين عندما تصلهم دعوات من الخارج،وهذا مادفعه لأن يؤجل موعد جلستنا إلى يوم 10 / 5 لكي لانحرم من فرصة التواجد في هذا المحفل الدولي الكبير،وبلاشك يقف العراقي الاصيل د. يونس صديق،خلف هذا التفهم لوضعنا من قبل مدير المعرض. بعد أن حطت بنا الطائرة في مطار تورينو في تمام الساعة السادسة مساء وقفنا في طابور طويل أمام مكتب زجاجي لختم الجوازات بتأشيرة الدخول، ولما وصلنا الى نافذة المكتب أنا وزميلي القاص هيثم بردى، طال وقوفنا أمام النافذة التي يقبع خلفها الضابط المسؤول،ونحن نتلقى سيلا من الاسئلة والاستفسارات حول الغاية من وجودنا، وأسم صاحب الدعوة، عنوانه، عمله ،وأسم الجهة التي ترعى مشاركتنا، وووو ……أسئلة كثيرة كنا نجيب عليها ونحن خائفون من أن يتم منعنا من الدخول في اللحظة الأخيرة،لنعود خائبين من حيث أتينا..وبعد مضي أكثر من ساعة ونحن على هذا الحال،وجدنا أنفسنا وحدنا في الصالة ! ! بعد أن غادر جميع المسافرين الذين كانوا معنا على نفس الطائرة،ومعظمهم من جنسيات مختلفة:من الهند،وبنغلادش،وتركيا، وايران والمانيا. جلسنا متعبين على مسطبة خشبية،وفي داخلنا قلق شديد،ونحن ننتظر نتيجة ماستتمخض عنه اتصالات ومداولات كنا نسمعها تدور بين الضباط في غرفة صغيرة مخصصة لشرطة جوازت المطار،وبعد مضي أكثر من نصف ساعة،خرج الينا ضابطان،أحدهما شاب وسيم بلحية كثة،أشار لنا بالنهوض والتوجه نحوه،وماأن أصبحنا أمامه،سلمنا جوازينا،واشار لنا مرحبا بدخولنا ايطاليا،حينها شعرنا بالراحة،وانزاح في لحظة خاطفة قلق وتوترلازمنا طيلة فترة انتظارنا،عندها إمتلكت شجاعة،عادة ما أجدها تقف معي في لحظات مثل هذه أكون فيها في موقف واضح وقوي،فطلبت من الضابط الملتحي بأن يسمح لنا بأستعمال هاتفه الشخصي لكي نتصل بصديقنا د. يونس صديق فنعلمه بوصولنا،فأستجاب مرحبا..وجاءني صوت يونس عبر الهاتف،مؤكدا لي بأنه يقف في صالة الاستقبال ينتظرنا منذ أكثر من ساعة،فما كان منا إلا أن نقدم الشكر للضابطين ..نظر نحوي الضابط الملتحي.. وقال لي بهدوء : ” شالوم ” ! !.. لم تستفزني هذه الكلمة أبدا،بل على العكس،كنت في حالة طبيعية من المشاعر،هي أقرب إلى الأرتياح منها إلى الدهشة،كما أن هذه المفردة جعلتني في غنى عن التفكير لوقت طويل لمعرفة هوية قائلها، فما كان مني إلا أن أجبته وأنا أرسم على وجهي ابتسامة،ماكانت أبدا مفتعلة:”شالوم،ورحمة الله وبركاته ” . كان اللقاء حميميا جدا بالصديق العزيز د. يونس صديق في صالة الانتظار، فهذا الرجل الموصلي،لم يتغير طبعه رغم مرور35 عاما على وجوده في ايطاليا،وبقي على خصاله :عفويا،بسيطا،متدفق المشاعر،كما عرفته قبل أكثر من اربعين عاما،أيام كنا طلابا في إعدادية عمر بن الخطاب في مدينة الموصل . يونس صديق كان في يوما،وقبل مغادرته العراق لأكمال دراسته في ايطاليا عام 79 من أبرز الشعراء الشباب في العراق، وفاز بجائزة افضل شاعر في مهرجان وزارة التربية الذي تقيمه الوزارةسنويا..لم يلبس يونس قناع الوقار،زيفا وادعاء واستعلا كما يفعل كثيرون غيره،مع أنهم لم يحققوا شيئا مهما في ديار الغربة،بينما استطاع هو أن ينجز الكثير الكثير لذاته وللبلاد التي جاء منها،بما يجعلنا نشعر بالفخر لوجوده هناك،فكانت له نجاحات مهنية وثقافية كبيرة،يستحق بموجبها أن يكون خير سفير للعرب وللمسلمين عموما، فبالأضافة الى كونه يدرس الأدب المقارن في جامعة جنوا،كان قد أصدر كتبا ودراسات وروايات باللغة الايطالية،نال عن بعضها أهم الجوائز الاوربية،ففي عام 1999 أصدرت له إحدى أكبر دور النشر الإيطالية وتدعى بومبياني رواية عنوانها “الغريبة ” حازت على اكثر من عشرة جوائز أدبية ،أهمها جائزة “كرينزاني كافور” Grinzane Cavour عام 2000 كأحسن عمل روائي أول صادر باللغة الإيطالية، وتم تحويلها إلى فلم سينمائي،ويذكر بهذا الصدد،بأن الكاتب المصري علاء الأسواني هو ألآخر فاز بهذه الجائزة عام 2006 . صديق،خلال وجوده في ايطاليا،ونتيجة حضوره الفاعل في المشهد الثقافي الايطالي،بات واحدا من أهم الاسماء الأجنبية التي تكتب باللغة الايطالية.وقد تلمسنا ذلك عن قرب،عندما دخلنا في اليوم التالي من وصولنا الى مبنى معرض الكتاب،فما أن حطت بنا أرجلنا على أرض المعرض حتى وجدناه يتلقى عبارات الترحيب والاحتفاء من قبل الكتاب والناشرين الايطاليين،وهكذا كان الحال أيضا مع الطاقم المسؤول عن جناح المملكة العربية السعودية، وهو البلد العربي الوحيد المشارك في المعرض..كم كان شعورنا مفعما بالغبطة والفخر عندما وجدنا واحدا من أبناء جلدتنا ووطننا يحظى بهذا الاستقبال وهذه الحفاوة،التي لاتليق إلا بالكبار،وقد عكست تلك المظاهر صلة الألفة والصدق التي حرص هذا العراقي الاصيل على زرعها في اوساط المجتمع الايطالي وأوساط الجاليات العربية معتمداعلى ثقافته واعتداله في رؤية ومعالجة المواقف التي تواجه الجالية العربية في ايطاليا إلى الحد الذي تم انتخابه في منتصف تسعينيات القرن الماضي كمرشح للإنتخابات البلدية بمدينة تورينو ليترأس اللأئحة المدنية تحت لواء وسط اليسار،وكان هو آخر من يعلم بهذا الاختيار الذي وقع عليه من قبل كامبارينوشخصيا،عمدة مدينة تورينو،لأن يونس وحسب تعبيرالعمدة نفسه :” شخصية تتضمن عبر تاريخها الشخصي،رسالة قوية لما ستكون عليه تورينو المستقبل،ولأنه إلتزم بالحوار الثقافي بين الديانات وكان ومازال مع اندماج المهاجرين،وله من السمات الضرورية لتمثيل مدينة متفتحة ومتعددة الجنسيات “.وبذلك استطاع أن يكون نقطة التقاء وحوار عقلاني معتدل تجمع مابين الشرق والغرب. المعرض أقيم على أرض المبنى القديم لشركة فيات لصناعة السيارات،وهو مبنى واسع جدا،تم إجراء الكثير من التعديلات عليه ليبدو في أجمل صورة وليستوعب العشرات من دور النشر الاوربية،اضافة الى العديد من القاعات التي خصصت لعقد الندوات وحفلات توقيع الكتب،والحوارات المباشرة التي عادة ماتتم بين الكتاب والجمهور. الأهم في هذا المعرض هي النسبة العالية من مشاركة الاطفال وطلاب المدراس،الذين كانوا يتواجدون مع معلميهم ومدرسيهم،فبالأضافة إلى شرائهم للكتب،كانت هنالك لقاءات كثيرة طيلة ايام المعرض تجري بينهم وبين عدد من الكتاب المعروفين،للحديث حول افكارهم وتجاربهم في الحياة. في يوم السبت 10 / 5 وفي تمام الساعة الثامنة والنصف مساء،كنا على المنصة في القاعة الزرقاء،وهي إحدى قاعات المعرض الكبرى المخصصة لعقد الندوات،أنا والقاص هيثم بردى والشاعر العراقي المغترب جبار ياسين،وبعد أن قدمنا باللغة الايطالية مدير الجلسة د. يونس صديق إلى جمهور الحاضرين، بدأنا طرح افكارنا واحدا بعد الآخر خلال العشرين دقيقة المخصصة لكل واحد منا،كل حسب رؤيته وتجربته تماشيا والتزاما مع عنوان الندوة: “حرية الرأي والتعبير،وحقوق الانسان في عراق مابعد العام 2003” . .كنت أرى ملامح الصدمة والأستغراب تعلو وجوه الحاضرين،بعد أن أستعنت بحدثين مهمين كانا قد وقعا في العراق خلال الاشهر الاخيرة من هذا العام 2014،للدلالة على أن حرية الرأي في العراق تقف على أرض هشة قابلة للكسر والانهيار في أية لحظة،وذلك عندما استعرضت خلفية الاحداث التي سبقت موت فنان الكاريكاتير أحمد الربيعي بعد أن فر هاربا من العاصمة بغداد الى اربيل خوفا من الميليشيات الطائفية التي كانت قد هددته بالقتل،لأنه رسم تخطيطا لرجل دين،فيه شبه كبير بمسؤول يشغل منصبا مهما في النظام الايراني،كذلك أوردت مثلا آخر يتعلق بمذكرة القاء القبض التي كان قد أصدرها القضاء العراقي بحق الكاتب الصحفي سرمد الطائي بعد أن رفعت دعوى ضده من قبل رئيس الوزراء العراقي شخصيا،بسبب مقالاته التي تتناول بالنقد والتشريح سياسات الحكومة وعادة ماتتسم كتاباته بجرأة التحليل والتشخيص.ايضا طرح القاص هيثم بردى افكاره التي تتعلق بجهوده التوثيقية لأرشفة النتاج القصصي السرياني منذ البواكير الأولى لظهور هذا الفن في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين ،أما الشاعر جبار ياسين الذي قدم رؤيته التي توصل إليها عبر متابعات وقراءات للمشهد العراقي أتت عن بعد،وهي تعكس في حقيقتها نظرة مثقف عراقي يساري عاش طيلة اربعين عاما في المنفى،بعيدا عن وطنه العراق،ولم يخف هواجسه وقلقه ــ رغم تفاؤله ــ حول التجربة الديموقراطية في العراق.وبذلك كشفت الندوة عن وجهتي نظر تنتميان إلى تجربتين مختلفتين،إلا أنهما تلتقيان في هاجس الخوف من القادم،الأولى نمثلها نحن الذين لم نغادرا العراق طيلة 40 عاما،أنا وهيثم بردى،والثانية يمثلها جبار ياسين الذي كان بعيدا عن العراق طيلة 40 عاما. لم تكن الصورة واضحة عن تجربة النظام السياسي الجديد في العراق لدى اغلب من حضر الندوة،وهذا مالمسناه من خلال الاحاديث الجانبية التي جرت بيننا وبينهم بعد الانتهاء منها،وهذا على مايبدو حال الكثير ممن يعيش خارج العراق سواء من العرب أم الاجانب. بلاشك،الاعلام العراقي غير الرسمي،هو من الضعف بما يجعله غير قادر على إيصال مايجري من حقائق وانتهاكات ترتكبها السلطة بحق مواطنيها في الداخل،هذا اضافة إلى أن الاعلام الرسمي نفسه يمارس دورا تظليليا عبر العديد من القنوات الاعلامية التي جند لها عشرات الاقلام والألسنة التي لاتتردد في الكذب والتزييف.