محسن الخفاجي.. صانع أحلامٍ ضاقت به الأمكنة
علي شبيب ورد
( أنا أحب الغرب، ليس لأنه يرتدي الخوذة ويذهب بعيدا إلى بلدان، يريد أن يؤسس فيها ديمقراطية هيمنغتون. بل لأن همنغواي ووالت ويتمان وشارون ستون وجون أبدايك وماكليش ومارلين مورنو، يبعثون فيَّ شهوةً، لأكون أكثر سعادة من صاحب مطحنة أو ناطحة سحاب. ولهذا كل حياتي، هي طوفان في حلم، وعدا هذا، قد لا أعرف شيئا غير صحبة الكتاب والترجمة والبيضة المسلوقة. )
– من رسالة المعتقل (محسن الخفاجي) إلى الرئيس بوش الابن –
تعالوا ندفع البلاد.. لتنخلع من جذورها..
كي يخرج الموتى.. ويكشفوا المهزلة..
كلنا راحلون.. أنا وأنت وهو والآخرون..
وكل راحل يقول: أنا مُتُّ فعلاً.. فلا تحزن على موتيَ خلي، ولا تذرفْ دموعا على فقدي، فجميعنا ورق الزمانِ، وضيوف الأمكنة. وإذا ما اشتقتَ لي حقّاً، هلمَّ إلى التراب. وإن لم تستطعْ، فلا تذرف دموعاً كاذبة.
إني أرى الموتى ضيوفاً في العماء، الكلّ منشغلٌ بما أعطاهُ في الماضي، فلا زيفَ ولا سيفَ يهددهم، ولا هم يُخدعون. وأراهُمُ عُتَماً تُوَلِّدُ ضوءها، بمخاضِ نقضٍ، لتعودَ ثانيةً إلى دنيا الرِّياء، تلك التي يختالُ فيها مارقٌ، بقناعِ وجدٍ، وطقسِ حفاوةٍ، وعّرى ولاء.
الراحلُ
صديق لصيق لنا.. لا يمكن أن يغادر أحاديث جلساتنا لفترة طويلة. فتراه يلوح بلا استئذان متربعا عرش لقاءاتنا، يعطرها بعبق مزيج من الشجن والمرح والتندر.
ومع أنه غادرنا فجأة، لكنَّهُ ترك روحه ونصوصه معنا. كي يخلد متوهجا لأجيالٍ قادمة..
لذا لن نذرف دمعا على رحيله.. بل سنفتح سجل وجده وتوهجه ورؤاه..
عرفناه كاتبا مبدعا وصديقا لطيفا مرحا. ومؤلفا بارعا لأغرب وأندر الحكايات وبشتى ألوانها، تلك التي تخطر أو لا تخطر على بال . ينسجها بقدرة عجيبة تسحر المتلقي وتشدّه لمعرفة نهاياتها، التي غالبا ما تنتهي إلى الضحك. وبعضها إلى الإيهام، أجل إيهام الآخر بحكاية مفترضة، ما إن تمرّ أيّام حتى تتبيّنُ أنها نسج خياله الخصب. فتثير في الوسط الثقافي مشاعر متباينة من ردود الأفعال, وغالبا ما تفضي إلى السخرية والمرح.
هكذا كان دائما.. ودودا مرحا, مبتكرا لحوادث تنعش الأمل والفرح لدى صحبه، على الرغم من أهوال الهموم المعرّشة في جسده الناحل.
ما يملكه ليس له. لا يفكر إلاّ بالعيش بهدوء وانشغال بالكتابة. الكتابة التي بذل لها كل حياته البائسة. هو حالم كبير، وكاتب محترف لكنه أعزل إلاّ من طيبته وإرثه الإبداعي، وترسم مخيلته عوالم لا وجود لها إلاّ في مخيلته المزدانة بالمعارف، والعبقة بالتطلع الإنساني، إذ سرعان ما تفضحها صخور الواقع المرير.. هو مبدع محترف، وصانع أحلام ماهر، ومتعدد اهتماماتٌ فطن، بيدَ أن مشكلته الوحيدة، هي حياة الفاقة والعوز، والمرض الذي أنهكه وأنهك العراقيين جميعا.
من أفدح المعضلات التي واجهته، هي مكوثه لثلاث سنوات في سجن بوكا الرهيب، هذه المعضلة وحدها، تفصح عن مدى الظلم الذي طاله كمواطنٍ وكأديب. هذا إضافة إلى ما تعرّضَ له ويلات كأي مواطن عراقي، فهو معلم متقاعد، يعيش لحظته، وأحيانا لا يتمكن من الحصول على قوته اليومي. كما أنه لا يملك بيتا، يليق بمستواه الثقافي، بل يسكن في بيت أهله المتهالكِ المهمل، الشبيه بحظيرة. ولم يسعفه الحظ بنيل فرصة الزواج، الذي قد يوفر له ظروفا أفضل من ظروف العزلة التي عانى منها كثيرا. إن رؤية عادلة لحياة البؤس التي كان يعيشها مبدعنا الراحل، وحياة الرفاهية التي يتمتع بعض الناس الذين نالوا العيش الرغيد في غفلة الزمن، تبين هول الكارثة في سابق وراهن البلاد. فأية عدالة، وأية شريعة؟ وأي عرف، وأية قيمٍ تتحكم في حياتنا وترسم مستقبلنا، ونحن نجد المواطن المخلص والمبدع الجاد يعيش الفاقة، بينما أبناء الصدفة، يتمتعون بسعادةٍ، لم يفكروا بها حتى في الأحلام؟!!
هذا السارد الفطن الخبير في تشكيل عوالمه القصصية والروائية، عاش حياة لا تخلو من ضراوة، ومن عراقيلَ قاهرة منعت مجايليه عن مواصلة الكتابة. وعلى عينيه كانت ترتسم فوضى بلاد تباعد بين أبنائها والفرح، ومن بين فوهاتها تخرج لهم نيرانَ فناءات لا تنضب، ونصالَ جراح لا تندمل.. مثله لم يهادن العراقيل، ولم يخشع للرِيَب، وليس في جعبته مواسم خشوع للمحاذير، وعلى كتفه تبددت صخور المحظورات.. وما عادت تردع تصوراته حجبُ العادة والمألوف والثوابت، ولم ييأس كما يئس سواه من كثرٌ من أصحابه المارين على جمر وطن ملتهب.. ومثل غيمةٍ تمنح أمطارها لليباب، فتح الخفاجي لمنْ حوله، قلبا ينبض أبدا حبا بريئا، كما طفل لم تدنس براءته سنون القهر والعمر المكفهرِّ المرير.. ولمن لا يعرفه.. نبوح بخفايا مرحه المتواصل، وشغفه الحثيث بالأمل والمحتمل، وعدم اكتراثه بالمصدات وحقول الألغام والموانع، بحثا عن فسحة متعة وجمال، في عالم يقطر دما.. ليس هذا فقط.. بل كان ربان بياضٍ، ينزف من مداد روحه حروفا وكلمات تزخرف نصوصا، لا أحد ينكر كفاءتها في عرض مفاتنها على عيون القراء.. ليس يكتب فقط ، بل ينسج من ندى الكلمات نصوصا مزركشــة بألوان البساتين والأنهار.. كي تتكحل بمرآها عيون القراء الحبلى بالتطلع نحو آتٍ يرفل بالبهجة..
صناديق مغلقة
يبدأ (محسن الخفاجي) سرد نصه(قناع بورشيا) من لحظة وصوله قصر الطالبة(…) التي ينوي تدريسها مادة اللغة الانكليزية، إذْ يراها تشبه شخصية (بورشيا) في مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير. حيث قصتها المعروفة في شرطها على من يتقدم لزواجها، أن يفلح في اختيار الصندوق الذي يحتوي على صورتها، من بين ثلاثة صناديق مغلقة. ويكشف النص عبر لقاءات السارد المتكررة (لبورشياه العراقية) استمرار تعلقه بها جمالا وسلوكا ورِقَّة. كما أنه يرمي في القناع، إلى أن هذا الوجه الجميل جدا هو أشبه بالقناع الذي يخفي مأساة ستحل بهذه الفتاة. (ماتت بورشيا، في الخميس الماضي، على فراشها الوثير، قبل يومين من ظهور نتائج الامتحان، وبعد ثلاثة أيام من عيد ميلادها التاسع عشر. أخفقت كل محاولات الأطباء لإحيائها. كان أبوها والمرأة المسنّة، قد أخفيا عني مرضها طيلة العام. ماتت بورشيا بعجز القلب، وحتى الآن لم أعرف إن كنت سبباً في موتها أم لا. أحس بتأنيب ضمير كلما فكرت بنهايتها، ربما لأنني لم أمد لها يداً وأنتشل صورتها التي لم تضعها في صندوق واحد بين صناديق كثيرة. كانت بورشيا من نوع خاص. تضع صورتها على شعرها، ووجهها ولسانها، وثيابها، وعطرها. لكنني لم أكن شبيهاً ببسانيو. لا أعرف ماذا أقول. هل كنت شجاعاً أم جباناً؟ ).
في النص نلمس كفاءة القاص على إدارة النسق المركزي للحكاية وعلاقته بالأنساق الفرعية في تنقلها بين حياة (بورشيا) العراقية وحياة (بورشيا) الإيطالية. بالإضافة إلى براعته في إجراء مقاربات جمالية أسهمت في تخصيب النص بمنظومة بث قادرة على إغواء المتلقي لمتابعة حركة السرد. اللغة السردية تتميز برشاقة ملفتة وتكثيف محسوب في التراكيب المشكلة للجملة، وتتابع مشهدي عبر فضاءات سرد مكتنزة على أسباب فتنة جاذبة ومبهرة للمتلقي. نحن وعبر معرفتنا بمنجز هذا المبدع، نؤكد فخرنا به كقاص محترف، كونه يتوفر على دربة مشغل ونباهة مخيلة ونقاء تطلع. ويستحق بجدارة أن تسلط عليه الأضواء النقدية التي لا يستحقها من هم دون مستواه، ويستحق من مدينته أن تحتفي به مبدعا مخلصا للكتابة التي أفنى لأجلها حياته.
( لاحقني طيفها في كل مكان. صارت بعد موتها جزءاً مني، وحين أعلنت نتائج الامتحان، وجدت نفسي أقف أمام مديرة المدرسة، أطالبها بدرجاتها. ظنت المديرة أنني جننت. هذا ما كانت تقوله نظراتها المستغربة على الأقل، فماذا تنفع درجات طالبة ميتة؟ كانت أرقام درجاتها العالية في البطاقة، آخر ما تبقى لي منها، كأنها ليست أرقاماً، بل ثياباً تنكرية لها لتحميني من ضعفي وخيبتي . لقد كنت بورشياي المتنكرة.
نعم غادرنا مبدع نص (قناع بورشيا) فجأة.. لكن نصوصه باقية معنا، وسنورثها للمقبلين.. لذا لن نبكيه.. ولن نقول وداعا أبدا.. لأنه الآن أكثر حياة من أحياءٍ كثيرين..
ولمن لم يتعرف على منجزه الابداعي، ولفائدة الجميع، نستل من كتابنا ( أور الحكي ) سيرته الأدبية:
( تولد الناصرية عام1950. خريج دار المعلمين عام1969. أصدر الكتب السردية التالية: (سماء مفتوحة الى الأبد) قصص مشتركة مع أحمد الباقري وعبد الجبار العبودي1974. و(ثياب حداد بلون الورد) قصص/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد1978. و(وشم الدم على حجارة الجبل) رواية/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد1983. و(العودة الى شجرة الحناء) رواية/ دار الشؤون الثقافية / بغداد1987. و(يوم حرق العنقاء) رواية/ دار الشؤون الثقافية / بغداد2001. وله تحت الطبع الكتب التالية: (حمامة القنصل) قصص. و(حُب أسود) رواية. و(دموع ذهبية) شعر. و(النازي الأخير وإيفا براون) قصص. و(80 قصة قصيرة جدا). و(السجون الأمريكية في العراق من الولادة الى الموت) كتاب سياسي. نشر وترجم العديد من القصص في الصحف والمجلات العراقية والعربية. حرر الصفحة الأدبية الأسبوعية(نافذة على القصة) في جريدة القادسية للفترة 1980-1988. شارك في المؤتمرات والملتقيات الأدبية العراقية، وحصل على الجوائز التالية: الجائزة الأولى في مسابقة القصة للأعوام1969و1983و2002. الجائزة الأولى في مسابقة اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 1999. جائزة الإبداع للكتاب القصصي 2002. عمل رئيسا لاتحاد الأدباء والكتاب في ذي قار، وحصل على عضوية المجلس المركزي لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق 1992).