مجتمع المعلوماتية وتصدّع المعايير الإجتماعية -2-

مجتمع المعلوماتية وتصدّع المعايير الإجتماعية -2-

 ياسر جاسم قاسم

رؤى حول التصدع في نقض نظرية نيتشة

هل توجد سلوكيات عالمية متشابهة؟

ان التحول نحو مجتمع المعلوماتية ساهم في ظهور نماذج من البشر في اليابان يدعون (الهيكوكيكو ) شغلهم الشاغل عالم الانترنت حتى انهم انقطعوا عن العالم الخارجي ولم يستطيعوا ان يمارسوا أي دور اجتماعي واصيبت خلاياهم الدماغية بالفتور ،الهيكوكيكو هؤلاء يوجد نماذج كثر منهم في العالم العربي وهؤلاء شغلهم الشاغل هو الجات وعالم الفيس بوك حيث التواصل الرقمي مع الاخرين وانقطاع التواصل الاجتماعي مع الناس المحيطين أي البيئة المحيطة بل ان الدردشة والجات اصبحت حتى من خلال الموبايل أي عالم متنقل مع الانسان مما سيؤدي في نهاية المطاف الى تفكك الصلات الاجتماعية تفككا كبيرا بسبب التكنولوجيا والمعلوماتية وتصدع هذه القيم سوف يؤدي الى انه من الصعب معالجتها .

يحدثني صديق لي انه يستعمل الجات عبر الهاتف لمدة تتراوح من العاشرة ليلا وحتى الخامسة صباحا أي بمعدل يومي 6 ساعات في الليل فقط هذا من دون اوقات النهار المتقطعة هذا الانشغال اثر حتى على تعليمه من حيث لا يشعر حيث لم ينجح في سنته الدراسية ،انه لا يعرف السبب الرئيسي لرسوبه هو الجات والتعلق سايكولوجيا به الا انه وحسب تعلقه الكبير وتفكيره الذي ما انفك عن الجات طوال فترة دراسته لم يسمح له بالتفكير الجدي بوضع دراسته وقراءته مما سبب رسوبه وقاد هذا الرسوب الى تصدع العلاقة الاجتماعية بينه وبين امه التي تطمح إلى رؤيته ناجحا .

اذن يتبين ان المعلوماتية او التكنولوجيا تقود الى تصدع العلاقات الاجتماعية اما بسبب مباشر من قبلها او بسبب غير مباشر كما في الحالة التي عرضنا لها في اعلاه.

ان اثر التكنولوجيا في عزل الناس عن المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه واضح جدا ولكن قد يتسائل سائل :ان انترنت يعطي آلية تواصل كبيرة جدا تتمثل بالسرعة والدقة في ايصال المشاعر والرسائل بين الناس ولكن هذا التواصل يفتقر الى دفء العلاقات الحميمية التي تتولد من خلال المقابلة المباشرة او حتى التراسل بالخطابات والرسائل الورقية المكتوبة والمفارقة هنا هي ان الوسيلة التي يفترض بها توطيد وتعميق التواصل بسهولة ويسر وكفاءة هي الاداة التي تؤدي الى العزلة وتدهور العلاقات الاجتماعية بالرغم من كل المظاهر التي توحي بعكس ذلك بالنتيجة نفهم ان التكنولوجيا تغير من الانسان حتى يصبح هو بحد ذاته ما يشبه الالة ويستجيب لمتطلبات الالة ويترك حتى مشاعره وأحاسيسه الإنسانية وما دمنا نتحدث حول اسباب التصدع للقيم الاجتماعية فيذهب بعض الباحثين والمفكرين الى ان التحولات الثقافية الحضارية الواسعة هي التي سببت التصدع العظيم أي تحول العلاقات الزوجية المتماسكة والانضباط الجنسي الذي يبقى تحت المراقبة العائلية هي الصورة المعبرة عن مفهوم الرقابة الاجتماعية للحياة المجتمعية هذه التحولات نراها اليوم على شكل تصدعات في العالم الغربي بشكل معلن وفي الشرق وخصوصا مجتمعاتنا بشكل سري ومتقن وفي حالة تفشي السرية يصار الى معاقبة المتحابين او أصحاب العلاقات الجنسية غير الشرعية بأشد العقوبات المجتمعية ،فالرقابة الأبوية يجب التخلص منها ونحن اليوم بحاجة إلى رقابة غير مباشرة (indirect) هذه الرقابة غير المباشرة تعطي رؤية واضحة لكيفية التعامل مع الأبناء او العائلة وبالتالي عدم تصدع الروابط الاجتماعية بين العائلة والأب او بين الأب والابن او البنت هذا من باب الحفاظ على القيم المجتمعية ومن دون هذا الباب سوف تنهار هذه القيم لان الضغط يولد الانفجار أي ان الرقابة لو كانت صارمة واصبحت تمارس تحت سلطة الاب او التهديد او تهديد الاخ سوف تتسبب بمسألتين:

الاولى :

انهيار القيم الاجتماعية الرابطة بين العائلة كأفراد وتبادل الكراهيات بين أفراد العائلة .

الثانية :

تصدع القيم الاجتماعية التي ندافع عنها تحت يافطة الرقابة بل العمل بالضد من هذه القيم والاتجاه اتجاهات مغايرة تماما لما نبغي.

فالتصدع العظيم كمصطلح يقع على مجتمعات باكملها ينطلق من تصدع القيم الصغيرة انطلاقا الى ما يقود الى تصدع المجتمعات ككل فالتصدع بالغرب بدأ نتيجة التراجع والانحدار في القيم الاخلاقية الفيكتورية كما يسميها فرانسيس فوكوياما ،تراجع هذه الأخلاق بدأ بمجموعة من التطورات الفكرية التي اتخهذت طريقها في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين وبموجة ثانية من التطورات حدثت في أربعينيات القرن العشرين.لقد بدأت الافكار الغربية وعلى اعلى المستويات الفكرية ترى انه لا توجد اعتبارات او ارضية عقلانية تفرض وجود سلوكيات متشابهة واكثر من عبر عن هذه الفكرة هو الفيلسوف الالماني(فريدريك نيتشه) الذي طرح نظريته التي ترى :ان الإنسان هو وحش ذو خدود حمر وانه عبارة عن حيوان يخلق القيمة وان لغات الخير والشر التي يتحدثها البشر على اختلاف ثقافاتهم الإنسانية ليست سوى نتاجات للارادة وليس لها جذور في الحقيقة او المنطق ولكن لو جئنا وناقشنا هذه المسألة وطرحنا سؤالا هل صحيح لا توجد اعتبارات او ارضية عقلانية تفرض وجود سلوكيات عالمية متشابهة ؟ والجواب يكمن في مناقشة هذه الرؤية النيتشوية وتفنيد ما ذهب اليه نيتشه وذلك لان السلوكيات العالمية ممكن ان تتشابه ولكن الاختلاف يكون نسبي اما انه لا توجد اعتبارات او ارضيات عقلانية تفرض وجود سلوكيات عالمية متشابهة فهذا من الاشكاليات الكبيرة التي وقع بها نيتشه والدليل على صحة ما نذهب اليه  ان الصدق سلوك انساني يشترك فيه  المواطن العالمي فالصدق قيمة ممدوحة عند كل البشرية وركزت عليه الاديان كجانب انساني كما نرى عند البوذية والمسيحية واليهودية وغيرها مما يبين ان القيم والسلوكيات هي مشتركة بل ان العالم اليوم بحث في الاساليب الاخلاقية المشتركة بين ابناء العالم الانساني فمثلا ظهرت مجموعة من العلماء اسسوا معهدا اسموه معهد الاخلاقيات الكوكبية  The institute of the Global Ethics  ارادوا من خلاله التركيز على المعايير الاخلاقية المشتركة بين ابناء كوكب الارض كالصدق والتسامح والاخلاق الفاضلة والضوابط الاجتماعية في السلوك المشتركة بين البشر ومثل وجود هكذا معاهد تسقط نظرية نيتشة السابقة .وهنا استند الى راي لفوكوياما حول نشوء التصدع حيث ان الانتقال برأيه من القيم الاخلاقية الى ما هو ضدها قد بدأ بالحدوث منذ ثلاثة اجيال قبل حدوث التصدع العظيم ثم وفجأة ازدادت سرعة التغيرات بشكل هائل   من غير المعقول ان نتصور ان الناس في العالم المتقدم قرروا فجأة وببساطة ان يغيروا اراءهم ونظرتهم بشكل كامل وفي مدة زمنية لا تتجاوز عقدين او ثلاثة عقود نحو قضايا جوهرية مثل :الزواج والطلاق والانجاب والسلطة والمجتمع. وفي راينا ان من اهم اسباب التصدع بالاضافة الى ما ورد في البحث هو انهيار العلاقات العائلية حيث ان تاثير الاباء على الابناء كبير جدا وبعض الاحيان يدفعهم الى افعال اجرامية من خلال الاهمال والتصادم مع الابن وسلوك الابوين المنحرف والمشاكل بين الابوين او غيابهما بالنتيجة فارتفاع معدلات الجريمة تسهم اسهامة كبيرة في نشوء التصدع او التصدع داخل العائلة وتهشم العلاقات الاجتماعية الذي يسهم في نشوء التصدع الكبير داخل المجتمعات والجرائم الصغيرة تقود الى الجرائم الكبيرة التي امتدت عبر العالم واصبحت المافيات العالمية تتاجر بها ومن الصعب السيطرة عليها عالميا ومنها جرائم الاتجار بالبشر التي اثارت قلق المجتمع الدولي نظرا لما تنطوي عليه من خرق لكل القيم الانسانية والاخلاقية والخروج على مبادئ حقوق الانسان التي اقرتها المنظمات الدولية لذا عقدت هيئة الامم وبعض وكالاتها المتخصصة عددا من المؤتمرات في السنوات الاخيرة للنظر في هذه النوعية الجديدة من الجرائم انتشرت نتيجة تصدع القيم الاجتماعية عالميا وكان من هذه المؤتمرات مؤتمر بالرمو 12-15 ديسمبر /2000 عن (حكم القانون في القرية الكوكبية) واحدا من اهم هذه المؤتمرات اذ اثيرت فيه مسألة التعاون الاقليمي ضد الجريمة المنظمة وبخاصة في مجالات الاتجار بالبشر واساءة استخدام قطاع البنوك وامكان التوصل لطريقة لتوحيد الجهود ومساندة منظمات وهيئات العدالة الجنائية وقد حدث في مؤتمر بالرمو ان وقفت السيدة امينة تيتي اتيكو  ابو بكر مؤسسة (المنظمة النيجيرية لمنع الاتجار بالنساء وتشغيل الاطفال) منبهة الى ضرورة العمل على احكام الرقابة على تجارة الجنس في العالم وقد ذهبت في ذلك الى انه بالرغم من كل الجهود التي بذلت في محاربة الرق فلا تزال تجارة الرقيق قائمة بالفعل في كثير من انحاء العالم   ومن الدراسات المهمة جدا في مجال علم الجريمة التي تسبب التصدع العظيم والتي توضح اهمية التنشئة الاجتماعية المبكرة في الطفولة هي دراسة شيلدون واليانور غلويك حيث قاما باصدار كتاب عن  الموضوع وعن النتائج التي توصلا اليها هو كتاب ((اسرار جنوح الاحداث)) وقد قام الباحثان بدراسة طويلة الامد حيث تابعا مجموعة من الصبيان من منطقة فقيرة في بوسطن حتى بلغوا سن النضوج في محاولة للتعرف على الاسباب التي تدفع بعضهم الى ارتكاب الجرائم وبعضهم الاخر الى العيش حياة ناجحة ومثمرة وكانت احدى الحقائق التي توصلت اليها الدراسة ان الاولاد الذين ارتكبوا الجرائم كانوا يواجهون مشاكل مستمرة في مرحلة النضوج مثل تصرفات اجرامية وفشل زواج والادمان على المخدرات والكحول وعدم القدرة على الاستمرار في العمل وغيرها وهذا يعني ان الميل الى ضعف السيطرة على النفس يظهر ويتطور في مرحلة مبكرة نسبيا لدى الانسان وهذا هو احد اهم اشكال راس المال الاجتماعي الذي توفره العائلة .

وقد توصل عالما الجريمة ترافيس هيرشي ومايكل غوتفريدسون الى هذه النتيجة حيث يرى هذان العالمان حسب فوكوياما انه سيكون من المفيد التحدث عن اعمال اجرامية اكثر من تصرفات فردية في ارتكاب الجريمة وذلك بسبب ان سياق الحياة لاولئك الافراد قد تقرر من خلال تربية وتنشئة الاباء لاولادهم في مرحلة مبكرة من اعمارهم وقد اكد باحثان اخران هما رولف روبر وماجدا ستوهامر-لوبر في دراسة مستفيضة واسعة تاثير الاباء على دفع الابناء نحو الافعال الاجرامية من خلال الاهمال والتصادم مع الابن وسلوك الابوين المنحرف والمشاكل بين الابوين وغياب الابوين .

ويثير فوكوياما سؤالا مهما :هل يفسر انهيار العائلة الارتفاع الكبير لمعدلات الجريمة في البلدان المتقدمة بعد  عام 1965؟ مما لا شك فيه ان تدهور الحياة العائلية الذي بدأ في هذه الفترة مسؤول عن ارتفاع معدلات الجريمة وهناك دلائل عملية تؤكد العلاقة بين الاثنين وغالبا ما يكون انهيار العائلة عاملا مهما يفسر العلاقة بين الفقر والجريمة فالعوائل الفقيرة هي ليست فقط اغلقت امامها فرص العمل بسبب قلة المؤهلات او عدم وجود المواصلات بل هي غالبا ما تكون عوائل بدون اب في البيت قادر على التشجيع واشاعة النظام واعطاء المثل الاعلى لتنشئة الابناء من الناحية الاخرى فان العلاقة الاحصائية بين انهيار العائلة والجريمة ليست بالوضوح الذي تبدو عليه للوهلة الاولى بسبب وجود عوامل اخرى عديدة لها علاقة تبادلية مع انهيار العائلة مثل الفقر والمدارس السيئة والجيرة الخطرة والتي لها تاثير على تنشئة الاطفال وتربيتهم وغالبا ما يكون من الصعب تفكيك خيوط هذه العوامل المتشابكة المختلفة ويختلف ذلك ايضا حسب البلاد ففي السويد مثلا يلعب المجتمع خارج العائلة الجيران والشباب الاخرين والمدرسين وغير ذلك دور اكبر اهمية من دور العائلة في تنشئة الاطفال مما هي الحال في الولايات المتحدة لذا فان النتائج والاثار السلبية المترتبة على تنشئة وتربية الطفل في عائلة احادية الوالدين في مثل هذه الظروف تكون أقل وطأة .بالنتيجة فان الانهيارات العائلية التي تاتي بسبب الجريمة او ما شاكلها تؤدي الى التصدع العظيم باقوى مجالاته الفكرية المسببة لتصدع المجتمعات وتصدع حتى الحضارات ويبقى الحل بيد ابناء المجتمع بمكافحة اساليب الجريمة وما يتبعها ويحيطها من مشاكل هذه المشاكل تؤدي الى تصدعات مجتمعية كبيرة جدا . وتبقى نهضة المجتمعات مرهونة بضرب التصدع واسبابه والاهتمام باساليب بنائية جديدة .

مشاركة