مثقف يصنع التاريخ وآخر يقبع خارجه

عبود: النقد حفر في النصوص للكشف عن مناطق القوة والرخوة

مثقف يصنع التاريخ وآخر يقبع خارجه

 رزاق ابراهيم حسن

بغداد

هو دكتوراه تربية وعلم نفس واختصاص في المناهج، ولكنه رغم مسؤولياته الوظيفية ودأبه على المشاركة في نشاطات اتحاد الادباء ونقابة الصحفيين، اذ هو عضو في المنظمتين يواصل التاليف، فقد صدر له نقد  المنهج، وقراءة نقدية في المنهج التعليمي والمثيولوجي، واشكالية المثقف والدولة ويوميات مثقف في اسطنبول، وعشرات الايام  في ماليزيا، والاتجاهات الحديثة في بناء المناهج المعاصرة، والتربية الحديثة وحقوق الانسان، ودراسات نقدية في الشعر والقصة والرواية: رواية بعنوان  فاريا .

ويقول: الناقد الدكتور سعد مطر عبود قد يتعامل البعض مع هذه العناوين بوصفها مختلفة، بعضها عن البعض الاخر ولكنها في الحقيقة مترابطة، فهي تنطلق من مشروع نقدي تنويري يتناول العقل العربي في الميادين كافة، وفي المراحل كافة.

{ اذن لديكم مفهـــــــــــوم مختلف عن النقد؟

– النقد له دلالات متعددة، وحسب ابن منظور ان النقد بمعنى التمييز: تمييز الدراهم، واخراج الزيف منها. وكلمة نقد بمنظور لالاند: هي الحكم ويرى أيضاً ان النقد هو فحص مبدا أو ظاهرة للحكم عليه أو عليهما حكما تقويميا، تقديريا بوجه خاص، ثمة نقد فني (جمالي) ونقد الحقيقة (منطقي) اما عمانويل كانط فقد أطلق العقل النقدي على الفكر الذي لا ياخذ باي اقرار دون التساؤل اولا عن قيمة هذا الاقرار، سواء من حيث مضمونه (نقد داخلي) أو من حيث اصله (نقد خارجي) والقرن الثامن عشر هو قرن التنوير وقد اصطلح عليه بقرن النقد وهو ما عبر عنه كانط بقوله: “قرننا قرن النقد” وقد ارتبط النقد في هذه المرحلة بالممارسة الحرة للعقل من دون ان يعني ذلك التقليل من قيمة الاشياء، والضفة الثانية هي تاسيس كانط لفلسفة جديدة تقوم على النقد وتعرف بالفلسفة النقدية، يقول كانط: (اقصد بذلك نقد الكتب، والمذاهب بل نقد سلطة العقل عموما).

ويرى د. حسن حنفي ان النقد هو اداة التحول والانتقال من مرحلة تاريخية إلى اخرى، فالنقد شرط الابداع والابداع شرط التقدم والنهضة.

والنقد من وجهة نظري هو حفر في النصوص للكشف عن مناطق القوة من تشييد النص، والمناطق الرخوة في الشكل والمحتوى، النقد يزيح الغموض ويكشف المعنى، والنقد يزيح كل المعوقات امام الطاقة الابداعية.

{ ولكن النقد قراءة وليس فعلا؟ فكيف يستطيع ذلك؟

– للتفتح والتحقق وبلوغ الذروة في ولادة المنجز الابداعي، والنقد هو قراءة متمعنة فاحصة، واعية، للنصوص الابداعية للحيلولة دون التماهي في الترهل والتقريرية والاسفاف والهدر للموضوعات الخاوية من روح الابداع واهتمامي بالنقد حقيقة، منذ ان بدأت اهتم بقراءة الفكر الفلسفي، منذ ما يقارب ثلاث عقود، ولكني لم اكن ادرك معنى النقد، كما افهمه الان، فبالامس كنت اتصوره (المواجهة الفكرية) أو (الصراع الفكري) أو اسلوب دفاعي عن الافكار التي يؤمن بها الشخص.

وقد نشرت بعض المقالات النقدية في مجلة الورود اللبنانية عام 1981.

ولكن التحول الحقيقي بدا عندي عام 2000م، عندما التقيت بالدكتور الناقد والشاعر عباس اليوسفي الذي دفعني للكتابة عن المجموعة القصصية (تيمور الحزين) وشاركت في مؤتمر ادبي عقد في ديالى احتفاء بالكاتب الكبير احمد خلف.

اغوار المعرفة

{ وكيف نتعرف على المناهج الجديرة بالاهتمام؟

– بتصوري ان المنهج هو الوسيلة للوصول إلى الغاية أو الوسيلة لسير اغوار المعرفة، والمنهج حسب تعريف صلاح فضل: منظومة متكاملة تبدأ من الاطار الشامل “النظرية” وتنتهي إلى التقنية المتداولة التي يستعملها اصحاب المنهج في ممارساتهم العملية والحقيقية في البداية اخترت المنهج الفلسفي، ولم يكن بالامر اليسير، فالفلسفة صعب جدا اقتحامها، ولكن اللذة تكمن في هذه الصعوبة ثم انتقلت إلى المنهج الاجتماعي، ولكن لم تكن لي دراسة عميقة به، بل كانت ممارستي النقدية بسيطة ولكن تحولي إلى المنهج السيكولوجي (النفسي) لم يكن بسيطا بل كان عميقا. تحول علمي اكاديمي لاني درست (السايكولوجيا).

وكان لي شأن مع “فرويد” و”يونغ” و”ادلر” و”اريك فروم” و”سكنر” و”بافلوف” ومن العرب “علي زيعور” ومصطفى حجازي و”كمال الوسوقي” و”فاخر عاقل”.

كما كان تاثري بالفلسفة “محمد باقر الصدر” و”محمد جواد مغنية” و”عبد الرحمن بدوي” و”زكي نجيب محمود” و”توفيق الطويل” وحسام الدين الالوسي و”ديكارت” و”هربرت ماركوز” و”هيجل” و”جان بول سارتر” اما في علم الاجتماع فحقيقة تاثرت بـ”علي الوردي” “عبد الجليل الطاهر”. هشام شرابي  “متعب مناف” و”كامل المراياتي” و”بورديو” اما في الفكر النقدي المعاصر، فتاثرت حقيقة بـ ميشيل فوكو، جاك دريدا، بول ريكور، هابرماس كما تأثرت بفاضل ثامر و”محسن الموسوي” و”عبد الله ابراهيم” ومن ثم “علي حرب” و”عبد الاله بالقزيز” و”مطاع صفدي و”محمد عابد الجابري” و”جورج طرابيشي” و”جابر عصفور” و”شاكر النابلسي” و”محمد شوقي الزين” و”هاني ادريس” حسن حنفي “صلاح فضل” “جمال مفرج” والحقيقة قرأت وتأثرت وتعلمت في الماضي من “سلامة موسى” و”طه حسين” و”عباس محمود العقاد” و”احمد عباس صالح” ومصطفى محمود وانيس منصور وتوفيق الحكيم. وغيرهم.

سابق ولاحق

{ وما الذي حققته من ذلك؟

– وحقيقة الامر، ما قراته سابقا ولاحقا، دفعنى إلى ان اكتشف ان المرحلة المعاصرة تحتاج إلى استثمار التداخل في العلوم الانسانية.

لاننا اليوم نمر بازمة ثقافية طالت كل مجالات الحياة، وهددت الوجود البشري فالتناقضات والاشكاليات والتداعيات لا يمكن التعامل معها أو التركيزعليها ببعد معرفي معين أو منهج محدد.

يقول نوبواكي نوتوهارا: “لم تتطور اليابان الا بالنقد”.

ويقول ماركيوز “ان حقل المعرفة الفعلي ليس الوقائع المتعينة أو المعطاة عن الاشياء كما هي، بل تقويمها النقدي كمقدمة لتخطي شكلها المتعين”.

اما جابر عصفور فيقول في كتابه: (نقد ثقافة التخلف): كنت ارجو ان استبدل بالجهد الذي بذلته في كتابة هذا الكتاب وامثاله جهدا خاصا للنقد الادبي تاصيلا وتنظيرا وممارسة وترجمة، ولكنني كنت ولا ازال اشعر بمخاطر الإظلام المعرفي الذي يتزايد، وكوارث التخلف الممكنة، القائمة على اصول تجذرت في ميراثنا الحضاري، ولا تزال تطرح ثمارها المرة في عصرنا الذي اختلطت فيه القيم، وكان يشجعني على المضي في هذا المجال، وعي الناقد الادبي، داخلي، المؤمن بان احدى وظائف الادب الاساسية هي الانتقال بالانسان من وهاد الضرورة إلى افق الحرية المفتوح، وقد زادني تشجيعا على السير في هذا الاتجاه تحولي من المذهبية النقدية بمعناها الضيق الصارم إلى الافق المفتوح من مدارات النقد الثقافي الذي يعيد التواصل التفاعلي بين عمل الناقد وثقافة مجتمعه التي تتولد منها، ومن مواجهتها الاعمال الابداعية الاصيلة والجذرية، ولذلك قمت بالتركيز داخل كتاب “في مواجهة الارهاب” على اشكال المقاومة الابداعية للارهاب وتعرية الياته والكشف عن التكوينات العقلية لقياداته”.

بلغ سن اليأس

{ غالبا ما يتداخل النقد الثقافي مع النقد السياسي ما الذي حصل وكيف يمكن انهاء هذا التداخل؟

– في البداية لابد وان نعرف ما المقصود بالنقد الثقافي؟ والنقد السياسي؟..

النقد الثقافي: يعرفه: د.أ.د. حفناوي بعلي في كتابه (مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن): على انه نشاط وليس مجالا معرفيا قائما بذاته، وان الناقد الثقافي أو نقاد الثقافة، يطبقون المفاهيم والنظريات المتنوعة في تراكيب وتباديل على الفنون الراقية والثقافة الشعبية والحياة اليومية وعلى حشد من الموضوعات المرتبطة.

في حين يرى عبد الله غذامي الناقد المعروف، ان النقد الادبي بلغ سن اليأس ولم يعد يلبي متطلبات التغير الثقافي، واعلن موت النقد الادبي، والبديل هو النقد الثقافي، ويضيف قائلا: ان النقد الثقافي لن يكن إلغاءً منهجيا للنقد الادبي، بل انه سيعتمد اعتمادا جوهريا على المنجز المنهجي الاجرائي للنقد الادبي.

اما النقد السياسي: فليس بالضرورة ان يكون الناقد سياسيا لينقد الفكر السياسي أو الايديولوجية أو الاداء السياسي.

من وجهة نظري، ان كل مثقف ينبغي ان يمتلك حسا نقديا وان يكون معادلا موضوعيا للسياسي فكل منهما له منظوره الخاص في بناء الدولة، فالمثقف ينظر إلى الدولة من زاوية مؤسساتية اما السياسي فينظر لها من زاوية السلطة، وهذا ليس امرا مطلقا فقد يتفقان أو قد يتحول المثقف إلى سياسي ثم إلى سلطوي.

اما النقد التربوي، فنحن بحاجة اليه اليوم اكثر من أي وقت مضى، المطلوب اليوم نقد السياسة التعليمية، ونقد المناهج الدراسية، ومناهج البحث العلمي، ونقد مناهج اعداد المعلم والادارات التربوية، واساليب التعليم والتعلم، وطرائق التدريس، واساليب التقويم والتحصيل العلمي للطلبة… الخ.

{ لقد تناولت في احدى دراساتك ازمة المثقف العراقي، فهل هي ازمة تاريخية ام ازمة راهنة؟

– التاريخ ملغم بالاحداث الماساوية، كما هو مليء بالصور الايجابية للمنجز الحضاري، فالمثقف في فترة ما من فترات  التاريخ كان منضويا تحت سلطة الحاكم، وفي فترات متقطعة كان مطاردا، وفي فترات اخرى كان منزويا ولكنه فيما مضى كان حراكه يتوزع على مستوى الوعي والنضج الذي يحمله فتارة يكون براغماتيا فيتصيد في الماء العكر واخرى ديماغوجيا، فينطلق من انتمائه الايديولوجي، وفي احيان اخرى يكون مستقلا، فأسس مشروعا حضاريا وحقق منجزات على كافة الصعد الإنسانية.

اما اليوم فالتاريخ يعيد نفسه، وبرز لدينا نموذجان، المثقف المتجاوز لذاته، والمثقف المتمركز حول ذاته، الاول صانع التاريخ، والثاني خارج مدار التاريخ.

{ لقد تحدثت عن مشروع نقدي  ما الذي انجزته لتحقيق ذلك؟

– منذ فترة ليست بالقصيرة، تحولت بين اروقة الفكر النقدي، وحاولت استيعاب المشاريع النقدية، بطريقة أو اخرى فتارة تجدني مع د. محمد عابد الجابري في موسوعته النقدية (نقد العقل العربي) محاولا استيعاب اراءه وفكره النقدي واخرى مع (محمد اركون) في نقده للعقل الاسلامي أو مع هاشم صالح في دراساته النقدية أو جورج طرابيشي أو جابر عصفور أو عبد الله غذامي أو مع علي حرب أو مع د. سعود المولى في دراساته عن الدولة المدنية، أو مع الناقد العراقي فاضل ثامر في دراساته النقدية عن الخطاب واللغة الثانية والميتاسرد، وتجدني ولا اخفيك سرا اني متابع جيد للنقاد المغاربة والجزائريين والتوانسة، فتجدني اقرا لعبد الاله بلقزيم ومحمد شوقي الزين وغيرهما، اما الغربيون، فدون ادنى شك، جاك دريدا، وميشيل فوكو، وبول ريكور، وهابرماس… الخ.

والحقيقة، بدأ يتبلور في ذهني مشروع نقدي نهضوي بعد الاطلاع على كل الدراسات النقدية في هذا الاطار، ينطلق من نقد العقل والفكر والواقع، والدولة، والمجتمع، والانسان والثقافة… الخ، ويؤسس لمشروع ثقافي يعالج الازمة التربوية، ازمة المنهج، ازمة الوعي، ازمة النهوض بالواقع، والخروج من المازق الوجودي المتمثل بهيمنة الفكر الكلامي الارهابي، والنزعة الطائفية، والجهل والتخلف، والنكوص الحضاري.

مازالت ارسم معالم هذا المشروع وطرحه في كتاب نقدي، وبنفس الوقت لدي دراسات نقدية حول الادب النسوي شعرا ونثرا، وكذلك دراسة نقدية عن الرواية العراقية. ومشروع نقدي تربوي انجزت منه كتاب “نقد المنهج” واسعى لتطويره وتناول مفاصل اخرى في النسق التربوي.

نقد نرجسي

{ هل لديك ملاحظات وانطباعات سلبية عن النقد في هذه المرحلة ؟

نعم!.. لدي ملاحظات النقد لا يمكن اختزاله فقط بالادب لان دائرة النقد تتسع كلما اتسعت الحياة، وتفاقمت الاشكاليات الا ترى اننا بحاجة إلى نقد الفكر نقد الواقع نقد المنهج، نقد الاسلوب في التعامل مع المتغيرات، ولكن البعض حول النقد إلى درس اكاديمي جمالي بلاغي هدفه البحث عن معايير تقويمية للنص الادبي، نحن بحاجة إلى نقد للثقافة ثقافة التطرف والتعصب والغاء الاخر، نحن بحاجة إلى نقد النرجسية الثقافية نحن بحاجة إلى نقد السلطة ونقد الايديولوجيا، ونقد الاداء في العمل، نحن بحاجة إلى النقد الفني والمعماري والتشكيلي والمسرحي، وايضا بحاجة إلى النقد الاجتماعي، فضلا عن حاجتنا الماسة إلى النقد التربوي، وما رايك لو اضفنا النقد الاخلاقي، والنقد الجمالي، والنقد السياسي، واذا اقتصرنا على وجه واحد للنقد فسنكون خارج العصر ولا جدوى من النقد.

{ يحاول النقد الديني استيعاب معطيات الحداثة وما بعد الحداثة من مناهج واساليب ماذا تقول في ذلك؟

– طبعا، المناهج النقدية التي ارتكزت على السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي، إلى المناهج الشكلانية والنقد الجديد، التي نظرت إلى النص بوصفه شبكة من العلاقات البنيوية، إلى مناهج ما بعد الحداثة كالتفكيكية والسيمائية ونظريات التلقي أو استجابة القارئ والاشكالية النقدية بتصوري تكمن في الخطاب الديني وليس في الدين لان تناول الخطاب من قبل الناقد بمعنى انه يتصدى (للقراءة) و(التأويل) وهذا يقودنا إلى نقد المنهج في التاسيس للخطاب الديني.

ولهذا فالتطرف والتعصب الديني أو الجمود الذهني والارهاب، سببه، هو الخطاب الديني، وليس الدين، وقد برز من النقاد في هذا المجال، المفكر محمد اركون والمفكر نصر حامد ابو زيد، والمفكر حسن حنفي والمفكر هاشم صالح وجورج طرابيشي وغيرهم.