من الطموح تولد الأحلام، وتولد من الأحلام الإرادات. كيف لا وقد أضحى التنادي إلى التاريخ مسوغا «مشروعا» للدول كي تتوسع؛ فألمانيا النازية استدعت تاريخا لتقيم جرمانيا الكبرى، وروسيا تفعل ذلك اليوم مذكرة العالم بالاتحاد السوفياتي الذي ولّى من قريب، وتركية تزج بنفسها في صراعات نائية بحجة أنها تقع على جغرافيا الدولة العثمانية؛ كما أن الصهاينة استباحوا، مطلع القرن العشرين، أرض فلسطين بزعمهم أن حقا لهم فيها يمتد لآلاف السنين… هي «موضة» سياسية جديدة إذن، منها المقبول ومنها الممجوج. وبما أن اللغة الديبلوماسية الدولية اليوم اعتادت على هذا المنطق في التفكير، فلِمَ يتعارك الأشقاء في إفريقيا الشمالية في ما بينهم على أراض، دان أهلها جميعا، عبر حقب من التاريخ، لسلطان واحد، وعاشوا في كنف حضارة واحدة؟
ربما ملّ الساسة تركة الحرب العالمية الثانية، أو أن بعضهم امتلك فائضا من القوة، فانبرى ليعيد رسم الخارطة السياسية لعالم جديد، لعله أن يصيب من غنائمه بحظ وافر أو يسير. ترى الواحد منهم لا يلوي على شيء سوى أن يلبي شرها نهما لا يشبع، وليته كان يلقي بالا لما اقترفه بحق المستضعفين من الناس من شر وبيل، كأنما الأرض خلت من أهلها، ولم يعد على ظهرها عبيد.
إن المساس بمنار الأرض يستتبع هرجا ومرجا، تسيل على جنابته دماء، وتتدحرج على أعتابه رؤوس. لأنه يستبطن عدوانا على الملكية، يكون مرتع الظلم فيه وخيما على الأفراد كما على الدول والجماعات، إذا ما تداعى الناس للذود عن الحياض، ولبس كل منهم لأْمَة الحرب. إن قادة الدول يستشعرون فترات الضعف فيهم وفي جيرانهم، فيحبكون لذلك مكائد يختل بها توازن القوى فيحدث التصادم. ولست أدري أي من المغاربة استشعر ذلك من أخيه فبدأ يدق طبول النزال؟
هي مهلكة، يدرك مخاطرها الحكماء من الأمة لو كان لهم رأي مطاع. أما وأن الأقطار في إفريقية الشمالية، المغرب والجزائر وتونس، قد انتصف عمرها الافتراضي، فما نراه اليوم من سياسة غوغائية، فقدر حادث يقود مصائر هذه الكيانات إلى الفناء. كيف لا وبأيدي هؤلاء القادة مؤهلات البقاء والرخاء جميعا؛ جوار متلاصق، وموقع جغرافي ممتاز، وتاريخ حافل بالأمجاد، وكتلة بشرية تنبض بالحياة، ومقدرات للعيش الرغيد تكفي لمئات السنين، وثقافة متجانسة صهرها الإسلام… يغفل الساسة عن كل ذلك، ويندفعون بحمق إلى فتنة هوجاء لا تبقي على شيء أتت عليه، لو قدر لنارها أن تشتعل لا سمح الله!
ومن سخف الحكام الضعفاء، أن يبادر الجار لاسترداد «حقه» عنوة من جار له وضع سلاحه للتوّ من حرب ضروس دحر بها الاحتلال، ومن سخرية الأقدار أن تداوى تلك الحماقة بقطيعة دامت عقودا من الزمان ولا تزال فصولها قائمة بين الفئتين: أزمة تعكر صفو الأخوّة في الصحراء الغربية، ومكايدة سياسية تعضد بها الجزائر الإسبان ضد الجيران في سبتة ومليلة، وقطع متعمد للغاز، واستئثار بالموارد من دون مشورة أو استئذان، وحفر في الجراحات لعل فيها ما يغري بعض الناس بالانفصال في جرجرة، ونبش في مواجع التاريخ لعلنا نبعث حقا أهدر في الصحراء الشرقية، وتبذير للأموال في اقتناء ما يؤدي إلى الدمار والخراب… كل ذلك من الحصاد المر لأنظمة شاخت وتلبستها الرعونة والغباء.
ومما يشي بتدهور الأمور نحو المحذور، أن يستعين المغرب بالصهاينة للاستقواء على الجزائر، وتستعين هي بالشيعة مرصادا لذلك؛ أما درى المغاربة بأن مرام الصهاينة هو إضعاف الجارين بدفعهما إلى التقاتل؟ وأن مرام الشيعة بعث أمجاد الفاطميين، ترفدهم في ذلك دربة درجوا عليها في صعدة ولبنان وسورية والعراق، إذ تكفيهم دعوة داع يدّعي نسبا لآل البيت لبلوغ القصد وخيمة تأويه- وما أكثرها لدى الصحراويين بتندوف- وصبر «استراتيجي» وأناة، وشيء من الإغراء بالمال والمتعة وإرساليات إلى الحوزات. إن ذلك سيحيي على تخوم الأطلسي ذكريات تعبق بالولاء لآل البيت، ومن ثم تسهل البيعة لصاحب الزمان أو من ينوب عنه في أي مكان. وهاتيكم فتنة هوجاء نائمة، لعن الله من أيقظها!
تونس الخضراء، مهد الربيع العربي، لم تعد كسالف عهدها تسر الناظرين، وديمقراطيتها الرائدة ارتدت عليها ديمقراطيا، ومن كان بالأمس القريب رئيسا أصبح طريدا، ورئيس أعلى سلطة تشريعية يقف أمام مقره عاجزا عن الدخول، وصرح مهيب كالبرلمان أضحى مهزلة حقيقية على المباشر بفعل امرأة مسترجلة وجندي مجهول. ألا يجرؤ قادة الرأي في هذه البلاد على البوح بأن طريق الديمقراطية في العالم الإسلامي طريق مسدود؟
كنت أرقب بحزن حماسة بعض الأساتذة المغاربة من المتخصصين في الدين، وهم يتقدمون ساستهم في الدعوة إلى الجهاد لافتكاك تندوف من الجارة الجزائر، ثم أقرأ ردود بعض إخوانهم من الجزائريين، ممن وجد في الأمر سانحة يتزلف بها إلى سلطات البلاد، التي لم توعز إلى أغلبهم بالرد على ما قاله ذلك المغربي، وجميع هؤلاء وأولائك عازفون عن مواجهة قادة بلدانهم بأن الوحدة مقصد شرعي بين الأقطار التي فرقتها أيدي الاستعمار، وأن الخصومة السياسية المنتهية بالمواجهة حرام في دين الإسلام. شخصيات من قادة الصحوة الإسلامية لعبت دورا هزليا باسم الدين رضي به القادة المستبدون، وليتها كانت شخصيات مصنوعة على أعين المخابرات، تهوى تضليل الناس وإزعاجهم بموضع الأقدام في كل صلاة.
إنه قلما يقترن نشوء دولة أو أفولها بسلاسة سياسية، فأكثر الحالات تحدث بهزة عنيفة، لذلك يولي الزعماء جلّ عنايتهم بالعسكرة لا بالسياسة لتوطيد أركان الدولة، ويرتكز أغلبها باطنا على العصبية، وظاهرا على المؤسسات المدنية، كما هو الشأن في العصبية العلوية بالمغرب وبمثيلتها الشاوية في الجزائر. وما يجري على الساحة المغاربية اليوم صراع بين عصبيات له امتدادات دولية، ينذر بتضعضع هذه الكيانات في قابل الأيام والسنوات. وقد تكون المنطقة مقبلة على موجة جديدة من الاستعمار لنهب ما تزخر به من ثروات.
لا تمنعنّ صراعات دموية سجلها التاريخ بين الأدارسة وبين جيرانهم الفاطميين، ولا يحولنّ ما جرى من اقتتال بين المرينيين وبني عبد الواد- في الجهة الغربية من شمال إفريقية- من أن نستذكر ما أنجزه المرابطون والموحدون في المغرب الإسلامي. إن أجلّ ما فعله هؤلاء السادة أن وحدوا الأمة على هذه البقعة الطاهرة من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، وأقاموا العدل فيها بين الناس قرونا مديدة، لا تزال ذكرياتها تروي للأجيال المتعاقبة مآثر حميدة.
يحب أن تجتمع بين يديه خيوط اللعبة السياسية كل محترف أعطى السياسة كل عمره، إذا ما استدارت العيون نحوه تسأله مخرجا من أزمة، فيشخّص الحالة بأنها أزمة سياسية والحل لن يكون إلا سياسيا، ثم يقترح مرحلة انتقالية يكون هو أحد أقطابها. بيد أن في التاريخ للسياسيين عبرة، وأي عبرة! فما رأى الموحدون ولا المرابطون، ومن كان قبلهم من الأمويين والعباسيين، أو من جاء بعدهم من العثمانيين، بأن الأمة تحتاج إصلاحا سياسيا فحسب، بل إن فساد السياسة عرض لأزمة أبعد غورا، تمس الأخلاق والتفكير في الصميم.
لذلكم يحسن بالساسة في المغرب الإسلامي، أدناه وأوسطه وأقصاه، أن يفزعوا إلى القرآن الكريم ويستنطقوه- وهو الناطق بالحق الذي آمن به المغاربة جميعا- من خلال علمائه المستقلين، ذوي الأحلام والنهى، وسيجدون عندهم خير طريق يحفظ لهم ما بين أيديهم من ملك قد ينتزع منهم في أية لحظة. وأجلل بالطريق إن كان يحدوهم فيه أعلم الناس، وأصلح الناس، الخبير بدروب السياسة والحياة! وأكرم بحكمته، في الإدارة، إن استند في ملكه على سيفين مسلولين بعبث اليوم للاقتتال، شاوي عن اليمين وعلوي عن الشمال.