متغيرات المنطقة ودور العراق
رغم تجاذبات القوى السياسية العراقية ، سلباً وايجاباً ، إلا إن ذلك لا يلغي الدور المرتقب للعراق في المساهمة في رسم سياسات المنطقة الجديدة ، فالعراق في عهد المالكي كان قد حذر منذ البدء لخطورة مايجري في سوريا ، ودعا إلى ضرورة الوسطية السياسية في معالجة الازمة ، ووقف دراما الدم التي ساهمت في رسم سوداوية مشاهدها ، امريكا واوربا وتركيا والسعودية وقطر واسرائيل والاحزاب الاخوانية الاسلامية وفروخها الدموية ، ولكن رغم هذا المشهد الدموي الجاهلي ، ظلت سوريا الطرف الراجح في اعادة الصوابية للعقول الجامحة لسفك الدماء ، واصبح الحديث في الوقت الحاضر عن ضرورة الحلول السياسية للازمة السورية هو الراجح على كل الافكار والمواقف المتشددة ، وهذا الامر يعيد للاذهان بان العراق كان الاصوب في تشوفاته للازمة السورية ، وهو الاكثر مقبولية على طاولة المفاوضات الدولية لمعالجة الازمات الشائكة .
وعلى وفق المتغيرات التالية ، روسيا اصبحت قطبية ثنائية دولية بامتياز ، ودخولها للمحيط الشرق اوسطي بقوة وحضورها الاممي واحترامها لدى شعوب الشرق ، ايران وامريكا واوربا ومعادلة مشروع الاتفاقات ، سوريا وصمودها ونجاحها في التوجه نحو الحلول ، تركيا وفشل الرهانات على التدخل في سوريا ومحاولة كسر ضلع العراق واسر مصر عبر الاخوان ، السعودية وضعف تقديراتها وانكشاف تدخلاتها وتراجعها عربيا ، مصر القادمة بقوة بمفاهيم وسياسات جديدة يغلب عليها الطابع الشبابي العروبي الذي غاب عنها سنوات طويلة ، كل هذه المعطيات والمتغيرات القادمة ماذا سيكون الدور العراقي ..؟
مما لاشك فيه ان المنطقة مقبلة على تحولات اجبارية ، أهم مافيها هو كسر الجمود الاوربي الامريكي مع ايران ، أو بالاحرى تحولات الصراع بين الطرفين ، من تغييرات نظم إلى تحالفات ورسم استراتيجيات جديدة وتبيديل مواقع ، وهذا الوضع كنا قد اشرنا له في مقالة سابقة ، لكن لاهميته من الضرورة بمكان العودة اليه.
فإيران التي كانت محوراً للشر بنظر امريكا والغرب اصبحت الان دولة قابلة لتكون حليفة ، بل الدولة الضامنة للمصالح المشتركة بين الطرفين ، والعضو الاقليمي الكبير في منطقة الشرق الاوسط ، خاصة بما تحضى به من استراتيجية جيو سياسية رابطة بين حدود افغانستان إلى الخليج العربي ومن ثم روسيا وتركيا والعراق ، انها دولة مهمة وكبيرة لايمكن لامريكا واوربا أن تبدلها بغيرها ولاسيما إذا وجدت فيها مايضمن مصالحها ، وهذا وارد جداً خاصة بما تتمتع به ايران من قدرة في ادارة العلاقات العامة وفي صياغة العلاقات المتوازنة الهادئة البعيدة عن التشدد وولادة الافكار الدرامية الدموية مثل بعض الانظمة ، وبالتأكيد الغرب يطمح مع ايران الى صياغة المشتركات . والطرفان راغبان بذلك ، وهذا ماسيحصل قبل بدء الانسحاب الامريكي الاطلسي من افغانستان ، وذلك رغم كل التهويشات والضبابية المفرطة بعض الاحيان من كلا الطرفين ، وهي ضبابية يراد منها تمرير صفقات الاتفاقات الاستراتيجية للمرحلة الطويلة المقبلة .مهما قيل حتى اللحظة عن سوريا ، ومهما بلغت الرهانات عن التغيير لصالح الرجعية العربية والارهاب الدولي ، فأن سوريا هي سوريا ، عربية الوجه والضمير والجسد ، وتبقى سوريا معبرة عن كل تكويناتها الشعبية مجسدة لممانعتها وتعبيراتها الديمقراطية . وتبقى سوريا رغم كل محاولات التهميش العربية والامريكية لدورها في المنطقة وفي الصراع العربي الاسرائيلي ، نقول تبقى سوريا محورية في كل الاتجاهات ، وبدونها لايمكن أن يكون للعرب حضوراً مهماً في الموازين الدولية ، وسوريا التاريخ والمباديء والممانعة والجغرافية والسياسة هي محور التبدلات العربية ، وهي بوصلة الاتجاهات العربية في المساهمة في رسم السياسات الدولية في الشرق خاصة وان شقيقتها مصر العروبة قادمة لاحتلال مكانها الريادي بعد غياب قسري عن الدور والمنطقة العربية ، والعراق الشقيق الثالث الذي عاد بروحية وعقلية بعيدة عن الطفولة السياسية والرعونة في المواقف ، عاد لكي يحتل دوره الحقيقي ، ومعركته المكشوفة مع الارهاب تشكل الصفحة الثانية لمعركة دمشق والقاهرة مع الارهاب والرجعية والفكر الظلامي .
قد يقولون إن العراق ليس هو العراق ، فهو مشغول بصراعاته السياسية وبضعف الدولة وبرهانات بعض الاطراف السياسية من كل الاتجاهات على إضعاف دوره القيادي وشرذمة مواقفه وضياع بوصلة اتجاهاته ، وهذا صحيح ، ولكن الاطراف التي تعمل على ذلك شريكة في السلطة قد فقدت الكثير من حضورها في اوساط الرأي العام المحلي ، وهي محكومة بتوجهات برجوازية عائلية دينية واقطاعية عنصرية قومية ، لايمكنها في كل الاحوال الاحاطة بالمزاج الشعبي ولا بالمتغيرات التي تشهدها المنطقة ، لكنها في كل الاحوال سوف تجد نفسها في مرحلة قريبة معزولة غير مؤثرة امام تسارع الاحداث وتبدلات المزاج العام ورغبة المجتمع في ضرورات التغيير نحو دولة قوية مهابة صاحبة فعل وطني مؤثر وحضور عربي واقليمي ذا قيمة ، والعراق يستحق أن يكون اكثر فاعلية في الداخل والخارج ، ومعركته الراهنة مع الارهاب قد افرزت المواقف وحددت اتجاهات القوى السياسية ، هي التي ستكون عاملاً مهما في التعجيل بابراز الهوية العراقية ، أو على الاقل حددت ملامح المرحلة المقبلة .
إنها مرحلة التبدلات في المواقف السياسية الدولية تحكمها بالدرجة الاولى المصالح والمؤثرات الجيوسياسية كما إنها مرحلة تعدد القطبية وتراجع القطب الواحد ومرحلة انكشاف الدور المستتر للرجعية العربية ودخولها في خندق الارهاب تمويلاً واعدادا وتدريباً وتسليحاً علّها تتمكن من إعادة التوازن ووقف مسيرة القطار السوري المصري العراقي الذي بات يسير ولو ببطء على سكته ، وكذلك للتأثير على مشروع الاتفاق الامريكي الاوربي الايراني الذي حمل عنوان النووي بشكله العام لكنه سيتناول كل عناصر الاتفاقات الستراتيجية في القضايا المهمة للمنطقة . وإذا كان النفط السعودي هو الذي يحرك رغبات الدول سابقاً ، فأن نفوط العراق والغاز السوري والايراني سيغرق اسواق الغربيين وامريكا ، وبالتالي فأن تغيير المعادلات امراً ممكناً ولا سيما ان هذه الدول تمتلك من مواقع الرهان عليها اكثر مما تملكه ممالك الصحراء . على كل حال مهما تكالبت مخططات شركاء العملية السياسية ودور بعض دول المنطقة فأن العراق قادم لنفسه بقوة وللمنطقة ايضاً ليحتل مكانه المحوري ، المهم نحن بحاجة إلى رؤية حقيقية لتغيرات في تركيبة العملية السياسية من شراكة حصصية طائفية معطلة للاداء والعمل والبناء إلى شراكة وطنية منطلقة من المواطنة الحقيقية ومن دولة مؤسساتية وسلطة الاغلبية السياسية ، وهذا الأمر قد يحدث في هذه الانتخابات أو بعدها لكنه سيحدث سيما وان الشعور الوطني العام بدأ يتحسس ضرورة التغيير خاصة بعد المعركة مع داعش واخواتها التي كشفت مجمل الاطراف السياسية ، منها ينتظر الهزيمة بل يروج لها ، ومنها يشارك مع داعش ولو بالدعاء لها ، والجبهة الثالثة تخوض المعركة ببسالة نادرة معتمدة على الروح العراقية الوطنية وعلى صلابة واندفاع الجيش الباسل . ويقيناً تبقى أمكنة الزمان ترسم الاحداث عبر بوابات الفعل المسجل للاوطان ، والعراق وطنٌ بدء منه التكوين لصيرورة الحياة بأمر رباني وسيعود اليه التاريخ لتكوين الفعل الجديد لعصر جديد ، فلا يستطيع أحد مهما توغل في الحقد أن يلغي دور هذا الوطن في صناعة الحياة .