كلام أبيض
ما يندى له جبين الإنسانية – جليل وادي
استغربتُ اهتمامه اللافت بي من دون نزلاء الفندق الذي ضم سياحا من جنسيات مختلفة ، أكرمني بخدمات متميزة ، وأذناه صاغيتان لكل ما أقول ، وبسرعة يستجيب لما أريد ، ومع انه صاحب الفندق ولديه العديد من العمال ، لكنه حرص على تنفيذ طلباتي بنفسه ، وعندما حدثته اغرورقت عيناه بالدموع ، ومن كلامه باللهجة البغدادية شممت حنينا عصيا على الوصف للعراق ، عراقي أصيل راح ضحية ما سُمي بالتبعية الايرانية ، لأن جده السابع ايرانيا ، فمزقت السياسة حياته المستقرة برغم من بعده عنها ، فرمته الأجهزة الأمنية على الحدود مواجها المجهول ، بينما بقي جزء من عائلته في العراق ، ولم يتمكن من لم شملهم الا بعد تغيير النظام ، فحمد الله الذي أمد بعمره لرؤية ما بقي من عياله أحياء .
تعميم فعل شخص واحد ارتكب جرما او أخل بالأمن على آلاف البشر ، ويجري تشريدهم بذريعة ان اصولهم غير عراقية ، فتلك لا يمكن وصفها الا بالجريمة ، أظن ما حدث لا يمكن للعقل أن يتخيله . وهنا حضرني قول رسولنا الكريم (ص) : (من تكلم بالعربية فهو عربي) ، وهذا يعني ان للغة دورا كبيرا في تشكيل الثقافة ، ولا يمكن أن نعد شخصا أجنبيا من كانت ثقافته عربية .
تابعت بشغف وانتباه شديدين حديث المرأة المسنة المنشور على اليوتيوب ، ولفتتني لهجتها المشبعة بالمفردات الفراتية وتحديدا قضاء الشامية بمحافظة الديوانية، بالرغم من انها غادرت العراق مطاردة منذ أكثر من خمسين عاما ، ومع انها لم تعش في البلاد الا مطلع فتوتها ، لكن صدرها مكتظ بالحسرات عليه ، وأظن لو كان الأمر متاحا لزارت مرابع صباها التي أنهت فيها الدراسة الابتدائية قبل أن تفر الى اسرائيل مكرهة بمساعدة مهربين أكراد ، روت ما واجهته العوائل اليهودية من رعب ، وبدا صدق ما تقول من اسلوب حديثها واسترسالها .
ركزتُ كثيرا على صورة والدها الذي يرتدى اليشماغ والعقال الفراتي ، وكانت طريقة لبسهما تشير الى عشائر الشامية كالحميدات وآل فتلة . وقالت ان سكان المنطقة يطلقون على أبيها ( السيد ) ، احتراما وتقديرا له ، وكأن نسبه يعود لأهل البيت (ع) ، ان ثقافته الفراتية أنست المجتمع ديانته التي يكن لها البعض كرها . وهنا استذكرت كلام الامام علي (ع) : ( الناس صنفان : إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ) ، لقد فشلنا في تثقيف أبنائنا على التمييز بين اليهود العرب والصهاينة المحتلين لبلادنا ، سينتهي جيل اليهود العراقيين الذين تختزن ذاكرتهم حنينا للعراق ، مقابل أجيال جديدة من اليهود العرب بثقافة صهيونية .
وآخر مآسينا ما جرى لإخوتنا الأيزيديين والمسيحيين على أيدي تنظيم داعش الارهابي ، وبعض الذين طمعوا في بيوتهم وأملاكهم ، ليُقتل من يُقتل ويفر من يفر ، ورأينا ما تعرضوا له من ظلم يندى له جبين الانسانية ، وقبلها عمليات التهجير المتبادلة بين الشيعة والسنة ، كل ما حدث هو نتاج ثقافة الكراهية التي لم نتمكن من الصمود ازاء غزواتها المتواصلة .
خلاصة القول : من قال لك ان العراق قوي بلون اجتماعي واحد ، لا ترد عليه ، الزم الصمت ، فهو متخلف ولا يفقه من الأمر شيئا ، او جرى غسل دماغه الفارغ بالأصل ، فالحوار معه لن يفضي الى نتيجة ، والجدل مع الجاهل خسارة ، بل انشر فكرك النير ما استطعت ، وترجمه سلوكا بيننا .
لقد تمكن الذين تشبعت قلوبهم بالضغائن ، والذين ظنوا انهم مالكو الحقيقة المطلقة ، والذين نصبّوا أنفسهم أوصياء على المجتمع وما عداهم قاصرين ، تمكنوا من حشو عقول الناس بالفاسد من الأفكار . هؤلاء من أشاع ثقافة الكراهية بين أبناء البلد الواحد بذرائع شتى ، ينبشون في المعتم من الماضي لاستحضار واقعة او قول منسي لإثبات صحة أفكارهم . لا جمال للعراق ولا قوة بغير ألوانه الاجتماعية التي عُرف بها مذ وجد على البسيطة .
jwhj1963@yahoo.com