ما بين العصرنة وتشويه الموروث
مهند الشاوي
بغداد
لطالما سعى الانسان الى مواكبة الثورة المعلوماتية والتطور المتسارع في العالم، والى متابعة كل ما هو جديد، والارتقاء بافكاره على المستوى الاجتماعي والعلمي والثقافي والادبي، وهذا الامر يعد مقبولا وجيدا بكل المقاييس.
وكأحد هذه التطورات في بلدنا الباحثة عن كل جديد، اود الإشارة الى فن العمارة، الذي يعد فنا متلازما مع الفكر الانساني والجهد الهندسي، إذ تتطلب العملية الهندسية المعمارية فكرا فنيا يتناسب مع المعطيات التصميمية والهندسية من اجل إظهار ناتج هندسي مقبولا للمتلقي وظيفيا وجماليا.
وهذا المبدأ هو الذي حفزني للكتابة حول موضوع حساس ومهم (كما اراه) يخص البعد الفلسفي والجمالي ما بين العصرنة وتشويه الموروث والابتعاد عن التقاليد الاصيلة في تنفيذ الواجهات المعمارية.
ان كل متذوق او متاثر بالارث الحضاري يعي ويعرف ان التصاميم المعمارية السائدة في المجتمع العربي والاسلامي وهندستها، هي بحق من اروع واجمل وابدع ما انتجه الفكر الانساني في مجال الهندسة، وما الشواخص القائمة التي نراها حاضرة الا دليل على ما نقول، فلو امعنا النظر في بعض تصاميم الواجــــهات الفنية (للمـدرسة المســــتنصرية، او بناية القشلة او بناية مديرية التراث الشعبي، او بناية امانة بغداد، اوبناية محافظة بغداد الجديدة وغيرها)، والتي تزينها الشناشيل والشبابيك الملونة والاقواس وقطع القاشاني والسيراميك، وذلك التحرك المــــدروس لتفاصــيل البنـاء، لوجــدنا الجــماليـات الحــقيقيــة لتـــلك التــصامـيم، ولو قارناها بمـا يجري اليوم من ارباك للابنية التي تستخدم تقنية الواجهات الحديثة التي تصمم باعتمادها على مبدأ التغليف بالقطع البلاستيكية او المعدنية (الكوبوند)، لوجدنا الفرق شاسعا ما بين التصاميم التي تحافظ على الجماليات المعمارية الراقية، وما بين السطوح الملساء الساذجة الجامدة التي تجعل المتلقي والمهتم حائر فيما تعني تلك التصاميم!! اللهم إلا إذا استثنينا موضوع الجذب اللوني، فضلا عن ما تغطيه تلك القطع الساذجة ذات الالوان البراقة للكثير من الهوامش البنائية لمادة الكونكريت والطابوق من خلفها.
ان ما نحتاجه اليوم ونحن في مجتمع انفتاحي يواجه هجوم كل الثقافات الفنية والفكرية والتكنولوجية، مع عدم وجود حصانة ثقافية او فنية او فكرية متكاملة لدى افراد المجتمع، فضلا عن عدم وجود قوانين اعتبارية للحفاظ على الموروث الثقافي والفني الهندسي حضاريا. ان ما نحتاجه اليوم وقفة حقيقية من قبل الجهات ذات العلاقة بالذوق العام وبمهمة الحفاظ على الهوية الوطنية، مثل وزارة الثقافة ممثلة بدائرة الفنون ومديرية التراث الشعبي، ووزارة السياحة والاثار ممثلة بدائرة التراث، ومجالس المحافظات، وامانة بغداد، فضلا عن اقسام الهندسة المعمارية في كليات الهندسة، من اجل ان تتبنى افكارا وفلسفات منظمة، والى ايجاد مشاريع قوانين يتبناها مجلس النواب للحد من ظاهرة التشويه المعماري لواجهات الابنية، والتي إذا ما تركت على ما هي عليه الان فانها ستقضي على الذوق العام خلال اعوام قليلة ولسوف تجعله فريسة لكل من لا يحب تراثه ويحافظ عليه بحجة العصرنة والتطور، وان تكون هذه القوانين حقيقة لازمة وحازمة من قبل اجهزة الدولة ومؤسساتها وبمتابعة منظمات المجتمع المدني المختصة والتي تعنى بالموروث الحضاري والشعبي من اجل إزالة هذا التشويه وتخفيف الهجوم على الفلسفات المعمارية المالوفة للمجتمع العراقي التي تعطي نكهة خاصة بهذه الارض الطيبة ذات العطر العراقي الاصيل محملا بكل نكهات الحضارات التي قام عليها بلدنا منذ الاف السنين، والا يكون هناك اية موانع في التحاور مع الحداثة باستخدام تقنيات قطع البلاستيك والحديد للتغليف بشرط الحفاظ على روح التصاميم التي تنسجم مع واقعنا البيئي المالوف، والا يكون هناك اي اجراء ضد ما نراه اليوم في الابنية والمحال في استخدام لهذه الظاهرة الحديثة والملفتة للنظر وتركها، مع وجوب ان يكون هناك توجيه صريح باهمية الحفاظ على الموروث الثقافي الفني والحضاري لتصاميم الابنية الجديدة كي يظهر الفرق للعيان مع التاكيد اعلاميا على هذا الموضوع.