تحولات المكان في قصص عبد الأمير المجر
مالا يتبقى للنسيان.. ماتبقى للذاكرة – نصوص – شوقي كريم حسن
ليس ثمة واحد منا، لا يشبه المسيح حين يتعلق الامر بحمل الصليب ، كلنا دونما استثناء ، نحمل صلبانا من الامكنة ،والأزمنة ،والأوجاع، لهذا ترانا نتألم ،ما ان تمسنا لحظات التذكر، فتصير ارواحنا زرا زير صغيرة ، تنفلت من اقفاص الصدور، لتبتعد صوب الامكنة التي تريد، هذا الوجع الاستذكار، يتصاعد مثل غيوم ، ثم ما يلبث أن ينهمر ما ان تحصل المواجهة الحتمية بين الكاتب ، والبياض الذي يتربص به، انهمار قد يبدو سهلا عند أول الأمر ، لكنه ما ان يتصاعد حتى يتحول الى وجع ، وصراخ ، واحتجاجات أحيانا ، الكتابة التي تعتمد ألاسترجاع اشد انواع الاحتجاجات قسوة، لأنها قوة فاعلة لا محدودة تحدت الزمن ومرت من خلاله الى اطمار الذاكرة لتشيد لها ابعادا معرفية وقلاعا من الاحلام المليئة بالأوجاع والمسرات وهي تشكل برغم ما فيها من حنين ملفوف بالوجع والرفض،خصائص تدفع الكاتب الى الكثير من الفحوصات الواعية وغير الواعية، التاريخ نسيج الماضي الذي يتعاكس كليا والحاضر لهذا يحاول ان يجمل الواقع ويشعره ان الماضي هو الأجمل والأحسن، والأكثر طمأنينة، وأملا، ويدين الحاضر لأنه المسؤول عن ضياع الاحلام والآمال معا، تحت هذا الضغط النفسي ألاسترجاعي،غير القادر على الانمحاء ، قدم القاص (عبد الامير المجر) مجموعته القصصية ، //ما لا يتبقى للنسيان //،احدى عشرة قصة قصيرة، كلها وقفت عند عتبات الاستذكار، محاولة النبش في مستودعات الثنائية الباهرة (الطفولةـــ الشباب )، رسم المجر عند حدودها علامات القصر ، والدلالات الخالية من التشفير ، والإيهام ، واللعب بأسلوبيات اللغة السريعة ، والتي لا تخلو من العبث ، والشعور بالغيرة من النفس العالقة بالماضي، ومحاولات تحسينه ومده بطاقات تعبيرية تلاشت مع تلاشيه ولكنها تحاول الان الظهور ثانية لتوكيد علاماتها بحسب تدرج القص… الاشياء التي يرسمها المجر، أنما هي واقع موجود عبر اثرين مهمين المكان الحي ، والسارد الحي/، يشكل الماضي لدى المجر، هاجسا، موجعا يدفعه الى ان يمارس ادوارا متعددة، لايستطيع معها الانفكاك، ثمة اكثر من مسار يرسم الحقيقة التي كونت وجود القاص نفسه ومن خلال هذا الوجود استطاعت ان تمنح القص بنائيات خالية من ألتجريب واضحة المعالم والانثيال ،ومن خلال هذا الها جس المخيف، // عبد الامير المجر… كائن مليء بالهواجس التي لا تستطيع منحه لحظة استقرار واحدة.. يحاول جاهدا الانتماء او اقناع نفسه بالانتماء الى صورة اجتماعية او سياسية ما ، ولكنه يفشل في الانسياق وراء هذا الانتماء الذي يشعره بالغربة ،ويدفعه الى البحث ثانية وثالثة، قاص لا يرتكز الى مكان لأنه يجد في الامكنة علل لابد من تجاوزها، لهذا يحاول تشكيل الامكنة بحسب ما يرغب ويريد، لا بحسب اللحظة القصصية وحوادثها وثيمها الاساسية والمساعدة // يستحوذ الماضي على كل مديات الوعي المجري ، لهذا يمد القاص السارد خطوطه، ويمعن النظر في اليات عمله، التي لا تخرج عن نطاق رغبات الماضي وحنينه، ثمة توصيف أولي ، وضعه القاص في مقدمة المجموعة، هو الذي يقود المتلقي الى حيث المتون التي انكشفت أو تعمد الكاتب كشف سترها امام متلقية ، الاشارة تقول (كل الاماكن التي سرقت سني عمري مجرد محطات عابرة … وتبقى قرية (الخر الصغير) المكان الوحيد الذي يتنقل بي بينها ويأبى المغادرة) هذا التأسيس اقام حدا فاصلا بين الحاضر الماسك بخيوط الرعب ، والخوف ، وفقدان الحقيقة ، وبين ذاك الصليب الذي يحمله المجر اينما حط به الرحال، صليب يهدر بالحنين الى مواضي بسيطة ، وقد تبدو ساذجة في احايين كثيرة، والسذاجة ليس عيبا، ما دام القاص قد تعمد تزويقها، واعطاءها دفقا من السرد الجمالي القادر على الشد والمواصلة، تعمدت القصة العراقية، منذ بداياتها، ان تأخذ من الجنوب أمكنته، وشخوصه، لكنها ظلت تتعامل مع هذه التوصيفات بفوقية، واستعلاء حتى جيء بأولاد الجنوب ليمتهنوا الكتابة وصناعة القص، عندها فقط تغير الحال، وصار ذاك العالم المدان، المشحون بالغرابة والفقر، عالما أخر يتوافر على سحر غرائبي، وحكي أخر يثير الدهشة والترقب، تمكن الجنوبيون ، من ازاحة الادانات والتوسل، باتجاه المكتشف الفكري والجمالي الجديد، ثمة عالم آخر، مليء بالأسئلة التي تحتاج الى اجابات ترفض التسطيح، وتحتاج الى وعي ملحمي، وعي ينبش بين خفايا السر، وبواعثه، ويمنح المتلقي الغايات التي جعلت الجنوب وشخوصه بهذه القوة التاريخية العظيمة، في //انين الضفدعة،// ياخذنا المجر معه الى أول الخيوط التي يريد منحها هوية البقاء، ثمة الكثير من اللحظات تحتاج الى عمل مخلص ، لكي لا تضيع ادراج الرياح، عمل ابعد من التوثيق التاريخي وأجل منه، في حكايات الجنوب، يغدو التاريخ مجرد شيء مضحك، صور باطلة لا تتوافر على ذلك الفهم الذي يشكل الحقيقة ويسعى اليها، ولو اعتمد المجر، التاريخ ملاذا له لضاعت فرصة التقديس الجمالي ،ولغدت قصصه مجرد توضيحات ماضوية لا فائدة منها، الام التي نراها تدخل ،قبل ان يحل الظلام الى عمق البيت الفقير ، لتؤدي طقوسها الغريبة ، وغير المألوفة لمن لايعرف السر تبدو وكأنها السبيل المؤدي الى السرد، لكن القاص يعتمدها مفتاحا لتصاعدية قصصية تأخذ بالمتلقي الى عوالم اخرى على غاية من ألاختلاف ،الاخوة الثلاثة يؤدون طقوسا خاصة في اللعب، يشعرون مع هذه الطقوس ان العالم مرهون بالماء ومكوناته ، لهذا تبدأ الروح بالانزياح صوب صغار الاسماك وملاعبتها ونقيق الضفادع واعتياديته، ولكن الصورة ما تلبث ان تختلف حين تجد الاخت الصغرى ضفدعا اخضر صغيرا لسوف يشكل فيما بعد المدخل الى فقدان الاخت بمرض يتعمد القاص عدم البوح به والامتناع عن اظهارة، تلك اللحظة الاستذكارية تسحب القاص الى مراجعات اكثر قسوة وهمجية ، وهي لحظات الحرب والقهر الاستبدادي الذي يعيشه البطل ، اللحظة الراهنة المواجهة للموت، تأخذ السارد الى الماضي دائما ، ومن خلال هذا الماضي يدخل القاص الى عالم اخر واستذكار آخر ، البناء الاسترجاعي الذي تجاوز الحد المعقول جعل المتلقي يلهث مجبرا امام هذا الكم الغريب من الاسترجاعات ((تجاوزت القصة حدود المتعارف لتقدم اكثر من خمسة عشر استرجاعا وفي امكنة وأزمنة متعددة وغير متواصلة، القفزات تلك اعطت القصة بعدا نفسيا خارج المألوف ، فثمة عالم مرتبك، خائف على الدوام ، يستمر حتى لحظة ظهور الضفدعة ، التي تصدر انينا تصاحبه نوبات بكاء لام مفجوعة لا تدري ما يضم لها القدر … ويحاول بقصة ((الثمن )) ، ولوج ذات التواريخ الموغلة في النفسية الساردة من خلال محورين مهمين هما، غرابة الموقف الذي يدفع بالشخصية الرئيسية الى اطلاق طائر كان محبوسا في قفص، ومثل هذه الدلالة ، لا تنمح المتلقي استغربا لأنها من الثيم الطبيعية التي تناولتها القصة العربية والعالمية، لكن القاص ومن خلال العود يقدم لنا نموذجا مخالفا ومختلفا، الصبي الذي صار مقاتلا وراح يحلم بالحرية الاعظم ، وهو الذي اندفع امام حلمة الاخير الذي وضعه بين امرين مهمين، اما فقدانه الحرية وتواجده داخل اقفاص السجن او دفع مبلغ الطائر، وكلا الامرين محير وغير قابل للتحقيق، ثمة نوازع نفسية هي التي تأخذ المجر الى وجوه عاشها ايام الحرب واخرى ظلت لصيقة الذاكرة، والغريب ان المجر لا يريد التخلص من هذه الأوجاع بل هو يعمد دائما الى تكرارها بصيغ ومشاهد تبدو للوهلة الاولى وكأنها جديدة، لكن المتلقي ما يلبث ان يشعر بقدمها ، موضوعات المجر، لم تترك مسافة للتجديد، على مستويات السرد… البناء… الشخوص.. الثيم الاساسية ،وتلك التي تساعد في توضيح الغايات والمقاصد، ظلت لحظات طفولته تلاحقه حتى بعد ان جيء به الى العاصمة وأصبح على ماهو عليه، طفولة العدم هي الابقى من كل تلك المزوقات التي لا يرى فيها المجر، ومثله الكثير، شيئا من الادهاش واللذة أنها مجرد مسافات زمنية لا ترسم استذكارات يمكن ان تتحول فيما بعد الى مسرودات قصصية، والأمر الآخر الحرب، بكل آساها ولوعتها، أحزانها، الخوف من لحظة الموت التي قد تحيل كل الاحلام الى مجرد قبر ما يلبث أن ينسى ، ذلك هاجس يصاحب الجميع، لهذا نرى ان قبور الراحلين من بطن الخنادق ماهي الا احلام ترفرف فوق سماء المقابر باحثة عن خلاص، هل يمكن لإنسان سوي ، يدرك خطورة الحياة مثل ما فعله بطل المجر… وماهي الاسباب… احرية طائر تعادل حرية انسان؟ أم تراه هو الحلم، او كمية الاحلام العتيقة الموشومة في قلب المجر وعقله. السؤال يحتاج الى اكثر من إجابة ، والى تفسير نفسي لمكونات المجر العقلية ومكونات شخوصة بكامل هذه ألمجموعة // كان يراها أقفاصا، حاصرت تلك الارواح وضيقتّ عليها، فهربت الاجساد التي جففها الحرمان باتجاه الدروب التي افضت بهم الى اقفاص السجون ــ ص29 //كل شيء بالنسبة للمجر قفصا لا يؤدي الى غير قفص اخر مفتوح على ثالث ورابع، هي دوامة من الاقفاص التي تناشد النفس بأن تعي وتفهم معنى ان يكون الإنسان بل تكون الطبيعة بكاملها حرة لا تقيدها قيود ولا تحاول الاستسلام لأقفاص السجون وعزلتها، ثمن حرية الطائر… ثمن باهظ سرق حريته الشخصية التي مارست عبثها بدراية ومعرفة فدفعت الثمن، ولان التاريخ قصة، يضع المجر على صدر قصته (الاحلاف) ، مفتاحا مأخوذا من كتاب (قصة الحضارة)، يكشف من خلاله الاتجاه الذي يجب أن تسير عليه الثيم المطلوب تقديمها، التاريخ بالنسبة للمتلقي قائم، وواضح للعيان، لكنه بالنسبة للمجر، تنور ملتهب لا تطاله غير يد محترفة عارفة لتقدم ما يمكن ان يمنح المتلقي شيئا من الرضا والامتنان، الكلمة التي تثير البطل هي (الاحلاف ) لهذا نراه يرتجف، ويغضب، حين يجد نفسه واقعة تحت تاثير وجوده كضابط للشرطة في مخفر جنوبي، يستمر القاص في تفكيك الروح الباعثة على القص والاختيار معا،لايمكن للمتلقي ان يجد ثمة جدوى لاختيار بطل لايتوافر على الاثارة مثل بطل الأحلاف ، هادئ ، غير قادر على انتاج لحظات المواجهة الحقيقية، تراكمي الاستذكارات ، وهذه الاستذكارات هي التي تسيّر وجوده كله، الحاضر والقراءات التي تفرض حضورها عليه وفلسفة الماضي الذي لايوحي بغير البساطة ونمط فارغ من السذاجة وعدم الاكتراث، الحركة الاولى كشفت اللعبة كلها، الضابط غير المتفق وحضوره واقتتال العشائر بأحلاف، ذكرته او هي قادته الى احلاف اخرى اشد خطورة والقصة تريد ان تكشف ان الدنيا شيء واحد، شيء فاعل هو الحلف الذي يشيد القوة ويفسدها ايضا، لهذا تعود كلمة الاحلاف دائما بالقاص الى اوهام قريته ورغبة أمه بان يكون مدرسا، ورغبة الاب بان يكون ضابطا في الشرطة لا لشيء سوى ان ينظرن اليه البنات الحلوات كما يقول، تخلو هذه القصة من الق داخلي، لانها اعتمدت ثيما بسيطة عولجت بلغة بسيطة اقرب الى الحكي اليومي منها الى لغة القص التي تشد المتلقي اليها وتمنحه فرصة للتذوق والاندماج، ما الذي يريد عبد الامير المجر ان يقدمه من خلال هذه القصة… ما الذي يمكن ان يقال والاعتيادية سيطرت على البناء القصصي كاملا، وهي مثل سابقاتها محشوة بالاستذكارات التي اقحمت احيانا ولايمكن ان يشكل وجودها او عدمه هاجسا إرباكيا ثمة تحولات ترغب بان تعطي الشخصية أرثا لكنه ارث لا يحفز الذاكرة ولا يعطيها توهجا، ولا يمنحها الثيمة الادهاشية العليا، في الاحلاف ليس ثمة من ادهاش، بل مجموعة فجوات كان على القاص ان يردمها متحاشيا هذا الحشو الذي اسهم في تفكيك القصة وإضعافها،وجعلها اقرب الى التحقيق الصحفي الاستقصائي منها الى قصة قصيرة محكمة ، ارقب التغيرات التي اريد معرفتها والكشف عنها من خلال قصص هذه المجموعة، ولكني كلما توغلت عميقا في تفحصها وتفكيك مساراتها وجدت ان المجر تعمد في ان يأخذ نسيجا بنائيا واحدا، وهذا النسيج جعله يعتمد مرموزات وتأويلات واحدة على مساحة القص كله، ليس ثمة من مغايرة، والنموذج المأزوم المتابع سرديا انما هو القاص نفسه وهذا ما يبدو واضحا في قصة (مسألة خلود ) التي يحاول ساردها الجمع بين مجموعة مؤثرات وجدانية في كاملها استرجاعيةــ الشارع البغدادي… عبد السلام عارف … المقهى.. علوّ مكناسة،،، وعباس حكةّ، ليكتشف المتلقي في ما بعد أن اللعبة تكمن في العرض فقط لافي تقديم الحكاية وماهياتها، هذا هو عبد الامير المجر، يحاول أن لا يبقي شيئا للنسيان، لهذا اهمل اللغة بتولداتها الكبيرة، ليداخل الزمن، يعتقد ان المشهد الكلي الذي يتوافر عليه محكم وغير سائب، ولكي اضع المتلقي امام واحدة من اهم قصص المجموعة برغم استنادها على ذات الاستذكارات، لكنها قدمت موضوعا مغايرا يكشف عن مخيلة جميلة غارت عميقا في النوازع النفسية لأبطال القص وهو من الاطفال الذي وجدوا انفسهم يقلدون قادة عرفوا بالقتل والتدمير في لحظات حرجة وضعت عوائل هؤلاء الاولاد في مأزق وعزلة، في هذه القصة علاقات متشابكة وصور مبهرة تظهر وتختفي بحرفية عالية لتصل في خاتمتها الى الذي يريده القاص، وارادة القاص هنا ذات قصدية سياسية بعد أن وجد نفسه لايستطيع الفرار من ازمة السياسة وجرائمها التي لا تغتفر. بكل بساطة.
اقول لكم أن القاص عبد الامير المجر، غادر في هذه المجموعة عــــــالم القصة ليقدم لنا نماذج استطلاعية خلت في احايين كثيــــــرة من القص وتوابعه وانتمت الى العمود الصحفي المحكي وهذه خسارة كبيرة للقصة العراقية، التي كانت ترقب من المجــــر قصصا اكثر تطورا وفنـــــية وهو الذي يتوافر على تجارب مهمة يستطيع من خلالها تقديم ما يرسخه قاصا مبدعا ومبتكرا.



















