ماركيز صامتاً **

ماركيز صامتاً **
عوّاد ناصر
غابرييل غارسيا ماركيز الحكاء العبقري وراوي حياتنا، وإن رواها من بعيد، فقرية ماكوندو هي قريتنا الأممية، وشخصياتها هم أبناء الحارة الكونية التي نعيش، وفي السرد تألق الحكاية لتبلغ مشارف التاريخ الخاص لكل منا، وما أن تطير روميديوس في البعيد لتتخلص من تهم العائلة وما جاورها من تقاليد، وماركيز الكولومبي، صديق كاسترو أيضاً، وله في صداقته شؤون، وكان همنغواي أيضاً صديق كاسترو، غير أن ما يجمع بين الثلاثة هو الإبداع وبعض السياسة، فالرئيس الكوبي المتمسك بكريسه إلى الأبد، كان قارئاً جيداً يتمسك بالكتاب إلى الأبد، وصديقه الحميم أرنستو غيفارا كان كاتب مذكرات من طراز خاص، أيضاً.
ما الذي يجمع بين الإبداع والسياسة؟
ثمة أواصر كثيرة بينهما، وإن كان أحدهما يطيح الآخر، في أغلب الأحيان، فإنهما يغذيان أحدهما الآخر في أحيان كثيرة. قد تجمع الآيديولوجيا بين كاتب وحاكم، لكن همنغواي لم يكن شيوعياً، والسؤال مفتوح والقفل عند كاسترو
لكن ماركيز وهمنغواي، على اختلافهما وتفرد كل منهما بتجربته الخاصة في الكتابة، لم يكونا متملقين ولم يحضيا بمكرمات دكتاتور هافانا، ولم يجمع بين الثلاثة ما يجمع عادة بين الدكتاتور وماسحي الجوخ، كما عندنا نحن العراقيين والعرب.
ماركيز دخل مرحلة الخرف، أخيراً، للأسف، كما صرح خيمي أصغر أخوة ماركيز، الذي قال إن أخاه الأكبر، الفائز بنوبل، يعاني من مشكلات في الذاكرة وإنه يسأل، هاتفياً، عن أشياء بديهية جداً .
في نهاية الأمر، توقف ماركيز عن الكتابة وبتوقفه يتوقف العالم عن الاستمتاع بما كان يرويه.
صحيح أن ماركيز صاحب شركة انتاج سينمائي، أي أنه عضو في نادي رجال الأعمال، لكنه رجل أعمال قدم أجمل ما يمكن لمستهلكيه في الرواية والقصة والسينما، وكان من نوع رجال الأعمال الشرفاء إلى أبعد الحدود، وكتب عن عمله في كيف تحكي حكاية عن الكتابة الجماعية للعمل السينمائي مع شركائه وهو كتاب من بين أجمل الكتب التي تكشف الكتابة الجماعية للقصة» السيناريو.
يؤسف إن صاحب قصة موت معلن و مئة عام من العزلة و خريف البطريرك وغيرها من روائع ما كتب قد توقف عن الكتابة، وهذا يعني أننا لن نستمتع بكشوفاته وفكاهاته ومشاهده الحميمة في العائلة والجنس والحب والسفر وتاريخ الأبطال القوميين كما كتب عن خريف البطريرك ليصوره في منتهى ضعفه الإنساني ويزيل عنه الهالة الأسطورية التي يسبغها الناس، عادة، على أبطالهم التراجيديين.
ماركيز الذي تخطى الأشكال التقليدية للواقعية، كما ألفناها في الرواية العالمية، منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم، ليرتبط اسمه بالواقعية السحرية ويغمرنا بروح الفانتازيا من دون أن يغادر الواقع، أو يكتب بواقعية مشبعة بفنتازيا مقنعة وممتعة وضعت النقد المعاصر أمام أسئلة جديدة بشأن قوانين السرد واختراقاته وسحره الجديد.
يتنبأ ماركيز بما بعد تسعيناته فيقول تذكرت يوم إكمالي تسعين سنة، كالعادة، في الخامسة صباحا. وكان التزامي الوحيد، لأن اليوم جمعة، هو كتابة عمودي الصحفي الذي يحمل توقيعي، وينشر أيام الآحاد في ريو دي لا باث . كان يمكن لأعراض الفجر أن تكون ملائمة تماما لانعدام السعادة فقد كانت تؤلمني عظامي منذ الصباح الباكر، وهناك حرقة في شرجي، وكان هناك رعد عاصفة، بعد ثلاثة شهور من الجفاف. استحممت فيما كانت القهوة تسخن، تناولت فنجانا محلى بعسل النحل، ومعه قرصان من الكاثابيه، ولبست أفرهولي البيتي الكتاني الفضفاض .
للأسف، أن يغادرنا هذا الحكاء الاستثنائي ويختار أرجوحة الأيام الأخيرة للسرد السحري الذي شغفنا به سنين عدداً، ليستيقظ العالم بلا غابرييل غارسيا ماركيز.. صديقنا الحميم.
/7/2012 Issue 4253 – Date 17 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4253 التاريخ 17»7»2012
AZP09

مشاركة