عبد الله نبيل
عند كل زاوية في العراق، يكشف المكان عن جرحٍ غائر لا تلتئم أطرافه. المكان هنا ليس مجرد مساحة مادية؛ إنه الذاكرة، الشاهد، وهو الحُكم الذي يُعلن سقوط الإنسان حين يهجر الإنسان ذاته. المدن العراقية، بما تحمله من تاريخ طويل كان يومًا مصدر فخر للبشرية، تبدو اليوم كجسدٍ مُنهك يحمل ندوب الإهمال والتجاهل، يئن تحت عبء منسياته.
الطرق شرايين المدن، أصبحت متاهات من الخراب. تتداخل فيها الحفر التي لا تُصلح، والقمامة التي تتراكم كطبقات من الخيبة، حتى أصبحت جزءًا من المشهد العام. لا أحد يتوقف ليسأل: لماذا تحول الشارع إلى مستنقعٍ صغير مع كل هطول للمطر؟ أو كيف تتحول الأرصفة إلى مكبّاتٍ للنفايات أمام أعين الجميع؟ الجواب واضح بقدر ما هو موجع: لقد اعتاد الناس البؤس، حتى صار جزءًا من نسيج حياتهم اليومية.
في الأسواق، حيث يجب أن تكون الحياة صاخبة ومبهجة، تختلط الروائح النتنة بالنظرات الخافتة. الفواكه والخضروات المعروضة تتراكم بجانب أكياس النفايات، في مشهد يُظهر انعدام الحدود بين الضروري وغير المقبول. تُسمَع أصوات الباعة تعلو في الخلفية، لكن هذه الأصوات لا تتحدث عن حيوية الحياة، بل عن صراع البقاء. الأرض تحت الأقدام متسخة، الألوان باهتة، وكل شيء هنا يعبّر عن اضطرابٍ أعمق من مجرد إهمالٍ في تنظيف المكان.
المباني المتهالكة، بجدرانها المتشققة وألوانها الممسوحة، تحكي قصة جيلٍ كامِل نسيه العالم. على هذه الجدران، يمتزج العفن مع ذكريات لم تعد تحمل أي معنى. كان يمكن لهذه الجدران أن تحمل لوحات جميلة، إعلانات لمشاريعٍ تنبض بالحياة، أو حتى صورًا لتاريخ المكان، لكنها اليوم تحمل فقط الكتابات العشوائية، وبعض الشعارات السياسية التي فقدت صدقها منذ وقت طويل.
في الأحياء الفقيرة، تتضح المأساة بأقصى صورها. الأطفال يلعبون وسط القمامة، براءة ضائعة وسط بيئة تُعلّمهم منذ نعومة أظافرهم أن الحياة قاسية، والكرامة حلم بعيد المنال. الأمهات يجلن بين الأبواب المغلقة بحثًا عن ماء صالح للشرب، بينما تتسرب المجاري المكشوفة أمام منازلهم، وتُطلق روائحها لتطغى على أي شعور بالأمان أو الراحة.
الحياة الليلية، التي تُعتبر في أي مكان آخر انعكاسًا لنشاط الإنسان وروحه، تبدو هنا وكأنها لحظة صمت مطبق. الإنارة في الشوارع إما معطلة أو خافتة بالكاد تقاوم الظلام. يصبح الليل صورة مجازية لوضع الوطن: غارق في ظلمة لا تُضاء إلا ببصيص أمل خافت، مثل مصباح يوشك أن ينطفئ.
لكن هذا البؤس المادي للمكان لا ينفصل عن بؤسٍ معنوي أعمق. كل زاوية مُهملة، وكل شارع متهالك، وكل مبنى متصدع يعكس انهيارًا أعمق في قيم الاهتمام والمسؤولية. الدولة هنا ليست مجرد غائبة عن واجبها، بل تكاد تكون جزءًا من هذا الخراب. كيف يمكن لبلدٍ غني بموارده أن يقف عاجزًا عن إصلاح أبسط ضروريات العيش؟ كيف يُترك المكان، وهو ذاكرة الناس وهويتهم، ليصبح صورة للخراب ذاته؟
وفي وسط هذا المشهد، هناك السؤال الأكبر: ماذا عن الإنسان؟ أليس هو المسؤول الأول عن المكان الذي يعيش فيه؟ لماذا يقف الكثيرون موقف المتفرج، وكأن القمامة والحفر والخراب لا تخصهم؟ هل أنهكهم الزمن، أم أن المآسي المتتالية جعلتهم يتوقفون عن الإيمان بإمكانية التغيير؟
بعض الأحياء تحمل رموزًا صغيرة لمحاولات يائسة للتغيير. أشخاص يزرعون وردة في حديقة مدمّرة، أو يُنظفون شارعهم بأيديهم في غياب الدولة. لكنها محاولات فردية تشبه صرخة في وادٍ سحيق. الأمل في التغيير يبدو ضئيلاً، لكنه موجود، لأن العراق، رغم كل شيء، كان دائمًا مكانًا للنهضة من تحت الرماد.
الواقع العراقي اليوم ليس مجرد قصة مكان متسخ؛ إنه شهادة على الإهمال، ليس فقط من الدولة، بل من مجتمع بأسره. المكان هنا، بما يحمله من تفاصيل مؤلمة، يصرخ صرخة لا يسمعها إلا من بقيت في قلبه ذرة من حب الوطن. لكن هل تكفي هذه الذرات لإعادة العراق إلى مجده؟ أم أن الخراب سيبقى شاهدًا أبدياً على جيل ضاع في زحمة الإهمال والتردي؟