ليلة القبض على جلّوب

ليلة القبض على جلّوب

منهل الهاشمي

 جلّوب. شاب ثلاثيني معدم الحال والمال والجمال والعقل والحظ سويةً. يوم وِلِدَ سمتّه امه بهذا الاسم درءاً للحسد , لانه كان قد توفي لها قبله ثلاثة اولاد بالتعاقب. لكنها حينما رأت حظه العاثر هذا من الدنيا , وأنّه من الناس الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي أَنْ قضى حياته (من الصبر للكبر !!) هزّت راسها اسفا وحيرة وتنهدت متحسرة وهي تقول : (بلّله لو مسمّيته رامي لو فادي وميّت مو جان احسن له واحسن لي الف مرّة ؟!!). وهو لم يكن له ايضا حظ من التعليم فبسبب عبقريته المفرطة كان قد رسب في الصف الخامس الابتدائي لثلاث سنين متلاحقة , وكانت المرة الوحيدة التي تفوق فيها على نفسه (على حد تعبير احد معلميه) حينما اخذ اعلى درجة بالامتحان وهي 20 من 100 !!!. بل وصل به الحال من الغباء انه كان حينما يعجز عن كتابة اسمه كان يرسم بدله كلبا صغيرا للدلالة عليه على طريقة الكتابة (الهيروغليفية) الصورية . وفي احد الايام حينما ساله معلم التاريخ : (مَن الذي بنى مدينة بغداد ؟) اجابه دون تردد : (ابو ساطع الخَلفة.. استاد !!!). فاصيب المعلم بجلطة دماغية في الحال رافقها شلل في الاطراف الرباعية !!. والحق ان هذا المعلم المسكين ليس باول ضحية له وما هو بآخرها , فقد سبقه ولحقه العشرات من المعلمين ممّن تساقطوا الواحد تلو الآخر تساقط اوراق الخريف !!. الامر الذي كاد يودي بحدوث كارثة تعليمية وطنية وقومية !!. فما كان من مدرسته الا ان كتبت بخصوصه الى مديرية التربية العائدة لها والتي رفعته الاخيرة بدورها الى وزارة التربية لتنظر بامر هذا الطفل المعجزة وحيد وفريد عصره وزمانه !!.

  وبعد ان شُكلت اللجان, لِجان وطنية عليا تُشرف على هذه اللجان !!. فقد اقترح احد اعضائها على زملائه رفع هذه القضية الى منظمة الطفولة الدولية (اليونيسيف) للنظر فيها لان الوزارة لا قِبَلَ لها بها ولتحمّل المسؤولية لوحدها , وعلى اعتبار أَنّ جلوب بات يمثل ظاهرة تهدد الوجود التعليمي العالمي !!. الا أَنّ رئيس اللجنة الوطنية العليا رفض ذلك بأَن (همّشَ) على الطلب فكتب (لنحلَّ قضية جلّوب محليا ولا داعي لتدويلها !!). في النهاية وبعد عدة اجتماعات ومداولات اصدرت هذه اللجنة الوطنية من كبار الخبراء التعليميين والتربويين القرار الآتي : (نظراً لغباء الطالب ” جلّوب مزهر” العظيم المستديم, ولكونه اودى لغاية الآن باكثر من اربعين ضحية من المعلمين ما بين وفاة وشلل وجنون وخَرَف مبكر , لذا قررت وزارة التربية فصله ومنعه من التعلم في جميع المدارس التابعة للوزارة الحكومية منها والاهلية , بعد ان اثبت علميا وعمليا بأنَّ للذكاء حدود , لكن الغباء لا حدود له !!!).

  وهكذا ولكون جلّوب الابن البكر (العود) لشقيقتيه اللتان تزوجتا لاحقا وهو المعيل الوحيد للعائلة بعد يتمه المبكر فقد قضى طيلة سنين حياته متنقلا من عمل لآخر , حيث لم يعمّر في عمل واحد لاكثر من يومين نتيجة لغبائه المستعصي !!. ولَم يبقَ هناك من مهنة الا واشتغلها وطُرد منها , صانع (فيترجي) , منظّف , (عمّالة) , (جايجي) , كاسب على بسطة …..الخ. وكان اينما يتجه ببصره يرى حياته (سودة مصخّمة !!). وبعد ان آيس تماما من حياته السوداء المعتمة وحالة الفاقة والعَوَز والحرمان التي يعانيها منذ فتح عينيه على الحياة فاخبر احد جيرانه بعد ان حكى له كل ذلك في جلسة اعتراف وديّة بانه قد عزِمَ على الانتحار كحل اخير للخلاص من عذاباته ومعاناته الازلية. ولسوء حظه المعتاد فقد صادف أَنْ كان جاره هذا ارهابيا من دون ان يعلم به جلوب !!. وحينما عَلِم الاخير بحالته الماساوية المزرية والفقر والحرمان والحاجة التي يعانيها , وجدها فرصة ذهبية لا تعوض لان يغرر به ويضلّله كي يجنّده في التنظيم الارهابي مقابل اغرائه بالمال. فاخبره انه بدل ان ينتحر ويذهب لجهنم كافرا لِمَ لا يعمل معهم (كمجاهد) مقابل الحصول على مبالغ مجزية وبذلك فانه سيحصل على المال ورضا الله سوية , وإذا شاء الله وقدّر واستشهد في احدى عملياته الجهادية فان التنظيم سيتكفل بوالدته من بعده , ناهيك عن انه سيذهب للجنة وسيتمتع هناك بما لذَّ وطاب وبالحور العين !!. فسأله جلّوب بذكائه المعهود مستغربا ولعابه يسيل : (وهناك اكو حتى الفلافل؟!!). فاجابه الارهابي هازئا بعد ان تاكد له مدى عبقريته : (مو بس فلافل راح تلكة حتى   مشكّل !!). ثم شرح الارهابي له ما المطلوب منه. واخيرا فهم جلوب المطلوب رغم ان الاول لم يكرر عليه ذلك سوى مرتين … بعد الالف !!.

 اخذه الارهابي وقدّمه لـ(الامير) الذي قابله على انفراد لغرض التعرف عليه وعلى قدراته التي ممكن ان ينفعهم بها !!. انتهت المقابلة بعد ساعة , فدخل الارهابي على الامير بعد خروج جلوب وسأله مستفسرا : (ها يا مولاي الامير شنو رايك بي ؟). فاجابه مغتاظا منفعلا : (ولك هذا بقّى بيّة امير؟!..هذا كلبني حمير !!.. هذا وين لكيته .. بيا طركاعة ؟!!.. ما عنده ذرّة عقل !!). اجابه الاول : (مولاي الامير هو لو عنده ذرّة عقل ما جان يشتغل ويانة !!). في النهاية اقتنع الامير بما قال صاحبه وقرر ضمّه للتنظيم.

 احتضنه التنظيم وبقوا لشهور يعملون له غسيل لما ظنوه دماغا عنده !!. اخيرا وبعد كل ذلك التلقين والتدريب جاءت اللحظة المناسبة ليكلفوه باول عملية ارهابية له , والتي لم يقتصر دوره فيها سوى زرع عبوة في احدى الطرق التي سيمر منها احد المسؤولين الكبار ليفجرها عليه لحظة مروره. ووقتها حينما كلفه جاره الارهابي بزرع العبوة , سأله جلوب مستفهما : (انتو حضرتوا كلشي , البذور والسماد, والكاع.. خوما صبخة ؟!!!). تماسك الارهابي اعصابه في اللحظة الاخيرة قبل ان يفجر راسه بضربه بالعبوة !!. وافهمه بعد جهد جهيد وصبر عتيد إِنَّ زرع العبوة يعني وضعها , لا زرعها وسقايتها ورعايتها حتى تغدو شجرة عبوات  مثمرة . وانه سيحصل مقابل ذلك على مبلغ محترم هو (25)  الف دينار !!. لكن جلوب رفض هذا المبلغ واصرَّ اصرارا شديدا على زيادته , فكان له ما اراد من الزيادة التي طالب بها , فقد اصبح المبلغ بعد الزيادة (25) الف و(ربع) !!. يعني زيادة (250) دينار فقط !!!. وحينما سأله الارهابي عن سر اصراره وتمسكه الغريب بزيادة المبلغ (ربع) ؟!!. اجابه جلوب بذكائه المعهود ونظرته المستقبلية الستراتيجية الثاقبة : (مو احتاج خردة مال كروة الكيا من ارجع من المهمة !!!).

في النهاية وبعد ان خصص له (الامير) الكثير من المساعدين لغرض انجازه هذه المهمة … المهمة , وهم خمسة (يحفظونه) وعشرة (يفهمونة) !!!. انجز جلوب ما طُلِبَ منه. لكن شاء القدر ان ينجوا هذا المسؤول المهم والكبير جدا ولم يصب باي اذى بعد ان انفجرت العبوة بعد اجتيازها. فورا اتخذت الاجهزة الامنية والاستخبارات اجراءاتها بالبحث والتقصي والتحري نظرا لخطورة المسؤول المستهدف واستجوبت المشتبه بهم جميعا. وسرعان ما القت القبض على جاره ذلك الارهابي الذي جنّده  فاعترف بدوره فورا على جلوب ليسقيه من نفس كأس العذاب والمرار والضيم العلقم الذي سقاهم إياه عند محاولتهم افهامه بالمهمة !!.   في تمام الساعة الواحدة ليلا طوقت قوة عسكرية كبيرة من جهاز مكافحة الارهاب منزل جلوب. ونادى آمر المفرزة على طريقة الافلام المصرية المعتادة : (سَلّمْ نفسك جلوب ولتحاول تنهزم لان البيت كلّه محاصر). لكن جلوب المرعوب المنكوب المتعوب بقي يركض جيئة وذهابا هلعا قلقا داخل البيت لا يدري ما يفعل , وسط صراخ وعويل ونحيب والدته المسكينة. وهنا اقتحمت القوة البيت والقت القبض على جلوب حينما هَمَّ بالقفز من نافذة الغرفة العلوية. فوبخه وعنّفه آمر المفرزة بقوة قائلا : (ولك ليش هيجي جلوب… ليش تبيع ضميرك ؟!). اجابه جلوب وهو يحاول التملص من قيوده ويصرخ مرعوبا مستعطفا ومتوسلا : (عوفوني والله العظيم ما بعت ضميري ولا بعت كُلشي بالبيت , بس زرعت عبوة واخذت هالقاسمة الله !!!).

  فسأله الآمر ثانيةً بفضول شديد : (ولك آني بس اريد اعرف شي واحد وبس , اشمعنة العبوة انفجرت ورة ما عبرهة المسؤول بخمس دقايق ؟!!). فاجابه جلوب بذل وانكسار : (ها !!… مو خليتلهة جهاز حماية!!!!).

مشاركة