ليسَ هذا زمنك يا كيلاني ولا هذا زمنُ الشعر!

ليسَ هذا زمنك يا كيلاني ولا هذا زمنُ الشعر!

عبدالكريم يحيى الزيباري

الفنون أصلها الموسيقى الداخلية للإنسان الشَّاعر، وما زالت كلُّ الفنون تطمح وتصبو إلى شرط الموسيقى الشعرية الداخلية للكلمات الباهرة، فإذا مدحنا فيلما سينمائيا أو أغنية أو رواية، نقول: هذه قصيدة! وذكرَ ابن رشيق في العمدة (علموا أولادكم الشعر، فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل). هذا شعرهم وتلكَ حياتهم وسنا شعرنا الذي يُعبِّر عن حياتنا ويجعلها أجمل وأفضل، وما زالت حاجتنا للشعر كحاجة ليلٍ كموج البحر للنجوم.

قصائد الكيلاني تجربة لغوية جمالية للقارئ، تحاول إعادة الكلمات إلى منبعها العذري، حيث لا أحد نطقها من قبل بجملٍ قصيرة مُكثَّفة مترسِّبَة متحرِّكة مؤجَّلة المَعنى دوماً. تجربة هي الأقل تكلفة والأكثر بساطة وذكاءً وشعرية لقارئٍ يشركه في العزوف عن الكلمات والجمل والتركيبات والموضوعات التقليدية، لينطلق في أجواء حداثية تعتمدُ لغةً جديدة مناحٍ جديدة لحياةٍ جديدة، هي عينها لغة الشارع الاعتيادية من حيث مادتها الأولية، وهي الكلمات، وأيُّ معنىً لحياتنا بغير هذه الكلمات؟ والكيلاني إذْ يُفَعِّلُ الكلمات، يُفعِّلُ لغة الحياة الحقيقية ويعيد لنا كلَّ ما نفتقده من مشاعر حقيقية وعميقة، مشاعر الدهشة إزاء مفردات وتفاصيل حياتنا اليومية التي ربما نراها تافهة أو قد لا ننتبه إليها.

قرعَ أبواب الشعر في السادسة عشرَ من عمرهِ، وهو لا يعلم من حقيقته غير مدائح المتنبي ومعلقة امرئ القيس وطرفة وعنترة، كان لا يعلم ما يعلمه اليوم بعد أربعة عقود من الممارسة الشعرية، والخبرة المتراكمة لسنوات طويلة ومريرة مرت منذ نشرَ أول قصائده بإهداء إلى ذنون الأطرقجي جريدة الحدباء الموصلية سنة 1985? وكانت قصيدة جماعيةً مشتركة مع عمر حماد هلال والمرحوم سعد زغلول والمرحوم حامد مصطفى خلف، وهي قصيدة عتاب بسبب رفض نشر قصائدهم:

ارْفِقْ بنا أُستاذنا ذنون

  نحن الشباب وشعرنا مسجون

قد قلت يفرج عنه بعد هنيهة

    فمضى عليه في الملف سنين

الأطرقجي نشرَ القصيدة، ورفعَ الحظر عن قصائد الشباب. قبل ذلك كان الكيلاني تلميذاً للشيخ فيضي الفيضي رحمه الله، أخذَ بيده وشَجَّعه وكلَّف أحد الأساتذة بتعليمه علم العروض من كتاب (ميزان الذهب في صناعة شعر العرب). وظلَّ مسكوناً بالشعر لا يعرف غيره وسافرَ إلى المربد والتقى بكبار الشعراء قباني ومحمد عفيفي مطر والهادي آدم ولا يحمل هَمَّاً غير الشعر وأخبار قدماء الشعراء من كتب الأدب وكبار الشعراء من أصدقائه.

?هل ولَّى زمن الشعر والشعراء؟ هل نُسلِّم آخر قلاعنا الثقافية الحصينة دونما مقاومة؟ الشاعر وحده في الميدان يقاوم، والكيلاني الحزين مَشَّاء الطرقات، يتمشَّى كدرويش بين كلمات هوميروس والمتنبي وشكسبير، يمشي ويتعثر كنادلِ مُتدرّب في حفلة ملكية، يتسلل إلى غرف أدونيس بِخِفَّة وغرابة سلفادور دالي، يحاول كالماغوط أنْ يكون شاعراً في القصيدة وخارجها، فالشعر موقفٌ من الحياة، وإحساسٌ ينسابُ في سلوكه. والشِّعرُ كالهواء يحيط بنا في كل مكان، لكن اصطياده بكلمات ليس سهلاً.

لماذا انحسرَ عدد قراء الشعر؟ كم عدد طبعات ديوانٍ لأشهر الشعراء؟ لماذا نخجل من حقيقة لا أحد ينكرها في نفسه؟ أ ليست السَّاحة قد امتلأت بالطارئين على الشِّعر؟ مَنْ يجرؤ على قول: “هذا ليس شعراً” لأحد الطارئين؟ ولا أحد يجهل حقيقة الكثير من الشعراء، يستمدون شعريتهم من ونفوذهم وكراسيهم الثقافية والأحزاب والسلطة، من علاقاتهم وبذلهم ماء وجوههم من أجل دقائق ضائعة على منصة أحد المهرجانات، لكنَّه الكيلاني آثر الابتعاد في صومعته، يكتب وينشر كأنَّما لنفسه وعددٍ قليل من القراء! لكنه الكيلاني كطفلٍ شاحبٍ غريب ضائع، مثل الغريق بما لقي يتعلَّقُ بأهداب النجوم، ويندبُ حَظَّ الصمت الطالع من الآمال الكبيرة، تنزف أوردته كَطائِرٍ قُصَّ جناحاهُ، ليحلِّق في حبر الرغبة في الصمت الصارخ، حول المرايا الداكنة لمدنٍ بعيدة، لاهثة على حافة الحُلُم.شاعر الأنثى يقشعُ غياهب الحب عن القلوب المُشرَّدة، و(للحب سَكراتٌ أيضاً/ ونهاياتْ/ وأنهارٌ من رحيل/ للحب جسدٌ يذبل كأوراق الخريف/ ومصباحٌ تكسره حجارة الأرصفة/ وللحب قبرٌ من نسيان ومهاوٍ من مسافات/ ظمآن بوحي/ يسوق أنيني/ كالطفل الموشوم/ بآلاء التيه/ يتشظى سراً خلف مرايا القلق المشبوب/ بقافية خجلى/ الشجن الملقى في قارعة التاريخ/ الآه المحفوف بأشكال الريح).

مشاركة